إن لذكرى السادس من أكتوبر في قلب كل مصري مكانة لا يزاحمها مقام، وضياء لا تطفئه الأيام، فهي ليست ذكرى معركة عسكرية فحسب، وإنما هي شاهد خالد على أن الأمة إذا صدقت مع الله وأخلصت للوطن أيدها الله بنصر من عنده.. في هذا اليوم ارتفعت صيحات الله أكبر في سماء الصحراء فاهتزت القلوب وأشرقت الأرض بنور العزيمة، وكتب الله لمصر نصرًا أعاد لها الكرامة، ورفع رايتها عاليةً بين الأمم.
لقد كان السادس من أكتوبر يومًا فريدًا في تاريخ الأمة، إذ اجتمع فيه إيمان الجنود مع صبر الشعب، وحكمة القيادة مع وحدة الصف؛ فصنع الجميع ملحمة لا تضاهى، فرأينا جنودًا يعبرون الحصون والأسلاك بصدور مؤمنة، وأيد طاهرة حملت السلاح لا ابتغاء دنيا، وإنما طلبا لحق مغصوب وكرامة مهدورة، وشعب صامد يرسل دعاءه مع كل سجدة، وأم تنام على دموعها في غياب فلذة كبدها لكنها تستيقظ على يقين أن دماءه أمانة لحماية الأرض والعرض.
في خنادق القتال كان الجندي المصري يجمع بين العبادة والجهاد، يقيم الصلاة على رمال الصحراء فيخضع الرمل بخشوعه ويرفع البصر إلى السماء متوكلًا على الله وفي يده السلاح، وفي قلبه إيمان لا يتزعزع. لقد أدرك أن الأرض التي باركها الله لا تسترد إلا بالدماء الطاهرة، وأن النصر لا يهبط من السماء إلا على قوم عقدوا العزم وبذلوا الجهد وصبروا على الابتلاء.
إن النصر وقتها لم يكن نصرًا عسكريًا فحسب؛ بل كان نصرا للأمة كلها، لقد كان الشعب هو الجبهة الخلفية التي سندت الجيش بالصبر والدعاء وتحولت البيوت إلى قلاع من التضحية، فأم قدمت أبناءها للمعركة راضية محتسبة، وأب باع زينته ليدعم جيش بلاده، وطفل ادخر مصروفه ليشعر أنه شريك في النصر، وامرأة تودع زوجها وتهمس في أذنه امض فالله معك والوطن يستحق، لقد انتصرت مصر لأن الجميع أدرك أن المعركة ليست معركة بنادق وحدها، بل معركة عقيدة وصبر وإيمان.
إن نصر أكتوبر يذكرنا بأن الله تعالى وعد بالنصر لمن جاهد وصبر، قال تعالى: "إِن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"، ولقد نصر الله مصر حين اجتمع أبناؤها على قلب رجل واحد؛ فصدق وعده وأيدهم بمدده وكتب لهم الخلود في سجل البطولات والتضحيات.
وإذا كانت ذكرى أكتوبر تمر بنا كل عام، فإنها ليست وقفا على التمجيد والاحتفال؛ بل هي عهد متجدد نؤكد فيه أننا على درب الآباء سائرون، وأن دماء الشهداء التي روت أرض الوطن هي أمانة في أعناقنا، نردها وفاءً وإخلاصًا وحفاظًا على كل شبر من تراب مصر الغالية، وأننا باقون على العهد صفًا واحدًا كالبنيان المرصوص، لا تنال منا الفتن ولا يفرقنا عدو.
سلام على شهداء أكتوبر الذين ارتقوا بأرواحهم إلى بارئهم وهم يرددون "الله أكبر"، وسلام على رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فما وهنوا وما بدلوا تبديلا، وسلام على شعب عظيم أثبت أن الإيمان إذا اجتمع مع الوطنية، فإنه يصنع معجزات خالدة تظل تتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل.
وهكذا تبقى ذكرى انتصارات أكتوبر علامة مضيئة في تاريخ أمتنا، تزرع فينا الثقة بأن هذا الوطن عصي عن الانكسار ما دام أبناؤه متلاحمين وجيشه مرابطًا وشعبه مخلصًا يرددون جميعًا كلمة الحق ويستلهمون من بطولات الشهداء طريقًا لغدٍ مشرقٍ.