رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


مصطفى الشربيني: مصر تصنع مستقبلها الأخضر وتحوّل التحديات المناخية إلى فرص للريادة

20-9-2025 | 10:46


الدكتور مصطفى الشربيني

أ ش أ

لم تعد قضايا المناخ مجرد نقاشات نظرية أو تحذيرات مستقبلية، بل أصبحت واقعا يفرض نفسه على الجميع، وبينما تبحث دول العالم عن حلول مبتكرة للتكيف مع هذه التحديات، برزت مصر كنموذج إقليمي ودولي في تحويل الأزمات البيئية إلى فرص للتنمية والريادة. 

وفي هذا السياق، أجرت وكالة أنباء الشرق الأوسط حديثا مع الدكتور مصطفى الشربيني، الخبير الدولي في الاستدامة وتقييم مخاطر المناخ ورئيس الكرسي العلمي للاستدامة والبصمة الكربونية في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم والرئيس التنفيذي لمعهد الاستدامة والبصمة الكربونية في مصر، الذي كشف فيه عن رؤيته لدور مصر المتنامي في مواجهة التغير المناخي، والفرص التي يتيحها الاقتصاد الأخضر، بالإضافة إلى إستعراضه لمشروعات رائدة مثل "درع مصر الأزرق"، كمنظومة ذكية لحماية الشواطئ وتوليد الطاقة وامتصاص الكربون، والاعتماد على الطحالب كموارد طبيعية صديقة للبيئة لدعم الاقتصاد الأزرق.

وأكد الدكتور مصطفى الشربيني، أن الدولة المصرية استطاعت خلال السنوات الأخيرة أن تضع نفسها على خريطة العمل المناخي العالمي من خلال مبادرات ومشروعات غير مسبوقة.. موضحا أن القيادة السياسية جعلت قضية المناخ أولوية وطنية، وهو ما انعكس في خطط واستراتيجيات متكاملة تشمل الطاقة والمياه والزراعة والنقل والاقتصاد الدائري.

وأضاف أن مصر لا تنظر إلى التغير المناخي باعتباره تحديًا فقط، بل كفرصة لإعادة صياغة اقتصادها على أسس أكثر استدامة، بما يعزز من مكانتها كدولة رائدة في المنطقة ويفتح أمامها أبوابًا جديدة للاستثمار والتعاون الدولي.

البصمة الكربونية.. أداة للتنافسية وليس عبئًا

وأوضح الدكتور مصطفى الشربيني، أن البصمة الكربونية هي ببساطة المقياس العلمي لكمية غازات الاحتباس الحراري التي يسببها أي نشاط بشري، سواء كان فردًا أو مؤسسة أو حكومة أو حتى دولة بأكملها، هذه الغازات وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز – هي المحرك الأساسي لظاهرة تغير المناخ التي تهدد البشرية جمعاء ، لكن ما يجعل البصمة الكربونية قضية محورية ليس الجانب البيئي فقط، بل الجانب الاقتصادي والسياسي فنحن اليوم أمام نظام عالمي جديد يعيد صياغة العلاقات التجارية والمالية على أساس الاستدامة والشركات التي لا تدير بصمتها الكربونية بدقة أصبحت مهددة بخسارة أسواقها، والدول التي لا تلتزم بمعايير خفض الانبعاثات تواجه ضغوطًا سياسية واقتصادية.

وأكد الشربيني، أن البصمة الكربونية أصبحت معيارًا عالميًا يحدد قدرة الدول والشركات على المنافسة في الأسواق الدولية ، وفي هذا السياق، تمتلك مصر فرصة كبيرة لتحويل هذا التحدي إلى ميزة تنافسية، فمن خلال التوسع في مشروعات الطاقة المتجددة، وتبني سياسات لخفض الانبعاثات، وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في الابتكار الأخضر، تستطيع مصر أن تقدم منتجات وخدمات منخفضة الكربون تتماشى مع متطلبات الأسواق الأوروبية والعالمية خاصة و أن المستقبل سيشهد تفضيلًا واضحًا للمنتجات الصديقة للبيئة، وهو ما يجعل مصر مؤهلة للعب دور قيادي في هذا التحول.

