رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


د. عبد الحميد مدكور يكتب التكوين: لمحات من الذكريات

9-9-2025 | 10:53


د. عبدالحميد مدكور

عندما انتخبت عضوا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة  عام ألفين وثلاثة كان عليَّ أن ألقى كلمة في جلسة الاستقبال  التي يقيمها المجمع لأعضائه الجدد، وجرى العرف المستقر على أن تتضمن هذه الكلمة عدة عناصر، منها:

حديث عن العالم الذى سأحل محلَّه، بعد انتقاله إلى رحاب ربه، وهو العالم الجليل: أ.د / محمد رشاد الطوبى، الذى كان أستاذا كبيرا بكلية العلوم، جامعة القاهرة، ومنها كلمة تتعلق بالشخص المحتفى به، ببيان شيء من سيرته العلمية والفكرية التي أهلته ليكون عضوا- بالانتخابات – في هذا المجمع العريق، مع إشارة إلى ما يرجو أن يحققه من خدمة للغة العربية الشريفة، وما تحمله من ثقافة، وما تتطلبه من جهد؛ لإثبات عراقتها وجدارتها؛ بوصفها لسان حضارتنا، ووعاء تراثنا، وعنوان أصالتنا، ومرآة حياتنا العقلية والفكرية والاجتماعية، وهى – لهذا كله- تحتاج من كل من يعرفون قدرها أن يبذلوا كل ما يستطيعون لتثبيت مكانتها، وتزويدها بكل عناصر الحيوية والقوة يتخطى كل العقبات التي تواجهها، من داخل المجتمعات العربية ومن خارجها، وهذا كله يدخل في مهام مجمع اللغة العربية، التي نذر المجمع نفسه للقيام بها، منذ إنشائه بمرسوم ملكى أصدره الملك فؤاد في عام 1932 للميلاد.

وقد احتشدت للقيام لمهمة الحديث عن أ.د/ الطوبى، وذهبت إلى كلية العلوم، ودخلت إلى مكتبه، وجمعت كل ما تيسر لى من مؤلفاته المطبوعة، واستخلصت أهم محاورها من كتبه المؤلفة والمترجمة، واجتمع لى من ذلك كله صورة زاهية لشخصية علمية فائقة في مجال تخصصها، ثم أضافت إلى ذلك جهودا بارزة في تبسيط المعارف العلمية، وكان من أبرز خصائصه أنه كان ضمن مجموعة من علماء كلية العلوم الذين ألفوا باللغة العربية في مواد كلية العلوم التخصصية، وحرصوا على التدريس بها، في التشريح والأجنة والوراثة والأنسجة والكيميا الحيوية والحشرات والطفيليات وغيرها، وأنشأ هؤلاء العلماء مجلة علمية تناقش قضية التعريب، وتدعو إلى العناية باللغة العربية، وبالتدريس بها، وبالترجمة إليها لإغناء محتواها، وتزويدها بالمصطلحات والمكتشفات العلمية، كى تتحول اللغة العربية إلى أن تكون لغة علم، ولغة حياة، وأن تستعيد روح الازدهار التي كانت لها، عندما كانت لغة العلم الأولى في العالم كله مدة لا تقل عن خمسة قرون.

وكان علىَّ – بعد ذلك – أن أقدم نفسى إلى هؤلاء العلماء الكبار1 الذين شرفت بزمالتهم، باختيارهم الكريم لى ولكننى لم أنشط لهذا الأمر كما نشطت للأمر الأول، وقلت: وإذا كان من تمام الحديث أن أقول كلمات "فإنها كليمات قصار تحاذر أن تقع في مهواة الحديث عن النفس، وهو منزلق خطر، يوشك أن يكون فخرا أو عجبا، وكلاهما مما لا يليق بطلاب العلم، الذى يسعون إلى التخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، وقد نهى الله تعالى عن تزكية النفس في مثل قوله الكريم: "هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض، وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم، فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى" (النجم : 32) ثم قلت فلنتجاوز ذلك إلى ما أرجو أن أكون قد تعلمته على أيدى الذين تلمذت لهم منذ بداية عهد الطلب، في كتاب شيخى الحافظ المتقن، الشيخ: فرج عبدالعاطى، إلى شيوخى وأساتذتى في معهد القاهرة الدينى الأزهرى إلى العلماء الأجلاء في كليتى العريقة العزيزة دار العلوم..."

