نفرتيتي.. الجميلة أتت
على ضفاف النيل الخالد، حيث نُقشت أعظم حضارة عرفتها البشرية، ولدت من رحم التاريخ امرأة تحدّت المألوف وكسرت القوالب النمطية، امرأة لم تكن مجرد زوجة لملك مصري قديم فحسب، لكنها كانت شريكة في الحكم، وقائدة في الإصلاح، وأيقونة للجمال تتحدى الزمن إنها الملكة «نفرتيتي».. «الجميلة أتت»، كما نطق اسمها قدماء المصريين، في القرن الرابع عشر ق.م، عصر الأسرة الثامنة عشرة في الحضارة المصرية القديمة.
وقفت الملكة «نفرتيتي» إلى جانب زوجها الملك «أخناتون»، لتُشعل ثورة دينية غيّرت مجرى التاريخ، كانت زوجة ملكية تزيّن البلاط بحضورها، وكانت الوسيط بين السماء والأرض، والداعية الشريكة الأولى لعبادة «آتون»، قرص الشمس الذي أضاء مصر بنوره، ورغم مكانة «نفرتيتي» الرفيعة، اختفت أخبارها بعد وفاتها، تاركة وراءها ألغازًا لا تنتهي، وسيرة أسطورية ما زالت تشغل العلماء وعشاق التاريخ حول العالم.
وستبقى «نفرتيتي» رمزًا للقوة النسائية في عصر لم تكن فيه النساء يحكمن عادة، فقد مثلت الاستثناء الذي أصبح قاعدة، والثورة التي أصبحت تاريخًا، فأصبحت واحدة من أقوى النساء وأشهرهن في تاريخ مصر القديمة وامتدت سيرتها وشهرتها إلى العالم حتى يومنا هذا وستبقى شهرتها خالدة حتى نهاية العالم.
منزلة رفيعة ومصير غامض
تمتعت الملكة«نفرتيتي» بمنزلة رفيعة استثنائية أثناء حكم زوجها الملك أمنحوتب الرابع الذي غيّر اسمه لاحقًا إلى «أخناتون»، وحملت لقب «الزوجة الملكية العظيمة» وشاركته في إحداث ثورة دينية غيّرت وجه مصر القديمة، لكن مثلما حدث مع زوجها، تم محو اسمها من السجلات التاريخية وتشويه صورها بعد وفاتها، مما جعل الكثير من تفاصيل حياتها لغزًا محيرًا للباحثين حتى اليوم، وعاشت الملكة فترة قصيرة بعد وفاة زوجها، وساعدت «توت عنخ آمون» على تولي العرش، لكن تاريخ وفاتها وظروفها ما زالا موضع جدل بين علماء المصريات.
أصول غامضة وروابط عائلية مثيرة للجدل
لا يُعرف شيء تقريبًا عن حياة «نفرتيتي» المبكرة قبل زواجها من «أخناتون»، و تشير النقوش في مقابر النبلاء بـ «العمارنة» إلى أن لها أختًا تدعى «موتبنرت»، وأن امرأة تدعى «تي» حملت لقب «مرضعة الزوجة الملكية العظيمة»
ويعتقد بعض الباحثين أن «آي»- الذي حمل لقب «أب الإله»، كان والد «نفرتيتي»، خاصة أن هذا اللقب كان يُطلق على الرجل الذي تزوجت ابنته من الفرعون، و لكن لم يُشر إلى آي أو تي صراحة كوالدين للملكة في أي من المصادر الموجودة، مما جعل هذه النظرية مبنية على التخمين.
وتقترح نظرية أخرى أن نفرتيتي كانت ابنة آي من زوجته الأولى التي توفيت قبل صعود نفرتيتي إلى منصب الملكة، كما طُرح احتمال كونها الأخت الشقيقة لـ «أخناتون»، رغم أن ألقابها لا تتضمن «ابنة الملك» أو «أخت الملك»، وهي الألقاب المعتادة لأقارب الملك المصري القديم.
الحياة الزوجية وستة بنات
التواريخ الدقيقة لزواج «نفرتيتي» من أخناتون غير مؤكدة، لكن من المعروف أنهما أنجبا ست بنات على الأقل، هن: ميريت آتون (التي ولدت في طيبة قبل الانتقال إلى أخت آتون)، مكت آتون، عنخس إن با آتون (التي تزوجت لاحقًا من «توت عنخ آمون» وغيّرت اسمها إلى «عنخ إسن آمون»، «نفرنفرو آتون تاشيري، نفرنفرو رع، وستب إن رع»، ورغم أن البعض اقترح كون «نفرتيتي» أمًا لتوت عنخ آمون، إلا أن دراسة وراثية أجريت على المومياوات المكتشفة نفت ذلك، وذكر أنها كانت حماة الفرعون الذهبي الشهير «توت عنخ آمون»
ثورة دينية ودور محوري للملكة« نفرتيتي»
شاركت الملكة «نفرتيتي» زوجها في الثورة الدينية التي أحدثها بتأسيس عبادة الإله الواحد «آتون» قوة قرص الشمس، وكانت هي وزوجها الوسيطين الوحيدين بين الشعب والإله، حيث يُفترض أن البركة الكاملة لا تُمنح إلا عندما يتحد الزوجان الملكيان.