مصر نموذج في مواجهة التحديات المناخية

وأشار الشربيني إلى أن مصر من أكثر الدول التي تواجه تأثيرات مباشرة للتغير المناخي، مثل ارتفاع درجات الحرارة وتراجع الموارد المائية وزيادة الظواهر المناخية المتطرفة، إلا أنها استطاعت أن تحول هذه التحديات إلى فرص للإبداع والتنمية.

ففي مجال الزراعة، تبنت الدولة برامج للزراعة الذكية وتقنيات لتحسين إدارة المياه وتقليل الملوحة، ما يعزز الأمن الغذائي ويدعم المجتمعات الريفية، وفي قطاع المياه، توسعت مصر في إنشاء محطات تحلية حديثة، إلى جانب خطط لترشيد استهلاك المياه وإعادة استخدام مياه الصرف المعالجة، هذه السياسات تجعل من مصر دولة قادرة ليس فقط على مواجهة التغيرات المناخية، بل أيضًا على تصدير خبراتها لدول أخرى في المنطقة.

الطاقة المتجددة: رافعة اقتصادية جديدة

وشدد الشربيني على أن ما حققته مصر في مجال الطاقة المتجددة يعكس إرادة سياسية ورؤية استراتيجية واضحة، فمصر أصبحت تمتلك واحدًا من أكبر مشروعات الطاقة الشمسية في العالم (بنبان بأسوان)، وتعمل على مشروعات كبرى في مجال طاقة الرياح بالبحر الأحمر، فضلًا عن خطط طموحة لإنتاج الهيدروجين الأخضر.

وأكد أن هذه الإنجازات تجعل من مصر مركزًا إقليميًا للطاقة النظيفة، بما يتيح لها تصدير الكهرباء إلى أوروبا وأفريقيا، وجذب استثمارات ضخمة في مجال التكنولوجيا الخضراء، وخلق فرص عمل جديدة للشباب..منوها بأن التحول في قطاع الطاقة لا يعزز فقط الاقتصاد، بل يقلل أيضًا من الانبعاثات ويزيد من قدرة الدولة على تحقيق أهداف الحياد الكربوني.

CBAM فرصة وليست تهديدًا لمصر

وتحدث الشربيني عن آلية تعديل حدود الكربون الأوروبية (CBAM)،قائلا إنها تشريع أوروبي يهدف لمنع ما يُعرف بـ"تسرب الكربون" و الفكرة أن الشركات الأوروبية تخضع لقيود صارمة ضمن نظام تجارة الانبعاثات (EU ETS)، فإذا استوردت أوروبا منتجات من دول لا تطبق نفس القيود، فإن ذلك يخلق منافسة غير عادلة لذلك جاء CBAM ليقول: "إذا أردت أن تبيع في أوروبا، عليك أن تلتزم بنفس المعايير" و هذا يعني الإفصاح الكامل عن الانبعاثات عبر سلسلة التوريد، ودفع رسوم تعويضية إذا تجاوزت الحدود المسموح بها لذلك فان "CBAM" ليس مجرد أداة بيئية، بل أداة اقتصادية وجيوسياسية ووسيلة لدفع بقية العالم نحو تبني معايير خفض الكربون.

وأضاف الشربينى إن هذه الالية قد تبدو تحديًا لبعض الصناعات، لكنها في الحقيقة تمثل فرصة لمصر لإعادة هيكلة صناعاتها وتعزيز تنافسيتها..منوها بأن مصر بدأت بالفعل في إعداد الشركات لتطبيق معايير خفض الانبعاثات من خلال تشجيعها على قياس بصمتها الكربونية، وإعداد تقارير استدامة معتمدة، وتطوير خطط للتحول نحو اقتصاد منخفض الكربون وهذا التكيف المبكر مع هذه الآلية يمنح مصر أفضلية في الأسواق الأوروبية، ويجعل صادراتها أكثر قدرة على المنافسة عالميًا.