وقد قلت هذا الكلام منذ أكثر من عشرين عاما (2003)، ومازلت حريصا عليه، لأن الحديث عن النفس مسألة تخص صاحبها، وهى تميل في كثير من الأحيان- إلى مجاملة النفس، وقد تدفع إلى رواية غير حقيقية للأحداث والوقائع او تحجب جزءا من عناصرها، أو إلى المبالغة في جزء آخر منها، وقد تكون هذه الأحداث مختصة بجوانب ذاتية لا يفيد القارئ منها شيئا، وكم رأينا وقرأنا صياغات مختلفة أو متضاربة لحدث واحد على نحو يجعل القارئ في حيرة من أمره تجاهها، وقد يكون من بواعث الاقتناع بهذا الرأي أننا لا نقدم هنا سيرة مكتملة، بل إنها مجرد لمحات من ذكريات ، فليكن شاغلنا في تقديمها أن تتضمن شيئا له صفة العموم، حتى وإن بدا فرديا، وأرجو أن أوفق في الالتزام بهذا المسلك ، فيما سأقدمه للقارئ الكريم.

 وستكون البداية من القرية التي ولدت فيها، وهى قرية باسوس التابعة لمركز القناطر الخيرية، بمحافظة القليوبية، وهى قرية ذات تاريخ عريق، ويدل على هذه العراقة ما تحدث به عنها، على باشا مبارك في موسوعته الكبرى: الخطط التوفيقية تحت اسم بيسوس.2، وهو الاسم القديم لباسوس، وقد قال عنها إنها إحدى قرى القليوبية، بالقرب من شبرا الخيمة، على بعد ساعة منها، وأورد في الحديث عنها ما ذكره السخاوى في كتابه، "الضوء اللامع" أن هذه القرية وقفها على كسوة الكعبة المشرفة: الصالح إسماعيل، ابن الملك الناصر في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة (للهجرة)  وكان اشترى الثلثين منها من وكيل بيت المال، ثم وقفها على هذه الجهة، ولم تزل الكعبة تكسى من هذا الوقف إلى سلطنة المؤيد شيخ "وقد ذكر على مبارك أنها من القرى المشهورة بضواحى القاهرة وأنها يزرع بها البطيخ والشمام والقتاء بكثرة؛ وبطيخها وشمامها شديدا الحلاوة وأكثر ما يباع منهما مجلوب منها ومن القرية المجاورة لها، وهي أبوالغيط وهو يباع في مدن مصر الكبرى كالقاهرة والإسكندرية وقد امتدت شهرة باسوس بزراعة الشمام الذى يسمى بالباسوسى إلى وقت إقامة السد العالي» وافتتاحه 1965، وقد ترتب على ذلك انقطاع مياه الفيضان الذى كان يغمر أرض الجزيرة المواجهة لباسوس ، وهو الذى كان يجدد شباب الجزيرة بما يحمله من غرين، فلما انقطع الفيضان انقطعت زراعة الشمام.

وقد كان أهل هذه القرية يستشعرون أن بلدتهم مباركة بسبب إنفاق ريعها على كسوة الكعبة المشرفة، وكان ذلك يدفعهم إلى العناية بالقرآن الكريم، حفظا وتجويدا، ولا يزال ذلك صفة لها حتى وقتنا الحاضر، وكان ذلك من أسباب التوجه إلى طلب العلم الدينى بالأزهر الشريف، وساعد على ذلك قرب القرية من القاهرة، وقلة النفقات التي يحتاجها المتعلمون فيه، بل إن الدارسين فيه كانوا يحصلون منه – في بعض الأحيان- على بعض الأموال التي كانت تسمى "الجراية" وكانت تأتي من أموال الوقف التي كانت مخصصة للإنفاق على التعليم الديني، من قبل الدولة العثمانية التي كانت مصر واحدة من أكبر الولايات التابعة لها إلى أوائل القرن العشرين، وكانت تأتي كذلك من أموال المتبرعين من أثرياء مصر، وملاك الإقطاعيات الزراعية فيها.

ولم يكن –في باسوس- عند ولادتي بها في أوائل الأربعينيات من القرن العشرين إلا مدرسة واحدة فقط من المدارس التي كانت تسمى: المدارس الإلزامية وكانت من أربع سنوات فقط، يتاح لمن اجتازها أن يلتحق بالمدارس الابتدائية التي لم يكن يدخلها من تلاميذ القرية إلا أقل القليل، لأن هذا المستوى من الدراسة لم يكن موجوداً إلا بالمدن الكبرى.

وكانت هذه الظروف تدعو الراغبين في أن ينالوا قسطا من التعليم أن يتوجهوا إلى التعليم الديني، وكان هذا يتطلب حفظ القرآن الكريم.

