لم تكن حرب أكتوبر المجيدة مجرد مواجهة بالسلاح والذخيرة، بل كانت في جوهرها معركة وعي ومعلومات دقيقة، سبقت لحظة العبور وحسمت الكثير من تفاصيله، حيث يؤكد أبطال أكتوبر أن النصر ما كان ليتحقق لولا التخطيط المحكم الذي ارتكز على جمع المعلومات وتحليلها بدقة، لتصبح سلاحًا لا يقل أهمية عن الدبابة والطائرة والمدفع.
وقال عدد من الأبطال خلال حديثهم مع وكالة أنباء الشرق الأوسط إنه منذ ما بعد نكسة 1967، أدركت القيادة العامة للقوات المسلحة أن استعادة الأرض والكرامة لا يمكن أن تقوم على الحماسة وحدها، وإنما على معرفة كاملة بتحركات العدو ونقاط ضعفه وقوة تحصيناته، مشيرين إلى دور المخابرات الحربية ورجال الاستطلاع الذين خاطروا بحياتهم خلف خطوط العدو لجمع أدق البيانات، لتتحول هذه المعلومات إلى خرائط وخطط عملياتية أذهلت العالم، ومهّدت للملحمة الكبرى في السادس من أكتوبر 1973.
وأشار أبطال العبور إلى أن كل طلقة رصاص وكل ضربة مدفع في الحرب كانت مبنية على معلومة مؤكدة، فالمعركة لم تكن عشوائية، بل اعتمدت على دقة التوقيت وحساب المسافات وتقدير قدرات العدو.
ولعل أعظم ما يميز حرب أكتوبر أن المصريين نجحوا في تحويل المعلومات إلى خطط خداع إستراتيجي أربكت العدو وأفقدته القدرة على التوقع، فكان النصر تجسيدًا حيًا لمعنى أن "المعلومة الصحيحة قد توازي في قيمتها كتيبة كاملة في ميدان القتال".
في هذا الإطار، قال العميد عادل فودة، قائد «المجموعة قمر» التي عملت خلف خطوط العدو خلال حرب أكتوبر، إن المجموعة استمرت في أداء مهمتها الاستخبارية لمدة 166 يومًا، انطلقت في 6 أكتوبر وعادت إلى خطوطنا يوم 21 مارس 1974.
وأضاف العميد عادل فودة أن دور إدارة المخابرات الحربية في حرب أكتوبر كان محورياً لا ينكره أحد، موضحًا أن عناصر المخابرات الحربية والاستطلاع كانوا «العيون» التي وفّرت للقيادة كل المعلومات الضرورية عن العدو.
وأكد أن هذه المعلومات كانت الأساس الذي بُني عليه التخطيط العملياتي للقوات المسلحة، ما مكّن القيادة من تجهيز القوات واتخاذ القرارات الصائبة استنادًا إلى بيانات دقيقة حول تحركات العدو وقدراته وتحصيناته.
وتابع: "لقد نجحت المخابرات الحربية، بمجهود عناصرها، في جعل العدو أشبه بكتاب مفتوح أمام قيادتنا.. حتى أن قائد العدو نفسه أقر بعد الحرب بأن المصريين فرشوا سيناء برادارات بشرية ترى وتسمع وتُحلل، وهو اعتراف بقيمة المعلومات البشرية في ميدان القتال، ويسعدني أن أكون أحد هؤلاء الرادارات البشرية".
وأوضح فودة أن مهام مجموعته كانت تعمل فعلاً "داخل أحشاء العدو" — أي خلف خطوطه العميقة ــ وكانت مسؤوليتها جمع المعلومات عن الأسلحة والمطارات ومراكز القيادة، وقد أسهم الرصد في استهداف مراكز حيوية وتمكين القوات من تدمير بعضها خلال الأيام الأولى للقتال.
وتابع: "رغم أن مدة المهمة المقررة لمجموعته كانت سبعة أيام فقط، فإن الظروف فرضت استمرار العمل إلى 166 يومًا متواصلة، عاشَ خلالها عناصر المجموعة ظروفًا قاسية من انقطاع الإمداد عن طعام أو ماء، لكن الإيمان بالواجب والتدريب الشاق والإرادة الصلبة مكّنهم من إتمام مهمتهم والعودة سالمين".
وخاطب فودة الشعب المصري قائلاً: "لا بد من أن نلتف جميعًا حول قيادتنا السياسية والعسكرية كما كان الحال إبان نصر أكتوبر؛ حين اتحد كل المصريين على قلب رجل واحد.. ذلك الانسجام الداخلي كان سندًا لقواتنا في الميدان، وأتاح لها التركيز على مهمتها دون قلق على الجبهة الخلفية".
واختتم بتوجيه نصيحة إلى الشباب أن يحملوا على عاتقهم أمانة الأجيال السابقة، وأن يتعلموا من تضحياتهم ويتفهموا أن غياب الإمكانات في الماضي لم يمنع الأبطال من تحقيق ما كانوا يطمحون إليه.
