في ذكرى رحيلها.. نعيمة الصغير من صوتٍ عذب إلى ملامح صنعت أسطورة الشر في السينما
تحل اليوم ذكرى وفاة الفنانة القديرة نعيمة الصغير، إحدى أكثر نجمات السينما المصرية إثارة للانتباه وارتباطًا في ذاكرة الجمهور، ليس بصفتها بطلة رومانسية أو نجمة استعراضية، وإنما باعتبارها الوجه الأشهر لأدوار الشر في تاريخ الشاشة.
فهذه السيدة التي أخافت أجيالًا كاملة بملامحها الحادة ونبرة صوتها الغليظة، حملت بداخلها قصة إنسانية قاسية، صنعت منها فنانة استثنائية أعادت تعريف الشر على الشاشة، وقدمته بصورة لا تُنسى.
ولدت نعيمة الصغير في الإسكندرية عام 1931، وبدأت حياتها الفنية بعشق كبير للغناء، حيث امتلكت صوتًا جميلًا وطبقة مختلفة أهلتها للغناء في بداياتها، وظهر ذلك جليًا عندما شاركت بصوتها في فيلم "اليتيمتان" عام 1948 مع فاتن حمامة وفاخر فاخر، وفي تلك الفترة كانت تحلم بالوصول كمطربة، ولم تكن تفكر في التمثيل، فقد كانت تتعامل مع الفن كمساحة للغناء أولًا، وتنتظر أن يلتفت الجمهور والنقاد لصوتها لا لشكلها أو حضورها التمثيلي.
لكن الرحلة لم تكتمل بالشكل الذي تمنته، فداخل كواليس الوسط الفني تعرضت لما يمكن وصفه بالطعنة التي غيرت مصيرها إلى الأبد، فقد دبرت إحدى زميلاتها مؤامرة بدافع الغيرة بعدما رأت في صوتها تهديدًا مباشرًا لمستقبلها الفني، فقامت بوضع مادة سامة في فنجان الشاي الذي كانت تشربه نعيمة دون أن تشعر بالخطر.
مرت نعيمة بتجربة قاسية بين الحياة والموت، ونجت بمعجزة بفضل بنيتها الجسدية القوية، لكن الثمن كان فادحًا، إذ تحولت حبالها الصوتية بالكامل إلى حبال تالفة، وفقدت صوتها الرقيق للأبد، وخرجت من المحنة بصوت أجش مختلف تمامًا عما كانت.
اعتقدت نعيمة في البداية أن الحادثة أنهت حياتها الفنية، لكن ما ظنته نقمة تحول مع الوقت إلى نعمة قادرة على فتح أبواب جديدة، إذ لفت صوتها الأجش أنظار المخرجين الذين وجدوها مناسبة تمامًا لتجسيد شخصيات الشر والقسوة والجبروت. وهكذا بدأت مرحلة جديدة في حياتها، وأصبحت السينما وجهتها الأساسية، لتقدّم أعمالًا تركت أثرًا لا يُمحى على الجمهور، وبفضل قدرتها على تجسيد الشر بعمق وصدق، بات حضورها قويًا على الشاشة حتى في الأدوار القصيرة، لأنها كانت تملك كاريزما قادرة على احتلال المشهد دون مجهود مفتعل.
قدمت نعيمة الصغير خلال مشوارها الفني ما يزيد عن 180 عملًا سينمائيًا، وتألقت في أفلام كبيرة أثبتت موهبتها، وكان من أبرز محطاتها تعاونها مع المخرج العالمي يوسف شاهين في فيلم "إسكندرية ليه"، حيث ظهرت في دور أقرب إلى طبيعتها الحقيقية كإحدى فنّانات المونولوج، وهو الدور الذي أكد قدرتها على الأداء الطبيعي دون مبالغة، وجعل النقاد يعيدون النظر في إمكانياتها الفنية بعيدًا عن الصورة النمطية للشر.
وبرغم براعتها في شخصيات المرأة القاسية، لم تتخل نعيمة عن غريزة الفنانة الحقيقية التي تبحث عن التواصل مع الجمهور، فعادت إلى الغناء بطريقتها في سنواتها الأخيرة، من خلال أداء مونولوجات وإعلانات بصوتها الذي صار علامة سينمائية مسجلة.
وكانت ذروة شهرتها الشعبية عندما قدمت شخصيتها الأشهر "أمنا الغولة" في فيلم "العفاريت" مع عمرو دياب ومديحة كامل، وهو الدور الذي حفر اسمها في الذاكرة الجمعية لجيل كامل من الأطفال الذين شاهدوها بعيون خائفة وقلوب مبهورة في آن واحد.
ورحلت نعيمة الصغير عن عالمنا في 20 أكتوبر عام 1991 عن عمر ناهز الستين عامًا، تاركة إرثًا فنيًا ضخمًا وشخصية لا تتكرر على الشاشة، فقد كانت الوحيدة القادرة على أن تجعل الشر فنًا راقيًا لا صراخًا ولا مبالغة، وأن تمنح القسوة ملامح إنسانية يمكن تصديقها والتعاطف معها أحيانًا. وبرغم أنها لم تحصل على البطولة المطلقة في حياتها، فإن تأثيرها ظل أكبر من مساحات أدوارها، وأعمق من حضور الكثير من البطلات اللاتي تصدرن الأفيشات دون أن يعلقن في ذاكرة المشاهد كما علقت هي.