وهذا دفع بنا إلى الكتاب لتحقيق هذه الغاية، وكان من حسن حظنا ومن فضل الله علينا أن نلتحق بشيخ جليل حافظ متقن من أكفأ المحفظين وهو شيخنا الشيخ فرج عبدالعاطي وقد كان لديه من العزيمة والصبر والمثابرة والعناية البالغة، والمتابعة الدائمة لتلاميذه ما يعينهم على الحفظ الجيد والقراءة المتقنة  وقد تعلمنا على يديه القراءة والكتابة، وبدأنا نكتب "ألواحنا" من المصحف الشريف في وقت قصير وكان الشيخ المهيب يتسامح معنا إذا وقعنا في نسيان شيء مما يجب حفظه، ولكنه لم يكن يتسامح مطلقا إذا وقع خطأ في تجويد القرآن وكان يحرص- كل الحرص- على مراعاة قواعد التلاوة وأحكامها ويلزمنا باتباعها ولا يتهاون مطلقا في شيء منها، وكان يقدمنا للمشاركة في المسابقات التي تجري في بنها عاصمة القليوبية، وكان الظفر بالمراكز الأولى مقسوما ومحصوراً في كل مسابقة لأبنائه وتلاميذه وكان ذلك يزيدهم فخراً وشرفاً وتمسكا بالإجادة والإتقان، وأصبح ذلك يمثل خصلة مستقرة من خصال طلابه، وقيمة خلقية مصاحبة لهم في سلوكهم العملي وفي حياتهم العلمية من بعد وكان لي- في ذلك الوقت المبكر الذي حفظت فيه القرآن قبل بلوغ السنة العاشرة من العمر نصيب من ذلك، ويحفظ له- يرحمه الله- هذا النمط الرفيع من التعليم كل من تعلموا علي يديه، واعترافا من جيلنا، والأجيال التابعة لنا أنشئت في باسوس مسابقة باسمه الكريم منذ خمسة وثلاثين عاما، يكافأ فيها الحفاظ المجيدون للقرآن، السائرون على منهجه القويم في الحفظ والتجويد والإتقان.

وكان حسن حظنا –كذلك- أن نلتحق بالمدرسة الإلزامية في الوقت نفسه الذي كنا نذهب فيه إلى الكتاب وكان علينا أن نذهب – في أول النهار- إلى الكتاب لنقرأ على شيخنا "حصتنا" من القرآن الذي كتبناه علي ألواحنا ثم نذهب –بعد ذلك- إلى المدرسة من الساعة الثامنة صباحا إلى ما بعد الثانية ظهراً بقليل ثم ندهب إلى البيت لنتزود بشيء سريع من الطعام ثم نعود إلى الكتاب مرة ثانية لنقرأ ما يجب علينا حفظه وتسميعه فإذا انتهينا من ذلك نعود إلى بيوتنا لنكتب ألواحنا، ونحفظ "الواجب أو الماضي" ولنستعد ليوم جديد وهذا يكشف مدى الجهد الذي نبذله من أجل تحصيل العلم والتفوق فيه في مسارين: أحدهما في الكتاب والآخر في المدرسة وكان النجاح في الجمع بينهما على ما في ذلك من مشقة يمنح أصحابه ثقة النفس وتعوداً على البذل وأملا في المستقبل وصلابة في مواجهة العقبات منذ ذلك الوقت.

كنا نحيا في قرية –كانت على الرغم من قربها – من القاهرة- ليس بها كهرباء إلا لدى القلة من أهلها، وليس بها مشروع للمياه الصحية وكان الناس حتى منتصف القرن العشرين وما بعد ذلك بقليل يحصلون على حاجاتهم من الماء العذب من الطلمبات والأزيار والقلل القناوي ومياه النيل التي كانت في ذلك الوقت- صالحة بقليل من الوسائل للشرب منها وكان الناس يشعرون بالرضا والقناعة والترابط الاجتماعي والأسري ومراعاة حقوق الأقارب والجيران والتكافل في السراء والضراء.