ورغم توفر التكنولوجيا الحديثة اليوم، دعا الشباب إلى استلهام العزيمة والانضباط والاحترافية في تجارب الآباء والأجداد، ليواصلوا حماية الوطن والذود عنه.
بدوره، أكد اللواء أحمد إبراهيم كامل رئيس جهاز الاستطلاع الأسبق بالقوات المسلحة وأحد أبطال حرب أكتوبر أن الوقائع تؤكد أن الملاحم الوطنية لم تُكتب بين ليلة وضحاها، فالفترة التي أعقبت هزيمة 1967 مثلت منعطفًا حاسمًا، واستغرق التصحيح واستعادة القدرة القتالية للمؤسسة العسكرية واستنهاض الشعب نحو رفض الهزيمة سنوات طويلة.
وقال اللواء أحمد إبراهيم كامل إنه في تلك الحقبة، كان الجيش المصري - منبثقًا من الشعب ومن خلاله - يشارك في مشروع قومي شامل لإعادة بناء القوات المسلحة، وضحى الشعب والتف حول مؤسسات الدولة وقدم تضحيات جسامًا لتحقيق جاهزية عسكرية تسمح بخوض معركة استرداد الأرض والكرامة، ولعل ما يطلق عليه العسكريون «ديناميكية القوة» كان جوهر هذا الجهد وكيف نُنمّي ما هو متاح لدينا اليوم ونستثمِرُه لمواجهة نقائص وبواعث الضعف.
وأشار إلى أن القوات المصرية واجهت تحديات كبيرة على طريق العبور، فاستدعت طبيعة المهمة إبداعًا فكريًا ومناورة ذهنية لتعظيم الاستفادة من الموارد المحدودة، وقد تجلّت هذه المرونة الفكرية في حلول مبتكرة لتجاوز عقبات الساتر الترابي وقناة السويس والمانعات الدفاعية.
واستطرد قائلا: "ومن خلال التفكير خارج الصندوق ومراعاة واقع الميدان، نجحت القوات المسلحة في تذليل العديد من الصعوبات التي أعاقت عملية العبور".
وذكر أن العبور في المفهوم العسكري ليس مجرد عبور مائي فحسب؛ بل هو اقتحام منظّم لمنطقة تحميها قوات ومدافع وتحصينات، وكانت قراءة الوضع الإسرائيلي وتتبّع تحركاته عاملين أساسيين في التخطيط المصري، وفعلًا، شكّلت المعلومات الدقيقة قاعدة للعملية، حتى بدا العدو، وفق تقدير القيادات، كـ«كتاب مفتوح» أمام مخططات القوات المسلحة.
ونوه إلى أن عناصر الاستطلاع بقواتنا المسلحة تابعوا خطوات العبور وقرأوا ميدان المعركة بدقة، متابعا: "أقول بصراحة إن خط بارليف وتلك التحصينات التي كُلف إنشاؤها نحو 30 مليون دولار لم يكن حصناً لا يقهر كما رُوِّج له.. بفضل منظومة جمع المعلومات العاملة من خلف الخطوط، حيث تمكنا من كشف تكوين الخط ونقاط الحصانة فيه ومدى التجهيزات الهندسية والمواقع المخصصة للتسليح والاحتياطيات القريبة.. وهذه المعلومات كانت اللبنة الأساسية في كل مراحل التخطيط".
وذكر أنه خلال تنفيذ التمهيد النيراني والضربة الجوية، أثبتت المعلومات دقتها وقيمتها، حيث حققت الضربة الجوية أهدافها بنسبة تقارب 96%، وهو ما جعل الموجة الثانية من الضربة الجوية غير ضرورية؛ لأن معظم الأهداف الحيوية دُمرت في الموجة الأولى، مشيرا إلى أن هذا النجاح لم يكن صدفة، بل هو ثمرة عمل الاستطلاع وتحليلنا للمعلومات وتحقيق عنصر المفاجأة.
وتابع قائلا: "لقد كان لنا دور محوري في عملية الخداع الاستراتيجي المتعلقة بعبور قناة السويس، وهو خداع صمّم لإرباك العدو وإخفاء توقيت ومواقع الهجوم.. كلنا، من المخابرات إلى عناصر الاستطلاع إلى القيادات الميدانية، شاركنا في صنع تلك المفاجأة التي أربكت العدو وخلّفت أثرها في النتائج الأولى للمعركة".
ووجه اللواء أحمد إبراهيم كامل حديثه مخاطبًا شباب مصر قائلا: "لا تحتفلوا بالمجد فقط، بل احذروا أيضًا.. عدونا غادر وجبان.. والوعي الوطني والحس الأمني عند الشباب ضرورة لا تقل أهمية عن السلاح، وعلينا أن نُبقي يقظتنا تجاه التهديدات في كل الاتجاهات الاستراتيجية للدولة حيث علمنا التاريخ أن المعلومة الصحيحة والالتفاف الوطني هما اللذان يحميان الوطن ويصنعان النصر".