رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


متى لا نعتبره "أدب مناسبات"؟

5-10-2025 | 14:09


السيد نجم,

لعل تعلقنا الحميم والفرح بمنجز معارك أكتوبر 73 وما قبلها، وقد حُسمت بالجهد السياسي حتى نالت مصر كل سيناء وعادت أرضها طاهرة مقدسة وشريفة.. هذه الرؤية الطموحة عبرت عما يكنه المصري والعربي من إعزاز وتقدير – عن حق – لمنجز الانتصار وعودة سيناء.
امتزج الطموح والفرح بقدر من الانفعال يتجدد عامًا بعد عام.. ألا وهو أن ما تم إنتاجه أدبيًا وفنيًا عن انتصار 73 أقل مما تم إنجازه على الأرض. وهو ما يتجدد السؤال حوله عامًا بعد عام، مما يلزم معه التوقف قليلًا ورصد الواقع المتاح والمنتج في مقابل ما نرجوه جميعًا من معطيات أدبية وفنية.
في كتابه «خريدة القصر وجريدة العصر»، جمع العماد الأصفهاني الأشعار التي مجدت صلاح الدين الأيوبي وانتصاراته، ثم سجل في مقدمة كتابه أن الشعر لم يواكب الحدث، وها هي ذي المقولة نفسها ترددت حول الذاكرة الثقافية/ الإبداعية لأحداثنا الكبرى، فأصبح السؤال: كيف يواكب الإبداع التعبير عن انتصار أكتوبر 73؟
في البدء.. العمل الإبداعي يقع في دائرة السؤال القديم/ الجديد: هل هو انعكاس مباشر للحياة الواقعية؟ إذن بماذا يتميز عن لغة الحياة اليومية التقريرية؟ وإن كان مستقلًا عن الواقع.. بما سينتهي إليه؟ هل إلى عالم مثالي منعزل؟ ليصبح السؤال: كيف يمكن للعمل الإبداعي أن يظل مستقلًا ومتصلا بالواقع، من دون الوقوع في المحاكاة أو الشطط؟
نظرة تاريخية.. المتابع للمنتج الإبداعي العربي سوف يتوقف أمام عدد من الملاحظات. ففي النثر العربي قبل الإسلام، اقتصر على ما يمكن أن نطلق عليه الفن الحكائي (القصصي تجاوزًا)، والخطب في الأسواق، ونوادر السمر، لم يحرص أحدهم على تسجيلها (بسبب نقص وسائل التسجيل، فيما عدا الذاكرة البشرية التي وجدت في الإيقاع والموسيقى الشعرية عونًا للحفظ والاحتفاظ بالمنتج الشعري).
مع ذلك، للعرب حكاياتهم وقصصهم وأساطيرهم التي يمكن أن نطلق عليها نصوصًا بطولية. كما كل شعوب العالم لها هذان الضربان من القص.. المروي والمكتوب. للهند «المهابهاراتا»، وللفرس «الشاهنامة»، ولليونان «الإلياذة».. وللعرب «أيامهم»، و«دون كيشوت» في إسبانيا، و«الأيام العشرة» لإيطاليا.
إجمالًا يمكن القول بأن الاختلاف بين الشعوب في موضوع القص، أن أغلب الشعوب اهتمت بأسلوب الحكي وجماله أكثر كثيرًا مما هو الحال في القصص العربي الذي بدا أسلوبه مهلهلًا، وتأليفه ركيكًا.. (مصطفى عبد الشافي/ التراث القصصي عند العرب).
أغلب الظن أن القص انفصل عن التاريخ، وبدا مستقلًا بعد نزول القرآن.. فكانت قصص الأولين والأمم الماضية، وتحدث عن الأنبياء، وهو ما أفرز القصص الديني. كما اعتاد الخلفاء على الاستماع إلى القصاصين في مجالسهم، فكانت قصص أخرى غير التي يعرفها العامة.
ارتبطت القصة العربية القصيرة منذ نشأتها بالأساطير القديمة التي روت أحلام الإنسان البدائي وعلاقته بالمجتمع والطبيعة وما وراء الطبيعة، مثل إرم ذات العماد وعاد وثمود، وحديث العماليق كعوج بن عنق.. وغيرها، مما يشير إلى غلبة قصص البطولة أو السرد حول الصراع/ الحرب.