ويكتمل هذا كله بما كان يقوم به أساتذتنا في المدرسة من تزويدنا بطاقات عالية من الأمل في المستقبل وأستذكر في هذا المقام واحداً من أساتذتنا الأبرار اسمه: رمضان محروس سلام من شنشور من محافظة المنوفية وكان هذا الأستاذ نموذجا للعطاء بلا حدود ومثلاً في العناية بنا، والحرص علينا والإفادة لنا، وكان من تشجيعه لنا أنه كان يقول لنا في ثنايا شرحه: إنكم ستكونون في مستقبلكم الواعد خيراً مني وفي مقام أعلى من المقام الذي أنا فيه وكنا نسمع كلامه هذا فيملؤنا عجبا ودهشة، فيقول قائلنا له: كيف يا أستاذ نكون خيراً منك وأنت الذي تعلمنا وتأخذ بأيدينا ؟

فيقول: من حاكم مصر الآن ؟ فنجيبه: اللواء محمد نجيب وكان ذلك في سنة 1952م فيقول: هل ولد محمد نجيب رئيسا! أو انه تعلم ثم دخل الجيش وتعلم العلوم والتقاليد العسكرية على يد شاويش أو صول أو ضابط صغير ؟! ثم أصبح من بعد في هذا الموقع الرفيع الذي يشغله الآن وهكذا ستكونون، ولا تستكثروا هذا على أنفسكم وستصلون إلى تحقيق ما أقول لكم بالجهد والإرادة والعزم والتصميم وستكون معكم عناية الله وتوفيقه وإن غداً لناظره قريب ويسود المكان صمت مهيب ولكن عقولنا الصغيرة كانت تحلق عاليا في آفاق رحبة تنظر إليها بأمل وشوق وخشية وكانت نبرة الود والثقة البادية في كلام أستاذنا ترجح الرجاء وتملأ نفوسنا ثقة وعزما وقد أحببنا هذا الأستاذ حبا يكاد يفوق محبتنا لآبائنا وأمهاتنا وعندما جاء له قرار بالنقل من المدرسة كان ذلك خبراً صاعقا وودعناه بعيون باكية وقلوب مملوءة بالحزن والأسى وسرنا معه مودعين له إلى مسافة خرجنا بها من حدود قريتنا ولم نرجع إلى بيوتنا إلا بعد أن توقف عن المشي خشية علينا من مخاطر الرجوع وعدنا على الطريق وقد ظللت على صلة دائمة به إلى أن تخرجت من كلية دار العلوم وذهبت إلى فرنسا ورجعت منها أراسله وأسعى للقائه إلى أن وصلت إلى درجة أستاذ مساعد ثم بلغني نبأ انتقاله إلى رحاب ربه فجعلت له ولشيخي الشيخ فرج نصيبا من دعائى مع أبوي الكريمين.

ولعلي قد أطلت قليلا في هذه المرحلة المبكرة من حياتي الدراسية لكي أوضح مكانة الأستاذ القدوة الذي يمنح طلابه علما وخلقا وأملا وهو يفعل ذلك بحب وعفة وتضحية وسخاء لا يريد من أحد جزاءً ولا شكوراً ولهذا يكون تأثيره في نفوس تلاميذه تأثير السحر ولكي يعلم أبناء هذا الزمان كيف كان أساتذنا يعلموننا والفرق بين الأجيال- في هذه المسألة كبير، بل هائل بين ما كان وبين ما هو كائن الآن والبون بعيد وكبير والمحنة أكبر وفي أمثال هؤلاء الأساتذة الأجلاء قال أمير الشعراء شوقي: قم للمعلم وفه التبجيلا... كاد المعلم أن يكون رسولا. 

وبعد أن أنجزنا حفظ القرآن الكريم، وانتهينا من السنوات الأربع التي قضيناها في المدرسة الإلزامية بقريتنا، وأصبح الجو مهيأ للانتقال إلى مرحلة عليا من الدراسة، وكان الاختيار الغالب والمفضل هو الالتحاق بالتعليم الدينى الأزهرى؛ لأسباب سبق الحديث عنها، وقدمت أوراقى إلى المعهد الدينى الابتدائي (يساوى الإعدادى في التعليم العام) وكان علينا أن نجتاز امتحانا صارما في حفظ القرآن كله، ونجحت فيه مع عدد من رفاق كتاب سيدنا الشيخ فرج، وبدأنا مرحلة جديدة من عمرنا بدراسة عدد كبير من العلوم الشرعية، وكان المعهد بالدراسة بين مبنى الجامع الأزهر وجبل المقطم ومثل الوصول إليه من باسوس مشكلة كبرى، بسبب عدم وجود وسائل اتصال منتظمة بين باسوس والقاهرة، وكنا نضطر- أحيانا كثيرة- إلى المشى مسافات تزيد على ثلاثة كيلو مترات عند الذهاب وعند الإياب واضطررنا - للفرار من هذه المشقة- أن نبحث لنا عن سكن قريب من المعهد أصبحنا فيه مسؤولين عن أنفسنا مسؤولية كاملة، وأكثرنا لايزيد عمره على عشر سنوات إلا بأقل القليل، وكان علينا أن نثبت لأنفسنا ولأهلينا - الذين عقدوا آمالهم علينا، وبذلوا أقصى جهودهم لإتاحة فرصة العلم الثمينة لنا - أننا أهل لتحمل هذه المسؤولية، وتجلى ذلك في انتظامنا في الدراسة، وتوثيق صلتنا بأساتذتنا، وفى تحقيق مستويات عالية من التفوق، وصلت إلى المراكز الأولى في بعض الأحيان. 