معهد الاستدامة والبصمة الكربونية.. ذراع داعم لمصر

وأوضح الشربيني أن معهد الاستدامة والبصمة الكربونية الذي يترأسه يعمل كذراع فني وعلمي داعم لمصر في مسيرتها نحو التحول الأخضر فالعمل يشمل إعداد تقارير دقيقة عن الانبعاثات، والتحقق المستقل منها، ووضع استراتيجيات لخفض الكربون وزيادة كفاءة الطاقة، إضافة إلى تقديم برامج تدريبية لبناء كوادر وطنية مؤهلة.

وأشار إلى أن حصول المعهد على أربع شهادات أيزو دولية في الجودة والإدارة البيئية والتعليم والصحة والسلامة المهنية، يعكس التزامًا بالمعايير العالمية ويمنح شركاءه ثقة كبيرة..مؤكدا أن هذه الخطوة تجعل من المعهد مركزًا إقليميًا قادرًا على تقديم الدعم ليس فقط لمصر، بل لدول المنطقة العربية أيضًا.

الطحالب.. مورد طبيعي لدعم الاقتصاد الأخضر المصري

وأعلن الشربيني أن مصر تمتلك إمكانيات ضخمة للاستفادة من الموارد الطبيعية مثل الطحالب، التي تعد من الحلول المبتكرة لمواجهة التغير المناخي ودعم الاقتصاد الأزرق، فالطحالب قادرة على امتصاص كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون، وإنتاج وقود حيوي وهيدروجين أخضر، إلى جانب دورها في معالجة مياه الصرف وتحسين التنوع البيولوجي..منوها بأن الطحالب يمكن أن تصبح أحد المصادر الأساسية لامتصاص الكربون بحلول 2035.

وأشار الخبير الدولى فى الاستدامة إلى أن دمج استزراع الطحالب ضمن استراتيجيات التنمية في مصر يمكن أن يفتح آفاقًا استثمارية ضخمة، من إنتاج المكملات الغذائية والأسمدة الحيوية إلى الصناعات الدوائية والكيماوية الصديقة للبيئة ، كما أن هذه المشروعات توفر فرص عمل خضراء للشباب، وتدعم رؤية مصر للتحول إلى اقتصاد أكثر استدامة..لافتا الى أن أهم التحديات التي تواجه استغلالها تشمل ارتفاع تكلفة الإنتاج، وصعوبات استخراج الزيت وإنتاجية الكتلة الحيوية، والحاجة إلى إدارة بيئية دقيقة لمزارع الطحالب البحرية، ولكن مع دعم القطاع الخاص، ونشر الوعي يمكن أن يحول هذه التحديات إلى فرص استثمارية مستدامة.

درع مصر الأزرق.. مشروع تحولي للاقتصاد منخفض الكربون

وذكر الشربيني أن تسارع التغيرات المناخية وتأثيرها على تآكل الشواطئ، يبرز الحاجة لاستخدام منظومة مرنة، ذكية منتجة للطاقة، وذات قيمة اقتصادية طويلة المدى، مقترحًا تنفيذ مشروع تحولي يقود مصر إلى اقتصاد أزرق منخفض الكربون.
وأضاف: "لدينا بحر يمكن أن يُنتج الكهرباء، وطحالب تمتص الكربون، وأمواج تُحرّك التوربينات، ورياحٌ تبني لنا مستقبلًا نظيفًا، لذلك آن الأوان أن نُحوّل البحر من خطر إلى فرصة، ومن عدو إلى شريك".

وأوضح أن بسبب تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة وذوبان الجليد القطبي، ارتفع منسوب سطح البحر.. ووفقًا لتقارير الهيئة الحكومية الدولية لتغير المناخ (IPCC)، قد يصل هذا الارتفاع إلى متر واحد بنهاية القرن، منوهًا بما قامت به الهيئة العامة لحماية الشواطئ بالتعاون مع وزارة الموارد المائية والري، خلال السنوات الماضية بتنفيذ مشاريع حيوية بإنشاء حواجز أمواج وبناء مصدات حجرية، والمشاركة في مشروع التكيف مع التغيرات المناخية بتمويل من صندوق المناخ الأخضر بقيمة 31.4 مليون دولار.

