لم يكن افتتاح المتحف الكبير مجرد احتفال بافتتاح أحد المشروعات بل هو حدث ينطق بمكانة مصر وقدرها بين الأمم وجاءت رسائل الرئيس السيسي بمثابة وثيقة فكرية تعبر عن رؤية متكاملة لمكانة مصر في التاريخ الإنساني ودورها المستمر في صياغة الوعي الحضاري للعالم حيث يتجلى وعي عميق بمعنى الحضارة والإنسان والسلام حيث انطلق الرئيس في حديثه من فكرة محورية مفادها أن الحضارة المصرية ليست مجرد تراث ماض بل نبع متجدد من الإلهام الإنساني فمصر القديمة لم تكن حضارة محلية مغلقة بل كانت شعاعا من النور امتد من ضفاف النيل إلى شعوب الأرض ومن هذا المنطلق ربط الرئيس بين التاريخ والحاضر مؤكدا أن افتتاح المتحف المصري الكبير ليس عملا أثريا بل فعل استمرارية حضارية يجمع بين عبق الماضي وروح العصر.
أعاد الرئيس تعريف مفهوم الحضارة في سياق إنساني راق فالحضارة لا تبنى بالحروب أو الغلبة بل في أوقات السلام وتزدهر حين تتشارك الشعوب في بنائها وهنا تتجلى رؤية فلسفية تجعل من مصر نموذجا لتفاعل الإبداع الإنساني عبر العصور كبلد يرى في التفاهم والتعاون طريقا للبقاء والتقدم فقد حملت كلمات الرئيس في جوهرها تمجيدا للإنسان المصري بوصفه صانع التاريخ الحقيقي فالمتحف ليس فقط مكانا لحفظ الآثار بل شهادة على عبقرية الإنسان المصري الذي امتلك عبر القرون قدرة فريدة على البناء والإبداع والخلود ومن خلال هذا الطرح يعيد الرئيس صياغة مفهوم الوطنية على أساس القيم العملية العمل والصبر والإخلاص والقدرة على تجاوز التحديات فالإنسان المصري ليس مجرد وريث لمجد الأجداد بل فاعل جديد يكتب سطرا جديدا في كتاب الحضارة.
واستحضر الرئيس صورة جيل المعاصرين من المهندسين والعاملين والباحثين الذين أنجزوا هذا الصرح ليضعهم في امتداد طبيعي لبناة الأهرام ونقاشي المعابد في رؤية تقدم الوطنية كاستمرارية في العطاء لا كحنين إلى الماضي وتتسع الرسالة من الإطار الوطني إلى الإطار الإنساني إذ يؤكد أن الحضارة المصرية ملك للبشرية كلها وأن المتحف المصري الكبير يجب أن يكون منبرا للحوار ومقصدا للمعرفة وملتقى للإنسانية وهذه الدعوة تجعل من مصر صوتا عالميا للسلام وبلدا يحتضن التنوع الثقافي ويحتفي به وجاء امتنانه الخاص لدولة اليابان ليشير بوضوح إلى أن الحضارة الحديثة لا تقوم إلا على التعاون بين الأمم وفي بعد رمزي عميق فإن الحديث عن وضع القطعة الأخيرة باسم مصر يمثل لحظة تعلن اكتمال الصرح بوصفه رمزا لتاريخ طويل من الإبداع وفي المقابل فتوزيع قطع تحمل أسماء الدول المشاركة يجسد فكرة المشاركة الإنسانية في صون التراث العالمي أما عروض الافتتاح من رمسيس الثاني إلى مراكب الشمس وتوت عنخ آمون فتمثل تجسيدا بصريا لقصة الخلود المصرية فهي لا تعرض بوصفها آثارا جامدة بل كحكايات حية تربط بين الإنسان والنيل وبين الأرض والسماء لتذكر الجميع بأن الحضارة المصرية كانت ولا تزال حضارة حياة لا حضارة حجر وأن الثقافة أداة بناء وليست ترفا فالمتحف فضاء للتفكير المشترك وتبادل الخبرات بين الشعوب ما يجعله مؤسسة تعليمية وثقافية تتجاوز حدود العرض إلى فضاء للتنوير حيث يصبح التراث وسيلة لإعادة قراءة الذات والآخر وعلى الرغم من أن الخطاب انطلق من الماضي إلا أنه موجه نحو المستقبل فهو يصف الافتتاح بأنه فصل جديد من تاريخ الحاضر والمستقبل ما يعني أن المتحف لا يمثل خاتمة لمسار بل بداية لمرحلة جديدة في المشروع الثقافي المصري وهذه النظرة المستقبلية تحول المتحف إلى رمز للنهضة الحديثة وتعيد تعريف علاقة مصر بماضيها على أساس التطوير والاستلهام لا التكرار أو الجمود فالتاريخ في هذا التصور ليس ذاكرة تروى بل طاقة تستثمر فمصر لم تكن يوما متحفا للتاريخ بل مصنعا للمستقبل ورسالة مصر للإنسانية لم تنته بعد وستبقى تنشر من ضفاف النيل أنوار الحكمة وتعلم العالم أن المجد الحقيقي يبنى بالسلام وأن الإنسان هو أعظم أثر في سجل الخلود.