في ذكرى رحيله.. ننشر آخر حوار لبيرم التونسي في دار الهلال
تحل اليوم ذكرى رحيل عبقري الشعر بيرم
التونسي ، وفي تلك الذكرى تغوص الهلال اليوم في حياة التونسي من خلال كنوزها التي
رصدت في حينها الحوار الأخير مع بيرم التونسي قبل رحيله بأيام معدودة.
ومن لسانه أفاد بيرم لتونسي لمحرر الكواكب في حديث نشر بعدد 17 يناير 1961 ، أنه
من مواليد 1893 بحي السيالة في الأسكندرية ، وقال أن لقبه التونسي وصحيح أنه ينحدر
من من أصل تونسي وكما يشهد لقبه بذلك يشهد بياض وجهه وزرقة عينيه ، ولكن لا تجد
أثراً للتونسية في في روحه المصرية الصميمة، فكل قطرة في دمه وكل عاطفة في قلبه
مصرية.
حاور محرر الكواكب الشاعر الكبير بيرم التونسي بعد أن انتظره على المقهى المفضل له
بميدان زين العابدين ، حيث أتي التونسي وقد بدا عليه الكبر وأصبح عجوزاً محني
الظهر ، يحمل في يده اليسرى حقيبة صغيرة وفي يده اليمنى سيجارة يشد منها في شغف ،
ثم يقف ليلتقط أنفاسه ، وقد أقبل على ركنه المنزوي في المقهى وألقى بحقيبته على
كرسي بجواره وأخرج ورقة وقلماً وراح يكتب .
لم يكن بيرم التونسي يهتم بالضوضاء المنبعثة من الراديو أو من صوت رواد المقهى أو
الشارع ، فقد كان ذلك المقهى البلدي الذي اتخذ فيه ركنا يهبط عليه إلهام الشعر
والكتابة .. كان بيرم التونسي في ذلك الوقت يكتب حلقات رواية الظاهر بيبرس ، وفي
المقهى نادى على الجرسون يطلب منه فنجاناً
من القهوة وقد انتشى لأنه فرغ من كتابة الحلقة 73 من الرواية.
سأله محرر الكواكب : هل كنت تفضل أن تكون الجائزة التي حصلت عليها في عيد العلم
مالاً ؟
فأجابه بيرم : أولاً أحب أن أسجل شكري للرئيس جمال عبد الناصر وللدولة التي
تذكرتني في هذه المناسبة ، ولا أنكرك القول أنني دائماً في حاجة إلى المال ..
وأرجو أن تتذكرني الدولة عندما أموت وإلا يندثر إسمي.
ــ ابتعدت في أزجالك عن الهجوم اللاذع ؟
ــ نعم أقر وأعترف أني قد تغيرت ، وتغيرت نظرتي للحياة ، فقد كنت شديد الوطأة على
من أتناولهم في الهجوم ، فلما تجاوزت الشباب رأيت الحكمة في التغاضي عن المهاترات
، وأن أترك الفرصة للشتامين أن يستوفوا مني الديون القديمة ، ولست أرى حرجاً في
ذلك ، فقد سبقتهم إلى الهجو المقذع ، ولكن أرجو ألا ينسى هؤلاء أنني قط ، وللقط
مخالب لا يحجم عن استعمالها إذا حاول أحد أن يتصدى لقوته.
يروي بيرم التونسي عن بداياته التي
جذبته إلى الشعر والأدب فيقول:
شغفت بالمطالعة وأنا طفل في السابعة ولم أفهم غير القصص الشعبية الشائعة آنذاك
منها قصة السلك والوابور والفقر والإسكافي ، وكانت ملاحم زجلية تستهوي الأطفال
والشباب ، وزاد شغفي لما سمعتها ملحنة على دفوف المداحين ، ومنها قصصاً عن بطولات
السيد البدوي وإبراهيم الدسوقي ، وحفظت ذلك كله.
ويستطرد التونسي : كنت أسير خلف الأدباتية الشحاذين الذين يلقون أشعارهم على
الجالسين على المقاهي وكانوا يلقون الأشعار موقعة على "دربكة" يحملها
تابع الأدباتي وكنت شديد الإعجاب بأوزانهم المرتجلة .
وأكد بيرم التونسي أن محصوله الأدبي جاء من هذه المصادر ، وقد عرف طريق مكتبة
البلدية عندما بلغ الثانية عشر من عمره ، واستعار مجلة الإستاذ التي كان يصدرها
عبد الله النديم التي تحتوي على الأزجال السياسية .
في السادسة عشر من عمره تأرجح التونسي بن المدارس الأهلية ومصنع الحرير الذي تركه
والده له تحت وصاية أحد المغاربة في الأسكندرية بحي الميدان ، وبعد عامين تزوج
التونسي وأنجب طفلان ، ثم ماتت زوجته قبل أن يغادر البلاد منفياً ، وقد تزوج بعد
ذلك وأنجب من زوجته الثانية .
الحب لم يدق باب بيرم التونسي ، فقد أكد أنه دائماً كان على "الحديدة"
والمرأة في نظره لا تحب الرجل المفلس ، والمتتبع لأدب التونسي يرى أنه لم يكن فيه
إمرأة واحدة ، نعم كان يشعر بالجمال ويعشقه ولكن لا وجود للحبيبة في أشعاره .
وعن سبب نفيه إلى فرنسا أجاب التونسي بأنه أخرج مجلة المسلة عقب اندلاع ثورة 1919
دون إذن من إدارة الداخلية، وكتب تحت عنوانها "المسلة لا جريدة ولا
مجلة" ، وكانت هذه المجلة هي السبب في نفيه ، حيث أصدرها بمقطوعة زجلية عن
زواج الملك فؤاد الأول تحت عنوان "البامية السلطاني" ، وتم نفيه بسببها
إلى فرنسا ومن فرنسا سافر إلى تونس وواجه كدر العيش وعمل في كل مهنة غير الأدب ،
فقد عمل حمالاً في مصنع للبيرة وفي مصنع سيارات فرنسية وفي مصنع للحرير وآخر
للبسكويت ، ولما أضناه الحال تسلل إلى مصر في غفلة من العيون .. وفي ذلك قال زجلاً
:
غلبت أقطع تذاكر
وشبعت يارب غربة
بين الشطوط والبواخر
ومن بلادنا لأوروبا
كانت آخر كلمات بيرم التونسي للمحرر قبل أن يستأذن منه للإنصراف من المقهى : هأنذا
الآن كما تراني متنقلاً بين دور الصحف والفنانين والإذاعة والتليفزيون والحمد لله
على كل حال ، لقد بدأت كفاحي منذ زمن بعيد ومازلت أسير في الطريق .. لكني أشعر أن
الموت قريب مني .. والله ولي النعم .