خلال السنوات الأولى لحكم زوجها«أخناتون»، غيّرت «نفرتيتي» اسمها إلى «نفرنفراتون نفرتيتي»، الذي يعني «آتون يشرق لأن الجميلة قد أتت»، مواكبة للتغيير الديني الجذري.
وساندت الملكة «نفرتيتي» زوجها في الإصلاحات الدينية والاجتماعية، وانتقلت معه إلى العاصمة الجديدة «أخيتاتون» (تل العمارنة حاليًا)، وظهرت معه في الاحتفالات والطقوس الدينية، وفي المشاهد العائلية، بل وحتى في النقوش التقليدية للحملات العسكرية حيث صُورت وهي تقضي على الأعداء - وهو أمر غير مسبوق في تصوير الملكات المصريات.
أيقونة الجمال: التمثال الأشهر في التاريخ
تُذكر «نفرتيتي» اليوم بالتمثال النصفي الشهير لوجهها، المنحوت على قطعة من الحجر الجيري، والذي يُعد واحدًا من أروع القطع الفنية من العصر القديم، عثر على هذا التمثال عالم المصريات الألماني لودفيج بورشاردت في 6 ديسمبر 1912 م في ورشة النحات تحتمس بتل العمارنة.
نقل «بورشاردت» التمثال الكامل غير المخدوش إلى منزله في حي الزمالك بالقاهرة، ومن هناك هرّبه إلى ألمانيا مخفيًا ضمن قطع فخار محطمة غير ذات قيمة، بحجة إرسالها إلى برلين للترميم، ويوجد حاليًا في متحف برلين.
يوجد تمثال آخر لرأس نفرتيتي بالمتحف المصري بالقاهرة، منحوت من الكوارتزيت الأحمر ومزيّن بلمسات من المداد، وهو لا يقل في دقة الصنع عن الرأس الموجودة في برلين، لكنه أقل شهرة.
نهاية غامضة واختفاء مفاجئ
توفيت إحدى بنات نفرتيتي وأخناتون، وهي «مكت آتون»، وصُوّر حزنهما عليها في بعض الرسوم الجدارية. وبعد وفاة ابنتهما، اختفت نفرتيتي من البلاط الملكي وحلّت محلها ابنتها «ميريت أتون»، التي حصلت على لقب«الزوجة الملكية العظمى».
بعد العام الثاني عشر من حكم أخناتون، اختفت نفرتيتي تمامًا ولم يُعثر على أي ذكر لها في السجلات، و يعتقد بعض الباحثين أنها توفيت ودُفنت في مقبرة بأخت آتون، وأن «توت عنخ آمون» نقل مومياءها مع مومياء والده أخناتون عندما هُجرت أخت آتون.
البحث عن المومياء المفقودة
ومن غير المعروف حتى الآن ما إذا كانت هناك مومياء محفوظة للملكة نفرتيتي، في القرن التاسع عشر، عثر عالم الآثار الفرنسي فيكتور لوريت على سرداب جانبي في قبر «أخناتون» يحتوي على ثلاث مومياوات: واحدة لرجل واثنتان لنساء، إحداهن كانت أصغر سنًا من الأخرى.
وفي عام 2002م، أعلنت الباحثة البريطانية جوان فليتشر من جامعة نيويورك - وهي خبيرة في المومياوات - أن رفات المومياء الشابة تعود للملكة نفرتيتي، واصفة ذلك بـ «الاكتشاف الأروع في حياتها»، استندت فليتشر إلى الجودة العالية للتحنيط، والتشابه التشريحي مع أوصاف نفرتيتي، خاصة في الرقبة والكتفين والوجه.
كانت المومياء حليقة الرأس، مما يشير إلى ارتداء شعر مستعار خاص.، كما أظهرت الفحوصات آثار حزام جلدي على الجبين، وآثار قرطين في الأذن اليسرى شوهدا في صور سابقة للملكة«نفرتيتي»، وعُثر بالقرب من المومياء على يد مكسورة تمسك بصولجان - وهو رمز من رموز سلطة الفراعنة.
لكن هذا الادعاء أصبح محل جدال واسع، انتقد الدكتور زاهي حواس، وزير الدولة لشئون الآثار المصرية الأسبق والأمين العام السابق للمجلس الأعلى لحماية الآثار، الباحثة«فليتشر»، مؤكدًا أن المومياء لفتاة يتراوح عمرها بين 16-20 عامًا، في حين أن نفرتيتي كانت أكبر سنًا عند وفاتها.
