أجاثا كريستي.. «ملكة الرواية البوليسية»
في عالم الأدب البوليسي، عندما تتشابك خيوط الغموض وتتراقص الألغاز في متاهات الفكر، تتربع وحدها على عرش لا ينازعها فيه أحد، إنها الساحرة التي نسجت من الكلمات شِباكًا محكمة الصنع، اصطادت بها عقول الملايين حول العالم، فأسرتها بألغازها المُحكمة وحبكاتها الماكرة، فهي التي علّمت العالم أن الجريمة ليست مجرد فعل شرير، بل لغز يستحق الحل، ومتعة فكرية للتأمل والاستمتاع إنها أديبة إنجلترا الأشهر و«ملكة الرواية البوليسية» بلا منازع أجاثا كريستي
ولدت هذه العبقرية الأدبية عام 1890م في مدينة توركاي الإنجليزية، لتخرج من رحم طفولة سعيدة مُفعمة بالحرية والخيال، كما تصفها بنفسها: «طفولة مشرّدة إلى أقصى درجات السعادة» من هناك، من تلك الحدائق الوارفة وبين أسراب الأسماك، نبتت بذرة الإبداع التي ستثمر يومًا أعظم كنوز الأدب البوليسي.
وبقلمها السحري، حولت «كريستي » الجريمة إلى فن راقٍ، والغموض إلى متعة ذهنية خالصة، خلقت شخصيات خالدة كالمحقق الذكي هركول بوارو، ونسجت حبكات محكمة كخيوط العنكبوت، لا يُفلت منها قارئ حتى الصفحة الأخيرة، و بيعت أعمالها لأكثر من مليار نسخة، وتُرجمت لأكثر من 103 لغات، لتصبح صوتها الأدبي لغة عالمية يفهمها كل محب للإثارة والتشويق.
الميلاد والأسرة
ولدت أجاثا كريستي في توركاي، وهي مدينة ساحلية في مقاطعة ديفون في جنوب غرب إنجلترا، في 15 سبتمبر عام 1890م من أب أمريكي وأم إنجليزية، وعاشت في بلدة «توركوي» معظم طفولتها، ووصفت «كريستي» طفولتها بأنها «سعيدة جدا»، وكانت محاطة بمجموعة من النساء منحنها الشخصية القوية والمستقلة منذ سن مبكرة.
الطفولة المميزة
وتقول «كريستي»عن نفسها: «إنني قضيت طفولة مشردة إلى أقصى درجات السعادة، تكاد تكون خالية من أعباء الدروس الخصوصية، فكان لي متسع من الوقت لكي أتجول في حديقة الأزهار الواسعة وأسيح مع الأسماك ما شاء لي الهوى! ويرجع الفضل في ذلك إلى والدتي التي سهلت اتجاهي إلى التأليف، فقد كانت سيدة ذات شخصية ساحرة، وذات تأثير قوي وكانت تعتقد اعتقادًا راسخًا أن أطفالها قادرين على فعلِ كلِ شيء، وذات يوم وقد أصبت ببرد شديد ألزمني الفراش فقالت لي: ـ خير لكِ أن تقطعي الوقت بكتابة قصة قصيرة وأنت في فراشك ـ ولكني لا أعرف ـ لا تقولي لا أعرف، وحاولت ووجدت متعة في المحاولة، فقضيت السنوات القليلة التالية أكتب قصصًا قابضة للصدر! يموت معظم أبطالها! كما كتبت مقطوعات من الشعر ورواية طويلة احتشد فيها، عدد هائل من الشخصيات بحيث كانوا يختلطون ويختفون لشدة الزحام، ثمَّ خطر لي أن أكتب رواية جرائم، ففعلت واشتد بي الفرح حينما قبلت الرواية ونشرت، وكنت حين كتبتها متطوعة في مستشفى تابع للصليب الأحمر إبان الحرب العالمية الأولى».
اشتغلت «كريستي» في المستشفى خلال الحرب العالمية الأولى، قبل زواجها وتكوين أسرة في لندن، وقالت إن بدايتها غير ناجحة في نشر مؤلفاتها، ولكن في عام 1920م تم نشر روايتها «قضية غامضة» في صحيفة رئيس بدلي ومن هنا كانت انطلاقة مسيرتها الأدبية.