ثم انتقلنا - بعد الانتهاء من هذه المرحلة- إلى المرحلة الثانوية بالمعهد نفسه، وقد شهدت هذه المرحلة درجة كبرى من النضج والتفوق والتطور العلمى، والانفتاح على الحركة الثقافية بالقاهرة، وكان لذلك أسباب كثيرة، منها: أن أساتذتنا فيها كانوا على درجة عليا من التكوين العلمى، وكانوا - في الوقت نفسه - ذوى خصال خلقية رفيعة من الإخلاص والرفق والمعاونة لأبنائهم، ويكفى أن أشير هنا - إلى أننى تلقيت العلم على أساتذة في المعهد أصبحوا - فيما بعد- وكلاء للأزهر الشريف، ومن هؤلاء الدكتور عبدالمنعم النمر، والدكتور موسى شاهين لاشين، ومن هؤلاء الدكتور أحمد الشرباصى الذي كان واحداً من خطباء العصر، وكان رائدا لجمعية الشبان المسلمين وقد شجعنا على حضور محاضراتها الأسبوعية التي كان يحضرها أكابر العلماء في ذلك الوقت، ومنهم الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور محمد يوسف موسى، والدكتور فتح الله بدران والشيخ محمد الغزالى، واللواء صالح الذي كان رئيسا للجمعية، وهو رمز من رموز الوطنية المصرية، وكنا نستمع في نهاية كل جلسة علمية إلى شعراء كبار، مازلت أذكر من بينهم محمد بدران الدين، ومحمد أحمد العزب، ثم كان من بين أساتذتنا من يشجعنا على تحضير بعض المواد العلمية، وإلقائها على زملائنا، وقد كان لى نصيب من ذلك، وقد تفضل علينا بعض أساتذتنا بأن أطلعونا على رسائلهم التي نالوا بها درجة الدكتوراه، وأذكر أننى قرأت واحدة منها، وقد كانت عن الأفكار التربوية عند ابن خلدون، كما كان بعضهم يستضيف أوائل الطلاب في بيته ويحتفى بهم، وكان ذلك تكريما ما بعده تكريم.

ويمكن الإشارة - هنا - كذلك - إلى أن الحالة الثقافية العامة كانت حية فياضة بالحركة والنشاط، فتيسر لنا أن نشترى سلاسل الكتب الثقافية بأيسر الأثمان، وكانت سلاسل المكتبة الثقافية تباع بقرشين، وسلسلة أعلام العرب تباع بخمسة قروش، ويكتب فيها صفوة العلماء والمتخصصين، وكانت دار الشعب الموجودة بشارع القصر العينى تنشر الكتب الكبرى على هيئة فصل وملازم بأسعار زهيدة، ولاتزال هذه الكتب - بعد تجليدها- مصادر أساسية، ومنها دائرة المعارف الإسلامية، وتفسير ابن كثير، وتفسير القرطبى، إلى كتب أخرى كثيرة، ثم إن الصحف - آنذاك -كانت تستكتب أعلام مصر من الشعراء والأدباء ورجال الفكر، وفيها قرأنا للعقاد ومحمد مندور ورجاء النقاش، وأحمد الصاوي، وفى الأعداد الأسبوعية قرأنا مسرحيات توفيق الحكيم، وروايات نجيب محفوظ، وقصص يوسف إدريس ومقالات إحسان عبدالقدوس وغيرهم وتابعنا المعارك الأدبية التي كانت تدور حول الشعر الحر، والعلاقة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، وكانت مشروعات الألف كتاب تمثل زاداً متجددا من الفكر الإنسانى باتجاهاته المختلفة، وهكذا وكنت حريصا على متابعة هذا التنوع بعقل متفتح، وأذكر أن أول كتابين اشتريتهما من مصروفى الخاص كانا: زقاق المدق لنجيب محفوظ، وليس من الإسلام للشيخ محمد الغزالى، وكانت هذه الروافد تزيدنا فهما وعلما، وتعيننا على المقارنة، والقدرة على النقد، وتروضنا على التسامح  مع الغير: فكرا ودينا، وأذكر أنه كان من أساتذتنا بالمعهد، من يحضر إلينا في محاضراته مثقفين فرنسيين ويتيح لنا أن نسألهم وأن نناقشهم، وأن نطلع على اتجاهات وأفكار ليس لنا بها عهد، وكان اسم أستاذنا هذا، محمد فتحى عبدالمنعم وكان كل هذا الحراك الثقافي يساعد من يتصل به على تنمية ذاته وصقل مهاراته، وضبط توجهاته، والتطلع الدائم إلى المزيد من المعرفة التي تبهج النفس، وتسمو بالعقل إلى آفاق رحبة وكان هذا من شواغلى وشواغل كثيرين من أبناء جيلى وزملائى ونحن مازلنا في المرحلة الثانوية، التي كانت تمتد إلى خمس سنوات.

