رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


رثاء أمير الشعراء لأسد الصحراء «عمر المختار».. وثيقة وطنية خالدة

16-9-2025 | 19:53


عمر المختار

همت مصطفى

في سطور من الشعر تقطر ألمًا ووجعًا، وتفيض حزنًا وغضبًا، خلّد أمير الشعراء أحمد شوقي ذكرى شهيد ليبيا الأكبر عمر المختار، في قصيدة رثائية تُعد من أعظم ما كُتب في الأدب العربي الحديث، عن البطولة والمقاومة.

عندما سقط «أسد الصحراء» شهيدًا على أعواد المشانق الإيطالية في مثل هذا اليوم  السادس عشر من سبتمبر عام 1931م، لم تكن ليبيا وحدها التي فقدت بطلًا من أبطالها، بل فقدت الأمة العربية كلها رمزًا من رموز الكرامة والعزة، ومقاومًا شرسا ضد الاستعمار الغاشم.

وفي تلك اللحظة المفصلية من التاريخ، وقف  أمير الشعراء أحمد شوقي،  ليسطر بقلمه الذهبي أبياتًا خالدة، تتجاوز حدود الرثاء التقليدي لتصبح وثيقة وطنية وقومية، تؤرخ لملحمة بطولية نادرة، وتخلد في ذاكرة الأجيال صورة المجاهد الذي قاوم حتى النفس الأخير.

إن قصيدة أحمد شوقي في رثاء عمر المختار ليست مجرد نص شعري، لكنها ستظل وتبقى شاهدٌ حي على عصر المقاومة العربية، ووثيقة تاريخية تكشف عن عمق الروابط القومية التي جمعت بين أبناء الأمة الواحدة في مواجهة المحتل، وتجسد روح التضامن العربي في أحلك الظروف.

وفي هذه السطور، نستعرض تلك التحفة الشعرية النادرة، ونقف عند دلالاتها التاريخية والأدبية، ونكشف عن ظروف كتابتها وأثرها في الوجدان العربي، لنفهم كيف استطاع «شوقي» أن يحول الحزن إلى قوة، والفقدان إلى خلود، والموت إلى حياة أبدية في قلوب الأحرار.

