سيد درويش.. فنان الشعب الذي غيّر وجه الموسيقى العربية
ولد صوت سيد درويش، في زمن كانت القاهرة فيه تغلي على واقع الاستعمار، والفقر والحنين إلى الهوية، فأعاد تشكيل الموسيقى العربية بلغة الناس، غنّى للمقهى والمصنع، للمُعلم والعامل، للوطن والحب، فصار صوت الشعب الذي أراد أن يعيش، معبرًا عن آلامه وأماله، ومتحدثًا بصوته، صوت لم يعش طويلًا لكنه غيّر وجه الموسيقى العربية إلى الأبد، وترك إرثًا فنيًا لا يزال ينبض بالحياة إلى اليوم، ليبقي أثره خالدًا، يتردد في الأزقة والميادين.
ميلاده ونشأته
ولد سيد درويش في 17 مارس 1892 بحي كرموز في مدينة الإسكندرية، لأسرة فقيرة تنتمي إلى الطبقة الكادحة، وبدأ حياته طالبًا في معهد ديني، وتلقّى أول دروسه في الترتيل القرآني والإنشاد الديني، وهي الخلفية التي شكّلت تكوينه الفني لاحقًا، حتى لفت نبوغه الموسيقي الأنظار إليه في سن مبكرة. وعمل في بداياته في فرق الأفراح والطرب الشعبي، قبل أن ينتقل إلى القاهرة، حيث بدأت ملامح مشروعه الفني تتبلور بوضوح.
ثورة "درويش" على التقليدية
كانت الموسيقى العربية ما قبل "درويش" تعتمد على التقليدية وتخاطب النخبة دون الشعب، لكنه آمن أن الموسيقى يجب أن تكون مرآةً للمجتمع، ويجب أن تعبر عنه وعن تطوراته، فبدأ في كتابة وتلحين أغانٍ تتناول قضايا الحياة اليومية، كالفقر، والظلم، والحُب، والكدح، وحتى السياسة.
شكلت ألحان "درويش" في تلك الآونة ثورة فكرية حقيقية، فاستوحى ألحانه من التراث الشعبي والمقامات الشرقية، بعد إعادة تشكيلها بطريقة تجمع بين الأصالة والحداثة. كما استلهم من الموسيقى الغربية، خاصة الإيطالية، التي اطّلع عليها خلال عمله مع الفرق المسرحية، دون أن يُفقد أعماله هويتها العربية الأصيلة. وأدخل سيد درويش في الموسيقى للمرة الأولى الغناء البوليفوني ضمن أوبريت العشرة الطيبة، وشهر زاد، والبرّوكة.
أعماله
تميزت أعمال سيد درويش ببساطتها وعمقها، فاستخدم اللغة العامية القريبة من القلب، وصاغ ألحانًا سهلة، فكانت أغانيه تغنى في الشارع والمقاهي والميادين، كما كانت تؤدى على المسرح، وبلغ إنتاجه في حياته القصيرة 40 موشحًا، ومائة طقطوقة، و30 رواية مسرحية وأوبريت.
وتعد أبرز هذه الأعمال "بلادي بلادي" التي أصبحت النشيد الوطني لمصر لاحقًا، و"أنا المصري كريم العنصرين" وهو نشيد يفخر بالهوية الوطنية، و"الحلوة دي قامت تعجن في البدرية"، وصف خلالها الحياة اليومية للطبقة العاملة، و"قوم يا مصري" التي دعا من خلالها إلى الكفاح والتحرر من الاستعمار، وغيرها من الأغاني، التي حرضت على الوعي كانت تحريضًا على الوعي، وثورة فنية قادتها موسيقاه.
المسرح والأغاني الحديثة..
قدّم سيد درويش أكثر من 30 أوبريتًا مسرحيًا، بالتعاون مع كبار الكتّاب والممثلين، وعلى رأسهم نجيب الريحاني وعلي الكسار، ومن خلال المسرح، مزج الأغنية في السياق الدرامي، الأمر الذي جعلها أكثر ارتباطًا بالقصة والحدث، حيث جعل لكل موقف موسيقاه الخاصة، ولكل شخصية نغمتها المميزة، فرسم الشخصيات موسيقيًا وكانت هذه أحد أبرز إنجازاته الفنية.
وفاته
في 10 سبتمبر 1923، رحل سيد درويش عن عالمنا فجأة، ولم يتجاوز الـ31 من عمره، وعلى الرغم من قصر حياته، خلّف وراءه ما يزيد عن 260 عملًا موسيقيًا، بين أغانٍ وطنية، ومسرحيات، وأناشيد، لا تزال تتردد حتى يومنا هذا. وبعد أكثر من قرن على ميلاده، لا تزال أعماله تُدرس وتُغنّى، وتُستلهم في كل حراك شعبي، وكل نهضة فنية.
وجاءت من بعد سيد درويش أجيال متعاقبة من الفنانين كأم كلثوم، والشيخ إمام، ومحمد عبد الوهاب، ومارسيل خليفة، وجميعهم تتلمذوا على موسيقاه، واقتدوا بروحه الثائرة.