ويدرس علماء المصريات حاليًا المومياء الثانية من قبر «أخناتون»، حيث توجد أوجه تشابه بينها وبين الملكة، ويُعتقد أن تحليل الحمض النووي سيكون الكلمة الفصل في تحديد هُوِيَّة المومياء، بعد أن ساعدت مثل هذه التحاليل في تحديد هُوِيَّة جدة «توت عنخ آمون» و«أخناتون» نفسه.
الكشف عن القبر المفقود؟
عجز علماء المصريات عن تحديد موضع قبر «نفرتيتي طيلة سنوات من البحث بعد اكتشاف قبر «توت عنخ آمون» في عام 2015 م، أعلن الدكتور نيكولاس ريفيس من جامعة أريزونا أنه ربما عثر على قبر الملكة، مفترضًا أنها دُفنت سرًا داخل قبر «توت عنخ آمون».
وأظهر المسح الضوئي الرقمي وجود بقايا لمكانين كانا يُستعملان كأبواب، مما دفع ريفيس لافتراض وجود ممر سري يؤدي إلى غرف دفن أخرى، واقترح أن هذا هو السبب الذي يجعل قبر «توت عنخ آمون» أصغر من سائر قبور ملوك مصر العظماء في الحضارة المصرية القديمة.
وتظل الملكة «نفرتيتي»، بجمالها الأسطوري وقوتها السياسية ونهايتها الغامضة، واحدة من أكثر الشخصيات إثارة للاهتمام في التاريخ المصري القديم، ولا يزال البحث عن قبرها ومومياءها يشغل علماء الآثار حول العالم.
اليوم، حيث تنبض الحضارة من جديد ف ي المتحف المصري الكبير، يستقبل زواره من كل أنحاء العالم، تعود «نفرتيتي» لتحكي قصتها من جديد، ليس من خلال تمثالها الشهير الذي يزيّن متحف برلين، ذاك الوجه الذي هُرّب من مصر منذ أكثر من قرن، ولكن من خلال آثارها الأخرى، ونقوشها، وإرثها الذي يملأ قاعات المتحف الشامخة، فهي قصة امرأة قررت أن تكون أكثر من مجرد ملكة، قصة ثورة لم تنتهِ رغم مرور الآلاف من السنين، قصة لغز لا يزال يُحيّر العالم.
نفرتيتي.. الجميلة أتت.. وتركت خلفها إرثاً لا يُمحى
ومع هذا الحدث المهيب بافتتاح المتحف المصري الكبير، انطلقت موجة غير مسبوقة على منصات التواصل الاجتماعي تطالب بعودة «رأس نفرتيتي» إلى مصر، فاجأ الجمهور الألماني العالم عندما طالبت الأغلبية بضرورة عودة نفرتيتي إلى مصر ووضعها في المتحف المصري الكبير، بعد استطلاع أجرته مجلة «دير شبيجل» الألمانية، حيث جاءت التعليقات صريحة: «الآن أصبح لدى مصر مكان مناسب، ويجب أن تعود نفرتيتي إلى وطنها»
وانتشر «فيديو قصير» أنتجته الدكتورة رضوى سامي، باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، ظهرت فيه الملكة «نفرتيتي» وهي تقول «أريد العودة إلى وطني» باللغة الإنجليزية، في رسالة مؤثرة أثارت موجة عارمة من التضامن الشعبي، أطلق الدكتور زاهي حواس، وزير الآثار الأسبق، وثيقة إلكترونية لجمع التوقيعات عبر الإنترنت، بهدف جمع مليون توقيع للمطالبة بعودة «رأس نفرتيتي» من متحف برلين.
واقترح مدونون عرض القطع النادرة مثل رأس الملكة «نفرتيتي» بتقنية الهولوجرام داخل المتحف المصري الكبير مع الإشارة لمكان تواجدها حاليًا، كوسيلة ضغط لاستعادتها. شارك مصريون في الخارج صورهم بجانب تمثال نفرتيتي وفي أيديهم لافتات تطالب بإعادته إلى مصر، في حملة شعبية غير مسبوقة تجاوزت الحدود الجغرافية
وتجددت المطالب عبر منصات التواصل الاجتماعي بشكل لافت، حيث توالت المنشورات التي تؤكد أن «الحجة الألمانية المتمثلة في عدم وجود مكان مصري مجهز لاستقبال التمثال سقطت عمليًا مع المتحف الذي يضم إمكانات وتجهيزات غير مسبوقة» فالملكة التي هُرّبت من أرضها منذ أكثر من قرن، أصبح لها اليوم بيت يليق بعظمتها، ينتظر عودتها.
نفرتيتي.. الجميلة أتت ذات يوم، وآن لها أن تعود
ونحن نتمنى ونأمل أن نشهد يومًا في المستقبل يستقبل فيه المتحف المصري الكبير، «رأس نفرتيتي» لتُروى من جديد حكاية الملكة التي تحدّت الزمن، وكسرت القوالب، واختفت تاركة وراءها أعظم الألغاز امرأة واحدة، وآلاف الأسئلة، وإرث لا ينتهي.. وحلم بالعودة لا يموت.