أيضًا ارتبط الشعر أو الكثير منه بأحداثهم المهمة، مثل قصيدة «مهلهلية» في يوم البسوس.. والمعلقات (وقد غلب عليها القصائد القصصية).
إن أربعًا من المعلقات السبع تتناول «الحرب»، وهي معلقات: عنترة بن شداد، زهير بن أبي سلمى، عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة. والناقد القديم محمد بن سلام الجمحي هو صاحب نظرية نضوج الشعر العربي قبل الإسلام بالحرب. كما أن ابن سلام في كتابه «طبقات فحول الشعراء» أرجع قلة الشعر عند أهل قريش والطائف وعُمان إلى قلة الحروب.
فيما ترى "ريتا عوض" في كتابها «بنية القصيدة الجاهلية» أن مقولة ابن سلام لها وجاهتها.. تقول: "أما ربط الشعر بالحرب فيحتاج إلى مناقشة لعدة أسباب، منها: أن جانبًا كبيرًا من الشعر الجاهلي لم يلتفت إلى الحرب.. كما أن الشاعر العربي لم يواكب الفتوحات الإسلامية (التي هي حروب)!
بل هناك من تناول الحرب من زاوية أخرى.. رفض الحرب، كتب "جميل بن معمر" شاعر الغزل يقول:
(يقولون جاهد يا جميل بغزوة/ وأي جهاد غيرهن أريد/
لكل حديث بينهن بشاشة/ ولكل قتيل بينهن شهيد)
يمكن الجزم بأن اهتمام العرب بالأيام تم فيما بعد، كما فعل ابن الأثير (جمع حوالي السبعين يومًا)، والميداني (جمع مئة وثلاثين يومًا)، والأصفهاني وغيرهم. المهم توصلنا لبعض قصص العرب في الجاهلية.. منها قصة امرئ القيس يوم دارة جلجل، وقصة عمرو بن كلثوم مع الملك عمرو بن هند، وغيره.
وكتبت القصيدة العربية رفيعة المستوى (في موضوع الحرب) على يد اثنين من فحول الشعر العربي: أبو تمام (المتوفى 231 هجرية)، ففي فتح المعتصم «عمورية» كان مولد أول قصيدة حربية ناضجة بعد الإسلام.. في بائية أبي تمام يقول:
فتح عمورية تعالى أن يحيط به .. نظم من الشعر أو نثر من الخطب
فتح تفتح أبواب السماء له .. وتبرز الأرض في أثوابها القُشُب
أما أبو الطيب المتنبي فيصفه البعض بأنه شاعر الحرب الأكبر، واللافت أنه جاء والأمة العربية/ الإسلامية في حالة من التحلل الحضاري أو تكاد. الطريف أن الشاعر خلد قائدًا لم تتفق معه الوثائق التاريخية وهو سيف الدولة الحمداني! وقال فيه:
ولست مليكًا هازمًا لنظيره .. ولكنك التوحيد للشرك هازمًا
فالانتصار ليس بين ملكين، بل هو انتصار الدين والتوحيد على الشرك.
هنا يبرز السؤال: هل من علاقة بين الأحوال الاقتصادية والسياسية على الثقافة والإبداع تحديدًا؟ كل ما سبق يشير إلى أن هناك انفصالًا بين النضج الثقافي ومن ثم الإبداعي، والنضج الاقتصادي والسياسي؟
نقول بما قال به البعض: إن الانحلال الاجتماعي والاقتصادي عند العرب قبل الإسلام لم يمنع النضج الثقافي.. فيما يرى البعض الآخر أن أجمل وأعظم منجز شعري عن «الحرب» انتشر وراج مع ظروف اقتصادية وسياسية ليست على ما يرام.. وبذلك نرى أن ما أنتجته القريحة المصرية حول حدث هام مثل انتصار أكتوبر 73 مع قلة تداوله، لا يرجع إلى أسباب تخصه من حيث الجودة الفنية، بل ترجع إلى أسباب قد يعتبرها البعض بعيدة، مثل أن تحولت تلك القصائد والقصص والروايات ثم الأفلام والمسرحيات (على قلتها) إلى ما يعرف بأدب المناسبات. بينما الواقع والواجب يلزمانا أن نجعله قبلة للصغير والكبير، ونضيف إليه ما يستجد مما يعرف بأدب المقاومة.. ولا نغفله حتى يتعرف العامة والخاصة عليه.