دولة التلاوة.. نبات البلد الطيب
لم تكن أرض مصر الطيبة عبر الزمان إلا أرض جود تنبت بالخير، وتجود بالكرم، تطرح ثمارا يانعة بهية زاهرة.
لم تعرف أرضنا الطيبة الجدب، لا تبور أو تعقم، تربة خصبة صالحة للزرع على الدوام.
يظن الناس أنها شاخت فإذا هي عفية شابة، يشيب الزمان ولا تشيب أبدا، وفى الوقت الذي يظن المتربصون أنها النهاية فإذا هي البداية من جديد، يسطع نور مصر، يسد عين الشمس، ويبدد ظلام الدنيا.
وحين يشرق نورها فهو سراج منير للعالمين، حقيقة لا مراء فيها ولا تخضع لقاعدة الجدل.
مصر العفية القوية البهية قوة للعالم كله، الأمر لا علاقة له من قريب أو من بعيد بالشوفينية ولكنه التاريخ، دروسه وعبره وما سجله عبر صفحاته التى كانت بدايتها أيضا من مصر، لم يكتب التاريخ حروفه الأولى إلا من هنا.
وضعت مصر أساس الحضارة للعالم، وكل من جاء بعدها نهل من معينها، كل العلوم والمعارف كانت بدايتها من هنا.
أثر مصر العظيم سيظل باقيا على العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه.
البصمة المصرية تركت أثرها على كل من مر من هنا، تفاعلت مع كل الحضارات الأخرى وأضافت لها، لم تكن مصر يوما جامدة أو متحجرة، وكتاب الأعمدة السبعة للشخصية المصرية للمفكر الراحل ميلاد حنا فصل وأفاض في شرح ذلك.
تضيف مصر ولا تنتقص أبدا من الحضارات الأخرى، دخلت المسيحية فاصطبغت بصبغة الحضارة المصرية والنوابغ من المصريين.
وجاء الإسلام وكانت مصر درة التاج في الحضارة الإسلامية وعلماؤها ومفكروها وفقهاؤها صاروا نجوما زاهرة في الفقه ومختلف العلوم الشرعية، ويكفينا فخرا أن من أرضها الإمام الفقيه المجدد الليث ابن سعد الذي مدحه الإمام الشافعي قائلا "الليث أفقه من مالك لولا أن تلاميذه لم يقوموا به".
اصطبغت الحضارة الإسلامية بالصبغة المصرية الخالصة وأضاف المصريون من روحهم على الدين الإسلامي، أحبوا آل بيت رسول الله، ولكنهم لم يتشيعوا ولم يغالوا في حبهم، واستقاموا على سنة رسول الله صلى عليه وسلم يدافعون، وينافحون عنها، ولكنهم أبدا لم يتطرفوا أو يتشددوا، نبذوا الإرهاب والتعصب، ولفظوا المتعصبين والإرهابيين، وثاروا ضد جماعة الإخوان الإرهابية عندما حاولوا اختطاف الدين والوطن.
وتبقى مصر منارة الإسلام الوسطي السمح، النبع الرقراق الصافي، كما نزل على خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، ومآذن الأزهر العالية الشامخة تبقى حصن الإسلام في العالم، من يريد التفقه في الدين لا يأمن على نفسه إلا في مصر.
الحضارة المصرية العظيمة نسيج واحد متصل لا منفصل، عروة وثقى لا انفصام لها، والشواهد دالة دامغة، المصري متدين بطبعه مقولة لا تقبل التندر أو السخرية، ولكنها الواقع والحقيقة.
تدين المصري فصل واحد منذ بدأت الحضارة على أرض النيل، لذلك يعشق المصريون حضارتهم فلم تكن إلا حضارة بناء وعمران، وتوحيد وعقيدة ومبادئ.
احتضنت مصر الإسلام، وأصبحت قلعته وحصنه الحصين، ومنارته عبر العصور والأزمنة، إنها مصر الأرض التي تجلى عليها الله.
والحالة التي أحدثها برنامج "دولة التلاوة" لا تنفصل عن السطور السابقة، بل هي نفس السياق، البصمة المصرية فرضت نفسها، وتبقى مقولة "نزل بمكة وقرئ بمصر" شاهدا ودليلا على تعلق المصريين بكتاب الله، لم يقرأ القرآن بأحكامه وتجويده إلا على أرضنا، والمدرسة المصرية في التلاوة شامخة، خالدة، متجددة، لا ينضب معينها.
بصمة قراء مصر العظماء، هي البصمة الرسمية لقراءة القرآن الكريم، يقرأ القرآن في كل العالم، ولكن تبقى المدرسة المصرية هي المتسيدة.
دولة التلاوة ليس مجرد برنامج، ولكنه حلقة من حلقات الجود الذي تنبت به أرض مصر الطيبة، ثمار طازجة جديدة، وزهور يانعة، تمتع الأسماع وتروي الأفئدة، وتطمئن القلوب.
التفاف المصريين حول البرنامج، ليس مفاجئا، ولكنه أمر طبيعي في سياقه الحضاري، شعب يمتلك إرثا حضاريا ضخما، ومهما طفى على السطح زبد فحتما سيذهب جفاء، لأن المصريين لا يغرسون إلا ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
التحية واجبة لكل من قام على أمر هذا المشروع العظيم "دولة التلاوة"، فهو مشروع بحق كتب له النجاح قبل أن يظهر إلى النور، غرس طيب في بلد طيب يخرج نباته طيبا بإذن ربه، وثماره سيجنيها العالم الإسلامي كله، بل والعالم أجمع وليس مصر فقط، وسيخرج من بين القراء الأفذاذ آلاف يزينون القرآن الكريم بأصواتهم الندية، ويكملون مسيرة العمالقة من الرعيل الأول.