وتابع الشربيني أن "درع مصر الأزرق" ليس مجرد مشروع حماية، بل بنية تحتية استراتيجية متعددة الوظائف: تحمي، وتنتج، وتمتص الكربون، وتخلق اقتصادًا أزرق واعدًا، وتبني قدرات علمية وصناعية محلية قابلة للتصدير، إنه تصور جديد لتحويل البحر إلى ساحة إنتاج خضراء، وذلك عبر بناء منصات ذكية عائمة تمتد لمسافة 1500 إلى 2000 متر داخل البحر.

مؤتمر بيليم.. رسالة من الأمازون إلى العالم

وحول مشاركته في مؤتمر المناخ القادم بمدينة "بيليم" بالبرازيل، قال الدكتور مصطفى الشربيني، إننا نجهز حاليًا بوفد سفراء المناخ للمشاركة في المؤتمر، مشيرًا إلى أن أهم ما يميز هذا المؤتمر هو انعقاده بغابات الأمازون التي تمثل رئة حيوية لكوكب الأرض، إذ تسهم في امتصاص كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون.

وأوضح أن تمسك البرازيل بمدينة "بيليم" لاحتضان هذا المؤتمر المناخي يمثل رسالة قوية في حد ذاته، إذ تريد البرازيل من الحضور الدولي المرموق رؤية حجم الكوارث البيئية التي لحقت بالمدينة الفقيرة وبغابة الأمازون، كما ترغب بشدة في وضع قضايا الغابات والطبيعة في صلب نقاشات المؤتمر..لافتا إلى أن الحلول مع الطبيعة وخاصة القائمة على الأشجار تعد من أهم الآليات الضرورية للتكيف مع تغير المناخ.

مصر شريك فاعل في الجهود العالمية

وأكد الخبير الدولي، أن مصر لم تعد مجرد متأثرة بالتغير المناخي، بل أصبحت شريكًا فاعلًا في صياغة الحلول العالمية..موضحا أن استضافة مصر لمؤتمر المناخ COP27 في شرم الشيخ كانت نقطة تحول مهمة، حيث أظهرت للعالم قدرتها على جمع الدول والأطراف المختلفة حول مائدة واحدة للتوصل إلى حلول عملية.

وأصبحت نموذجًا إقليميًا في كيفية الموازنة بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة، ونجحت في تقديم صورة إيجابية تعكس قدرتها على الريادة في ملفات الطاقة والمياه والزراعة والنقل المستدام.

مصر.. قصة نجاح بيئي تلهم المنطقة

واختتم الدكتور مصطفى الشربيني، حديثه بالتأكيد على أن مواجهة التغير المناخي في مصر ليست ترفًا، بل شرطًا أساسيًا للبقاء والتنمية و أن الاستفادة من الفرص التي يوفرها التحول الأخضر تعزز الاقتصاد الوطني، وتفتح آفاقًا جديدة للابتكار والتوظيف، وتضع مصر في قلب الجهود الإقليمية والعالمية لتحقيق الاستدامة ، وعلى مستوى الأفراد فالممارسات المستدامة تبدأ من الوعي بالسلوك اليومي في استهلاك الطاقة والمياه والتقليل من النفايات واختيار المنتجات الصديقة للبيئة واستخدام وسائل النقل المستدامة كل هذه السلوكيات الصغيرة تتحول في مجموعها إلى قوة تغيير هائلة تساهم في خفض الانبعاثات وتعزيز ثقافة الاستدامة في المجتمع.

وقال: "مصر اليوم ليست فقط دولة تواجه التغير المناخي، بل دولة تصنع المستقبل الأخضر، إنها قصة نجاح بيئي يمكن أن تلهم المنطقة بأسرها، وتثبت أن الإرادة السياسية والرؤية العلمية قادران على تحويل الأزمة المناخية إلى فرصة للتقدم والريادة."