وقد اجتزناها بنجاح، وكنت الرابع على الثانوية الأزهرية، والأول على معهد القاهرة ويمكن لنا - هنا- أن نقول لقد فعل جيلنا ذلك من غير دروس خصوصية، لا في دراستنا النظرية، ولا في دراسة زملائنا في العلوم العلمية، وكانت المدارس الأزهرية والحكومية عموما هي التي تقدم أفضل خدمة علمية، ولم يكن للمدارس الخاصة إسهام يستطيع منافسة هذه المؤسسات الرسمية التي كانت تقوم بواجبها بكفاءة عالية، ولنا أن نتساءل ما الذي حدث، وما الذي قلب الموازين، وغير المواقع والتأثير ما بين تقديم وتأخير وإقبال وهى أسئلة تحتاج إلى فحص دقيق، ودرس وئيد، وتخطيط رشيد للخروج من هذه الأزمة التي لابد من اجتيازها بنجاح، حرصا على المستقبل العلمى لهذه الأمة المصرية ذات الحضارة العريقة، منذ فجر التاريخ.

ثم كان علينا - بعد انتهاء المرحلة الثانوية - أن نفكر في المرحلة الجامعية التالية لها: وكان أمامنا طريقان: أن نستمر في الدراسة الأزهرية التي قطعنا منها من عمرنا تسع سنوات، أو أن نتجه إلى طريق آخر هو الدراسة في كلية دار العلوم، بجامعة القاهرة.

وقد اخترت واختار معى سبعة من العشرة الأوائل، أن نتجه إلى دار العلوم، وكان ذلك اختيارا شاقا، لأنه حرمنا من المكافأة الكبيرة المخصصة لكل واحد من هؤلاء العشرة، وكانت تبلغ مائة وعشرين جنيها بأسعار ذلك الزمان الذي كان الجنيه يشترى جرامين ونصف من الذهب وكان من بين الدوافع للقيام بهذه التضحية أن دار العلوم لم تكن تعنى بالتراث القديم وحده، ولكنها تضيف إليه، بعد امتلاك ناصيته والتشبع به، زاداً جديدا من المعارف الحديثة المتطورة العصرية التي ظهرت فيها مناهج متعددة في الدرس والتحليل للغة والأدب والنقد والأدب المقارن، وفى دراسة التاريخ وعلوم الاجتماع والفلسفة الإسلامية والمنطق الحديث وغيرها وبعبارة مختصرة كانت دار العلوم تجمع بين الأصالة والمعاصرة، ولم يكن هذا الاختيار - الذي لم أندم عليه لحظة واحدة- قائما على أوهام أو خيالات أو رغبة في التخفف من صعوبات المناهج الأزهرية التي درسناها وعرفناها وتفوقنا فيها، بل إنه كان مبنياً علي معرفة واقعية بالدراسات التي يتلقاها طلاب دار العلوم، وقد كان لي قريب من هؤلاء وكنت أطلع في الزيارات المتبادلة بيننا بسبب هذه القرابة على الكتب التي يدرسها، وكنت أستعير منه بعضها، وعرفت قبل أن أدخل إلى الكلية أسماء بعض الأساتذة الكبار فيها، وأسماء الكتب التي يدرسونها، وبدا لي من المقارنة بين المواد التي كنت أدرسها بالثانوية، والمناهج التي تدرس فيها أن هناك فرقاً كبيراً بين الأمرين والطريقتين، وأن بناء الشخصية العلمية يقتضي التزود بالجديد الذي تتيحه مناهج الكلية التي تجمع في حكمة وتوازن بين الأمرين، وهي تسلك في هذا الجمع مسلك القصد والاعتدال، ومن شأن من يدرس فيها أن يتحلى بروح التسامح وسعة الصدر، وانفتاح الأفق، والتقبل المنضبط لتعدد المشارب وتجاور الثقافات، بغير استعلاء، لأن الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها.