أجاثا كريستي على عرش روايات الجرائم الإنجليزية
وتربعت أجاثا كريستي على عرش روايات الجرائم الإنجليزية طوال نصف قرن دون مزاحمة، ولعل دراسة الناقدة البريطانية «جوليان سيمونز» عن أدب الجريمة وتقنيات روايات الجرائم التي صدرت بعدة طبعات منذ عام 1985م،
وتلك الدراسة منحت أجاثا كريستي المكانة التي حققتها في ميدان أدب الجريمة على صعيد عالمي، وقارئ «كريستي» بالإنجليزية يلحظ دون أدنى شك أنها استخدمت لغة وسطى سلسة وسهلة، أنها لم تكتب بلغة شكسبيرية» عالية رغم أنها ارتقت بأعمالها عن مستوى الإنكليزية المتداولة أعني لغة المحادثة اليومية ولعل هذا يفسر رواج قصصها ورواياتها لدى الأوساط الشعبية في بريطانيا وأوروبا وما وراء البحار، كما يفسر سهولة ترجمتها إلى مختلف لغات العالم.
أول روايات كريستي
أول روايات «كريستي» هي رواية «ثلوج على الصحراء»، التي لم يقبلها أي من الناشرين، ألفت بعدها رواية أخرى وهي «قضية ستايلز» الغامضة التي ظهر فيها هركول (هيركيول) بوارو (المحقق) للمرة الأولى وأدخلتها هذه القصة عالم الكتابة عندما قبلها أحد الناشرين بعد أن رفض ستة من الناشرين طباعة وتوزيع روايته.
أجاثا كريستي.. أول من فاز بجائزة جراند ماستر
فازت «كريستي» في 1955م بجائزة جراند ماستر من كتاب الغموض في أمريكا، وأصبحت أول من نال هذه الجائزة، تلقت مسرحية شاهدة الادعاء جائزة إدجار كأفضل مسرحية في 2013م، وتم التصويت لها كأفضل كاتبة جريمة ولرواية مقتل روجر أكرويد كأفضل رواية جريمة على الإطلاق بواسطة 600 روائي محترف من رابطة كتاب الجريمة.
رواية كريستي المُفضلة عالميًا
وفي سبتمبر 2015، اختيرت رواية «ثم لم يبق أحد» كـ «رواية كريستي المُفضلة عالميًا» في تصويت برعاية أموال المؤلفة، تم اقتباس العديد من مؤلفات وكتب «كريستي» وقصصها القصيرة للتلفاز، والراديو، وألعاب الفيديو، والروايات المُصورة. اقتُبس أكثر من 30 فيلم روائي من أعمالها.
روايات «كريستي»… الأكثر تَرْجَمَة
وعند بلوغ «كريستي» سن الخامسة والثمانين كانت قد أنتجت «85» كتابًا بمعدل كتاب لكل سنة، وهو رقم عالِ يعكس القدرة على الإنتاج والكتابة، وفقًا لفهرس اليونسكو للترجمة، لا تزال المؤلفة «كريستي» الفرد الأكثر تَرْجَمَة، تُعد روايتها ثم لم يبق أحد ضمن الكتب الأكثر مبيعًا في كل الأوقات، حيث بيعت 100 مليون نسخة تقريبًا.
رقمًا قياسيًا عالميًا لمسرحية «مصيدة الفئران»
وحملت مسرحية أجاثا كريستي «مصيدة الفئران» رقمًا قياسيًا عالميًا كأطول فترة تشغيل أولية، تم افتتاحها في مسرح السفراء في مسرح «وست إند» بتاريخ 25 نوفمبر 1952م، و مع حلول سبتمبر 2018م، كان هناك أكثر من 27500 عرضًا، و أُغلقت المسرحية مؤقتًا في مارس 2020م، بسبب الإغلاقات جرّاءِ كوفيد-19 في لندن قبل أن يُعاد افتتاحها في مايو 2021.
رحيل ملكة الرواية البوليسية
رحلت ملكة الرواية البوليسية أجاثا كريستي عن عالمنا في 12 يناير 1976م عن عمر يناهز الـ 85 عاما، في منزلها الذي يقع في وينتربروك، والينجفورد.
ودُفنت «كريستي» بالقرب من باحة كنيسة سانت ماري، تشولسي، بعد أن اختارت قطعة أرض لمثواها الأخير مع زوجها السير ماكس قبل عشرة أعوام من وفاته، وحضر مراسم الجِنازة البسيطة نحو 20 مراسلًا من الصحف والتلفاز، حيث سافر بعضهم من مناطق بعيدة مثل أمريكا الجنوبية
ثلاثين إكليلًا.. يزُيّن قبر أجاثا كريستي
زُيّن قبر أجاثا كريستي بثلاثين إكليلًا، بما في ذلك واحد من طاقم تمثيل المسرحية طويلة الأمد، مصيدة الفئران، وأرسلت دار نشر لارج بّرينت بوك في أولفيرسكروفت إكليلًا بالنيابة عن العدد الكبير من القراء الممتنين.