بينما يدخل اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس شهره الثاني، وبضغط قوي من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للحفاظ عليه وتثبيته، يبدو أن وقف إطلاق النار هذه المرة سيصمد ، فقد عاد عشرات الآلاف من جنود الاحتياط الإسرائيليين إلى عائلاتهم ووظائفهم، وصمتت صافرات الإنذار التي طالما حذرت من الصواريخ القادمة، وتم الإفراج عن آخر الرهائن، ما يعني أن إسرائيل تبدأ حقبة ما بعد الحرب.
وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أن مرحلة محاسبة ما بعد الحرب يجب أن تبدأ هي الأخرى. فمع انتهاء القتال، تلوح في الأفق تساؤلات حول الاتجاه الذي ستسلكه إسرائيل لاحقا: هل ستبتعد عن سياسات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اليمينية المتشددة؟ أم ستشهد انفتاحا، ولو محدودا، على إمكانية التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين؟ .
وترى المجلة الأمريكية أن المدخل الطبيعي لهذه المحاسبة هو تشكيل لجنة تحقيق رسمية في الإخفاقات التي أدت إلى هجوم السابع من أكتوبر 2023، وما تلاه من حرب دامية. فتقليديا، اعتادت إسرائيل على إنشاء مثل هذه اللجان بعد كل فشل وطني كبير، كما حدث بعد حرب أكتوبر 1973، لتحديد المسؤوليات واستخلاص الدروس. لكن نتنياهو، الذي لم يعترف حتى الآن بأي مسؤولية عما جرى، يرفض تماما فكرة اللجنة. أما الساحة الثانية المحتملة للمساءلة فهي الانتخابات العامة، المفترض إجراؤها قانونا قبل أكتوبر 2026، إلا أن نتنياهو يبدو عازما على تأجيل هذا الاستحقاق أيضا .
وأشارت المجلة إلى أنه رغم الجمود السياسي، إلا أن هذه الحرب، التي تعد الأطول في تاريخ إسرائيل والأكثر دموية، أدت إلى عزلة دولية غير مسبوقة وشعور بالحرج لدى كثير من الإسرائيليين في الخارج، فيما هزت قضية الرهائن الوجدان الإسرائيلي. وفيما لم يحرك الدمار الهائل وسقوط عشرات الآلاف من الفلسطينيين الغالبية داخل إسرائيل أثناء الحرب، إلا أن هذه الحقائق قد تثير لاحقا أسئلة أخلاقية مؤرقة حين تهدأ موجة الغضب.
ولفتت المجلة إلى أنه حتى الآن، لا تعكس استطلاعات الرأي داخل إسرائيل أي تحول سياسي ملموس. فالمعسكر المؤيد لنتنياهو، الذي يضم حزب الليكود إلى جانب أحزاب اليمين المتطرف والأحزاب الدينية المتشددة، لم يفقد كثيرا من شعبيته، بينما ظل معسكر المعارضة متقدما نسبيا دون أن يحقق أغلبية مضمونة في الكنيست من دون دعم الأحزاب العربية، أي أن ميزان القوى بين الكتلتين لم يتغير فعليا منذ ما قبل الحرب.
وفي ظل هذا الوضع، يبدو أن نتنياهو يفضل تأجيل الانتخابات إلى أقصى حد ممكن، على أمل أن تنسى الجماهير إخفاقاته. لكن فرص بقاء حكومته حتى خريف العام المقبل تتضاءل. فقد انسحب الحزبان المنتميان إلى الحريديم (شاس ويهودوت هتوراه) من الإئتلاف احتجاجا على فشل الحكومة في تمرير قانون يعفي طلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية، ما أفقد الحكومة أغلبيتها في الكنيست. كما تمردت أحزاب اليمين المتطرف داخل الإئتلاف على نتنياهو، وأيدت مشروع قانون لضم الضفة الغربية رغم معارضته.
ونوهت "فورين بوليسي" إلى أنه حتى إن قرر نتنياهو الاستمرار على رأس حكومة أقلية، فسيواجه استحقاقا حاسما في 31 مارس المقبل، إذ يتعين عليه تمرير موازنة 2026 قبل هذا التاريخ، وإلا تحل الحكومة تلقائيا وتجرى انتخابات خلال 90 يوما. وبرغم مهاراته السياسية الاستثنائية، وفقا للمجلة، تبدو مهمته شبه مستحيلة وسط هذا التشرذم.
وبالنسبة لخياراته، تؤكد المجلة الأمريكية أنها ليست كثيرة. فأحدها أن يعتزل الحياة السياسية مقابل عفو رئاسي عن قضايا الفساد والاحتيال التي يحاكم فيها. ويبدو أن بعض حلفائه يلمحون لهذا السيناريو، لكن احتمالات حصوله على عفو دون تنحيه عن السياسة تبقى ضعيفة جدا.