وقد كانت دار العلوم – عند دخولي إليها في الستينيات من القرن الماضي (العشرين الميلادي) – تضم بين جوانحها علماء كباراً كانوا قادة ومؤسسين للفكر العلمي في مجال تخصصهم في مصر والعالم العربي، وكان من هؤلاء متخصصون في اللغة وبحوثها، ممن نالوا شهاداتهم من جامعات عالمية رائدة، ومن هؤلاء الأساتذة الكبار الذين درست على أيديهم: إبراهيم أنيس وعبدالرحمن أيوب، وكمال بشر ومحمد سالم الجرح، وكان مع هؤلاء وفي طليعتهم تمام حسان، وكان مع هؤلاء علماء يقودون الحركة العلمية في الدراسات الأدبية والنقدية والدراسات المقارنة، ومن هؤلاء: محمد غنيمي هلال، وعبدالحكيم حسان، ومحمود الربيعي، وكان قبل هؤلاء إبراهيم سلامة، الذي كان من أول من علموا الأدب المقارن في مصر وقد كان من بعد عميداً لكلية الآداب، وقد كان من بين من درسوا لي الفلسفة التي تخصصت فيها بعد الحصول علي الليسانس: أستاذ الأساتذة محمود قاسم ومحمد كمال جعفر، وأحمد عبدالحميد غراب، مع كبار الأساتذة الذين كانوا يحضرون إلى الكلية للتدريس بها ومنهم: علي سامي النشار ومحمد علي أبو ريان، وكذلك أستاذنا يحيى هويدي الذي ذهب إلى كلية الآداب وكان من حسن حظي كذلك أن أكون، ولم يكن هؤلاء وحدهم الذين يقودون الحركة العلمية في دار العلوم وفي خارجها بل كان يشاركهم في ذلك أفذاذ من العلماء، منهم علي عبدالواحد وافي وعلي النجدي ناصف، وعطية الصوالحي وأحمد الحوفي، محمد ضياء الدين الريس، وأحمد هيكل وأمين السيد، ومحمد حلمي أحمد، ومنهم آخرون كثيرون، كل منهم أمة وحده وكانت علاقة بعض الأساتذة بطلابهم تزخر بشواهد كثيرة من رعاية هؤلاء العلماء لطلابهم، وقد كان بعضهم (كمال بشر) يقيم كل عام حفلاً في بيته لتكريم أوائل الطلاب، وقد حضرتها ثلاث مرات فقد كنت الأول في السنتين الأولى والثانية، وكنت الثاني في الثالثة والرابعة، وكان التقدير امتيازاً مع مرتبة الشرف الأولى.

وكان د/ بشر يدربنا على إلقاء بحوث على زملائنا في موضوعات يحددها لنا، وقد حظيت برعاية فائقة من أساتذتي بقسم الفلسفة الإسلامية وعلى رأسهم أستاذي محمود قاسم، الذي كان يترجم لي نصوصاً من اللغة الفرنسية تتعلق ببحثي للماجستير الذي كان عن شخصية كبيرة من شخصيات التصوف الإسلامي وهو أبو طالب المكي، وكان يستحثني عليَّ البحث ويدفعني إلى إنجازه دفعاً، وكان أستاذي أحمد عبدالحميد غراب يدرس لي في السنة التمهيدية للماجستير، وكان – من تواضعه الكريم – أن عرض عليَّ كتاباً كان يقوم بتحقيقه لأبي الحسن العامري، وطلب مني إبداء الرأي فيه، وعندما تشرفت بذلك، وأعدته إليه قدم لي شكراً مطبوعاً في الكتاب نفسه، والأمثلة الدالة علي سماحة أساتذتنا، ورعايتهم لنا يطول فيها الحديث.