رثاء أسد الصحراء عمر المختار لأمير الشعراء أحمد شوقي 

رَكَزوا رُفاتَكَ في الرِمالِ لِواءَ ... يَستَنهِضُ الوادي صَباحَ مَساءَ

يا وَيحَهُم نَصَبوا منارًا مِن دَمٍ ... توحي إِلى جيلِ الغَدِ البَغضاءَ

ما ضَرَّ لَو جَعَلوا العَلاقَةَ في غَدٍ ... بَينَ الشُعوبِ مَوَدَّةً وَإِخاءَ

جُرحٌ يَصيحُ عَلى المَدى وَضَحِيَّةٌ ... تَتَلَمَّسُ الحُرِّيَةَ الحَمراءَ

يا أَيُّها السَيفُ المُجَرَّدُ بِالفَلا ... يَكسو السُيوفَ عَلى الزَمانِ مَضاءَ

تِلكَ الصَحاري غِمدُ كُلِّ مُهَنَّدٍ ... أَبلى فَأَحسَنَ في العَدُوِّ بَلاءَ

وَقُبورُ مَوتى مِن شَبابِ أُمَيَّةٍ ... وَكُهولِهِم لَم يَبرَحوا أَحياءَ

لَو لاذَ بِالجَوزاءِ مِنهُم مَعقِلٌ ... دَخَلوا عَلى أَبراجِها الجَوزاءَ

*************

فَتَحوا الشَمالَ سُهولَهُ وَجِبالَهُ ... وَتَوَغَّلوا فَاِستَعمَروا الخَضراءَ

وَبَنَوا حَضارَتَهُم فَطاوَلَ رُكنُها ... دارَ السَلامِ وَجِلَّقَ الشَمّاءَ

خُيِّرتَ فَاِختَرتَ المَبيتَ عَلى الطَوى ... لَم تَبنِ جاهًا أَو تَلُمَّ ثَراءَ

إِنَّ البُطولَةَ أَن تَموتَ مِن الظَما ... لَيسَ البُطولَةُ أَن تَعُبَّ الماءَ

إِفريقيا مَهدُ الأُسودِ وَلَحدُها ... ضَجَّت عَلَيكَ أراجلًا وَنِساءَ

وَالمُسلِمونَ عَلى اِختِلافِ دِيارِهِم ... لا يَملُكونَ مَعَ المُصابِ عَزاءَ

وَالجاهِلِيَّةُ مِن وَراءِ قُبورِهِم ... يَبكونَ زيدَ الخَيلِ وَالفَلحاءَ

في ذِمَّةِ اللَهِ الكَريمِ وَحِفظِهِ ... جَسَدٌ بِبُرقَةَ وُسِّدَ الصَحراءَ

لَم تُبقِ مِنهُ رَحى الوَقائِعِ أعظمًا ... تَبلى وَلَم تُبقِ الرِماحُ دِماءَ

كَرُفاتِ نَسرٍ أَو بَقِيَّةِ ضَيغَمٍ ... باتا وَراءَ السافِياتِ هَباءَ

بَطَلُ البَداوَةِ لَم يَكُن يَغزو عَلى ... تَنَكٍ وَلَم يَكُ يَركَبُ الأَجواءَ

لَكِن أَخو خَيلٍ حَمى صَهَواتِها ... وَأَدارَ مِن أَعرافِها الهَيجاءَ

لَبّى قَضاءَ الأَرضِ أَمسِ بِمُهجَةٍ ... لَم تَخشَ إِلّا لِلسَماءِ قَضاءَ

وافاهُ مَرفوعَ الجَبينِ كَأَنَّهُ ... سُقراطُ جَرَّ إِلى القُضاةِ رِداءَ

شَيخٌ تَمالَكَ سِنَّهُ لَم يَنفَجِر ... كَالطِفلِ مِن خَوفِ العِقابِ بُكاءَ

وَأَخو أُمورٍ عاشَ في سَرّائِها ... فَتَغَيَّرَت فَتَوَقَّعَ الضَرّاءَ

الأُسدُ تَزأَرُ في الحَديدِ وَلَن تَرى ... في السِجنِ ضرغامًا بَكى استِخذاءَ

وَأَتى الأَسيرُ يَجُرُّ ثِقلَ حَديدِهِ ... أَسَدٌ يُجَرِّرُ حَيَّةً رَقطاءَ

عَضَّت بِساقَيهِ القُيودُ فَلَم يَنُؤ ... وَمَشَت بِهَيكَلِهِ السُنونَ فَناءَ

تِسعونَ لَو رَكِبَت مَناكِبَ شاهِقٍ ... لَتَرَجَّلَت هَضَباتُهُ إِعياءَ

خَفِيَت عَنِ القاضي وَفاتَ نَصيبُها ... مِن رِفقِ جُندٍ قادَةً نُبَلاءَ

وَالسُنُّ تَعصِفُ كُلَّ قَلبِ مُهَذَّبٍ ... عَرَفَ الجُدودَ وَأَدرَكَ الآباءَ

دَفَعوا إِلى الجَلّادِ أَغلَبَ ماجدًا ... يَأسو الجِراحَ وَيُعَتِقُ الأُسَراءَ

وَيُشاطِرُ الأَقرانَ ذُخرَ سِلاحِهِ ... وَيَصُفُّ حَولَ خِوانِهِ الأَعداءَ

وَتَخَيَّروا الحَبلَ المَهينَ مَنِيَّةً ... لِلَّيثِ يَلفِظُ حَولَهُ الحَوباءَ

حَرَموا المَماتَ عَلى الصَوارِمِ وَالقَنا ... مَن كانَ يُعطي الطَعنَةَ النَجلاءَ

إِنّي رَأَيتُ يَدَ الحَضارَةِ أولِعَت ... بِالحَقِّ هدمًا تارَةً وَبِناءَ

شَرَعَت حُقوقَ الناسِ في أَوطانِهِم ... إِلّا أُباةَ الضَيمِ وَالضُعَفاءَ

يا أَيُّها الشَعبُ القَريبُ أَسامِعٌ ... فَأَصوغُ في عُمَرَ الشَهيدِ رِثاءَ

أَم أَلجَمَت فاكَ الخُطوبُ وَحَرَّمَت ... أُذنَيكَ حينَ تُخاطَبُ الإِصغاءَ

ذَهَبَ الزَعيمُ وَأَنتَ باقٍ خالِدٌ ... فَاِنقُد رِجالَكَ وَاِختَرِ الزُعَماءَ

وَأَرِح شُيوخَكَ مِن تَكاليفِ الوَغى ... وَاِحمِل عَلى فِتيانِكَ الأَعباءَ.

 عُمَرُ بن مُخْتارِ بن عُمَرَ المَنفِيُّ..  أحد أشهر المقاومين العرب والمسلمين

السيّد عُمَرُ بن مُخْتارِ بن عُمَرَ المَنفِيُّ «20 أغسطس 1858-الموافق 10 محرم 1275هـ - 16 سبتمبر 1931- الموافق 3 جمادى الأولى 1350هـ»، الشهير بعُمر المختار، الملقب بشيخ الشهداء، وشيخ المُجاهدين، وأسد الصحراء، هو قائد أدوار السنوسية في ليبيا، وأحد أشهر المقاومين العرب والمسلمين، و ينتمي إلى بيت فرحات من قبيلة منفة الهلالية التي تنتقل في بادية برقة.

حارب عُمر المختار الطليان «الإيطاليين» مذ كان عمره 53 عامًا لأكثر من عشرين عامًا في عدد كبير من المعارك، إلى أن قُبض عليه من قِبل الجنود الطليان، وأُجريت له محاكمة صوريّة انتهت بإصدار حكم بإعدامه شنقًا، فنُفذت فيه العقوبة مع أنّه كان كبير السن ومريضًا، فقد بلغ في حينها 73 عامًا وعانى من الحمّى. وكان الهدف من إعدام عمر المُختار إضعاف الروح المعنويَّة للمقاومين الليبيين والقضاء على الحركات المناهضة للحُكم الإيطالي، لكن النتيجة جاءت عكسيَّة، فقد ارتفعت حدَّة الثورات، وانتهى الأمر بأن طُردت القوات الإيطالية من البلاد.