وأوضحت المجلة أنه في حال خروجه من المشهد، سيجد حزب الليكود نفسه في فراغ قيادي، حيث تحول الحزب في عهد نتنياهو إلى مجموعة من التابعين بلا شخصية سياسية بارزة يمكنها خلافته.
ودللت المجلة على ذلك بالإشارة إلى نتائج استطلاع للرأي، حيث لم يعرف نصف المستطلعين من قد يكون القائد البديل، بينما تصدر المدير السابق للموساد يوسي كوهين بنسبة تأييد متواضعة لم تتجاوز 10 في المئة، وقد أعلن مؤخرا أنه غير مهتم بالمنصب.
وفي حال استمر نتنياهو في الحكم، فسيحاول إقناع الإسرائيليين بأن الحرب انتهت بـ"نصر كامل"، وأنه لم يجبر على القبول بوقف إطلاق النار بضغط من ترامب. غير أن الواقع، واستمرار وجود حماس في غزة، وتصريحات ترامب نفسه، تقوض هذا السرد.
وفي مقابل ذلك، يجد اليمين المتطرف نفسه في مأزق بعد انتهاء الحرب، إذ فقد منصة التعبئة القومية التي اعتمد عليها. ومن أجل استعادة الزخم، يروج قادته لاحتمال استئناف القتال قريبا، رغم أن الإدارة الأمريكية تبدو هذه المرة أكثر التزاما بإنهاء الحرب نهائيا. وكمحاولة بديلة، يدفع قادة هذا التيار باتجاه تسريع ضم الضفة الغربية، رغم معارضة ترامب لذلك.
وفي هذا الإطار، تتزايد المخاوف من أن يحاول المستوطنون المتطرفون إشعال مواجهة جديدة في الضفة الغربية لتعويض غياب الحرب في غزة، من خلال تكثيف اعتداءاتهم على الفلسطينيين.
ورغم أن هذه السياسات قد ترضي القاعدة اليمينية المتشددة، إلا أنها لن توسع من شعبيتها داخل إسرائيل.
أما الأحزاب الدينية المتشددة، فتواجه هي الأخرى مأزقها الخاص. فبعد أن أثبتت الحرب ما وصفته المجلة ب "حجم التضحيات العسكرية"، أصبح الإعفاء من التجنيد قضية شديدة الحساسية، تجعل الاستجابة لها شبه مستحيلة سياسيا. لذا، تحاول تلك الأحزاب التمسك بخيوط ضعيفة داخل الإئتلاف لتفادي انهياره، لكنها تعلم أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر طويلا.
وفي الجهة المقابلة، تبدو المعارضة الإسرائيلية -وفقا للمجلة- منقسمة وضعيفة القيادة، إذ يسعى نفتالي بينيت، الذي قاد حكومة قصيرة العمر عامي 2021-2022، إلى تقديم نفسه كخيار بديل لنتنياهو. وقد تصدر حزبه الجديد "بينيت 2026" استطلاعات الرأي مؤخرا، لكن شعبيته ما زالت هشة وقابلة للتآكل مع اقتراب موعد الانتخابات. وحتى إن نجح في توحيد معسكر المعارضة حوله، فسيواجه صعوبة في الحفاظ على تماسكه نظرا لاختلاف توجهات أعضائه.
ولكن، يجب هنا الانتباه إلى أن المعارضة لا تقدم حتى الآن رؤية مختلفة بقدر ما تعبر عن رفض لسياسات نتنياهو. لذا، قد تكون الانتخابات المقبلة، حال استمرار الوضع بالنسبة للمعارضة كما هو، بعيدة عن أي تحول تاريخي، بل ستكون استمرارا للواقع القائم وربما حتى عودة نتنياهو مجددا.
وعليه، ربما لا يقود فشل التغيير إلا إلى انفجار سياسي وشعبي جديد، لكن طبيعته وأهدافه غير واضحة بعد، خاصة وأن الحرب لامست حياة كل أسرة إسرائيلية تقريبا، ما يجعل تراكم الغضب مسألة وقت. فلقد احتاج الإسرائيليون أربع سنوات بعد حرب 1973 ليعاقبوا قادتهم سياسيا في انتخابات 1977 التي أنهت هيمنة حزب العمل ودفعت البلاد نحو اليمين. فهل يمكن أن تؤدي حرب غزة إلى تحول مماثل؟ الجواب، كما يبدو الآن، ما زال مجهولا حتى بالنسبة للإسرائيليين أنفسهم، ولكن الفترة المقبلة كفيلة بالرد.