أما بعد، فقد كررت الحديث عن مكانة الأساتذة في كل مراحل التعليم التي مررت بها، وركزت على جهودهم العلمية، وخصالهم الخلقية في تكوين طلابهم، وهذه مسألة تربوية بالغة الأهمية، وهي الطريق إلى الارتقاء العلمي بالطلاب عموماً، ومن يدخلون إلى مستويات الدراسات العليا على وجه الخصوص، وهي الوسيلة التي تستعيد بها الجامعات المصرية سمعتها العلمية غير أن الاعتراف بهذه الحقيقة والتقدير العظيم لها لا يعني أن نغمط أنفسنا حقها فالأمر لا يتوقف على الأستاذ وحده، بل إن على طالب العلم أن يجعل من رحابة الخلق وسمو التكوين العلمي لأساتذته سبيلاً إلى الارتقاء والتجويد، وقد بذلنا في ذلك جهوداً لا يستهان بها، وسعيت إلى ذلك بكل الوسائل المتاحة ومنها العناية بتكوين مكتبة علمية ذات شأن، وهذا يتطلب إنفاقاً كبيراً وقد كانت دراستي في الماجستير تقتضي الرجوع إلى المخطوطات، ولذلك أجرت سكناً بجوار دار الكتب المصرية التي كانت – عندئذ – بباب الخلق، لأكون من أول من يفتتحونها في الصباح، ومن آخر من يغادرونها في المساء.

كما حرصت على ألا أحصر جهدي في معرفة كتب التخصص في فروعه المختلفة بل ألزمت نفسي بتوسيع دائرة اطلاعي لتشمل علوماً كثيرة خارج التخصص، وظهر ذلك منذ بحث الماجستير الذي كان بعنوان: المنهج الصوفي عند أبي طالب المكي، ولكني استخلصت من كتبه ما يحدد ملامح فكره في الفقه والحديث والتفسير وعلم الكلام ودراسة الفرق وكان ذلك يقتضي الرجوع إلى مصادر أصلية في كل هذه العلوم.

وكان ذلك موضع تقدير أستاذي محمود قاسم، وأعضاء لجنة المناقشة. كان لهذه الرؤية الشاملة التي تمتد إلى فروع الثقافة والعلوم الإسلامية آثار واضحة فيما قمت به من إسهامات ومشاركات تزيد على ستين بحثاً منشوراً، تنوعت مجالاتها العلمية في مؤتمرات كثيرة في داخل مصر وفي خارجها، وقد امتد نطاقها من الهند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية إلى معظم أقطار العالم العربي، بما فيه موريتانيا، ثم امتد إلى لندن وباريس وروما، وقمت بالتدريس في عدد غير قليل من الجامعات المصرية بما في ذلك الجامعة الأمريكية، التي درست فيها أربعة فصول في المنطق والفلسفة ومناهج التفسير، وفي توثيق الحديث النبوي، كما قضيت خمس سنوات في السعودية معاراً إلى أكبر جامعة خليجية، وهي جامعة الملك سعود، وخمس سنوات أخرى بكلية الشريعة بجامعة قطر، ودرست فصلين دراسيين بالأردن أحدهما بجامعة اليرموك، والثاني بالجامعة الإسلامية العالمية بعمان، وقد كان من فضل الله عليَّ أن كنت واحداً من المشرفين الأربعة على إنجاز أكبر معجم تاريخي للغة العربية، وهو المعجم الذي شارك في إنجازه أحد عشر مجمعاً عربياً، بأعداد بلغت ما يزيد على ستمائة مشارك من العلماء والخبراء والباحثين والمعاونين الفنيين، وقد صور برعاية كريمة وإنفاق سخي من سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة بالإمارات العربية المتحدة، وجاء في 127 مجلداً، لا يقل الواحد منها عن سبعمائة صفحة، وقد منَّ الله عليَّ أيضاً بأن أكون عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وأن أكون أميناً له، وأميناً عاماً لاتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، وأن أكون عضواً بالمجمع العلمي المصري، ومجمع دمشق بسوريا، وهذا من فضل الله عليَّ، وهذا من عطاء الله الجواد الكريم، الذي يمن به على من يشاء من عباده، وإن لم يخطر لهم على بال، ولعله كان نفحة البشارات التي بشرنا بها في عهد الطلب الأول.

***

1* يمكن الرجوع إلى تفصيل ذلك في مجلة مجمع اللغة العربية، العدد التاسع والتسعون مايو 2003 ، ص 226 – 237   ** السابق : 238

2* انظر الخطط التوفيقية، طبع دار الكتب والوثائق القومية- القاهرة، 2005 الجزء العاشر 53، 54، وانظر كذلك ح 8 / 76 في الحديث عن القرية المجاورة لها وهى: أبو الغيط، والقاموس الجغرافى لمحمد رمزى قسم 2 ج-1/5 ولها ذكر – كذلك – في وصف مصر الذى وضعه علماء الحملة الفرنسية التي جاءت إلى مصر.