الحديث عن الدكتور مراد وهبة أستاذ الفلسفة في جامعة عين شمس، والذي كان ينادي بفلسفة التنوير في المشهد العربي وأهميتها في المصالحة التاريخية بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل، بين الإسلام والحداثة، ومحاولته الدؤوبة في تأسيس مفهوم العلمانية في المنطق، والرؤى الفلسفية المرتبطة بها في عالمنا العربي، كانت بلا شك محاولة جادة لها كتابتها المؤسسة لموضوعية هذه المصالحة.
هو عضو في مجموعة من الأكاديميات والمنظمات الدولية العريقة في هذا المجال، منها الأكاديمية الإنسانية، والاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية، إضافة إلى عضويته في المجلس الأعلى للثقافة المصرية، كما أنه يرأس الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير، وقد ذُكر ضمن الموسوعات التي تضم الشخصيات العالمية الأكثر شهرة في مجالات الفكر والفلسفة. ومن مؤلفاته: “المذهب في فلسفة برجسون” 1960، “محاورات فلسفية في موسكو” 1977، “فلسفة الإبداع” 1996، “مستقبل الأخلاق” 1997، “جرثومة التخلف” 1998، “ملاك الحقيقة المطلقة” 1998، “الأصولية والعلمانية” 2005. ويرجع اهتمامه غير المسبوق بفلسفة ابن رشد القائمة على الفكر الذي نقل أوروبا القرن الـ16 من غياهب الظلام والجهل إلى آفاق النور والتنوير، والتنوير كمصطلح يشير إلى نشوء حركة ثقافية تاريخية قامت بالدفاع عن العقلانية ومبادئها كوسائل لتأسيس النظام الشرعي للأخلاق والمعرفة. من هنا نجد عصر التنوير جاء كبداية لظهور الأفكار المتعلقة بتطبيق العلمانية ومهمتها الأساسية في قيادة العالم نحو التطور والتحديث وترك التقاليد الثقافية القديمة والأفكار اللاعقلانية التي كانت سائدة في بعض العصور المظلمة.
وتاريخ الفلسفة كما رآه الدكتور مراد هو سجل لمجموعة الأحكام والتصورات التي أطلقها الفلاسفة على الوجود ككل، وعلى الكون في مجموعه، وعلى الحياة في معناها الشمولي، بكل ما اشتملت عليه هذه الأحكام وتلك التصورات من نظرات دينية الأحكام، وإنسانية الرؤية الفكرية، وتلك التصورات من نظرات أخلاقية وجمالية، وهي في حقيقتها لم تكن إلا تعبيرًا عن رؤى الفلاسفة وتجاربهم الذاتية. وهذه النظرة الفلسفية تواجدت عند العديد من منظري الفلسفة في رؤى علمية وأفكار ثابتة، فهي لا تتحدث عن الأشياء المادية في حد ذاتها مفترضة أن لها وجودًا ثابتًا دائمًا، والنتيجة لهذه النظرة أن تلوذ الفلسفة بالوجود الوحيد الذي تطمئن إليه؛ وهو الوجود المنطقي.
وقد حظيت فلسفة التنوير لديه على أهمية كبرى في اهتماماته الفلسفية، وهي الفلسفة الأم التي نشأت في عصر التنوير وكانت جزءًا فاعلًا في هذا العصر، قامت كحركة فكرية خلال مرحلة مهمة من تاريخ أوروبا الحديث؛ قام بها الفلاسفة والعلماء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث نادوا بقوة العقل وقدرته على فهم العالم وإدراك ناموسه وقوانين حركته، واعتمد فيه التنويريون على التجارب العلمية والنتائج المادية الملموسة الناتجة عنها بدلًا من الاعتماد على الخرافات والتأويلات الخيالية الحادثة فيها. ومن أهم أعلام التنوير كان فرانسيس بيكون المحامي الإنجليزي الذي طالب بالاعتماد على المنهج العلمي القائم على أساس من التجربة العلمية الخالصة، وبشر فيها بحالة جديدة تتحقق في المستقبل، عندما تصبح المعرفة مصدر القوة التي تمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة والحياة بكل مكوناتها، كذلك إسحق نيوتن، عالم الرياضيات، الذي قال بأن العالم يسير حسب مجموعة من القواعد الطبيعية تحكمها قوى حاضرة في عوامل الجاذبية، وأكد نيوتن أن في استطاعة الإنسان إذا اعتمد على نور العقل ونتائج التجربة تفسير الظواهر الطبيعية التي تحكمها قوى عوامل الجاذبية، وإدراك دوره في العالم المجهول والسير قدمًا إلى الأمام في سبيل حياة أفضل كلما كان العقل هو ديدنه في التفكير والتحليل والعمل.
لا شك أن تجربة التنوير كانت تجربة لها ثراؤها الخاص، وهي بجميع المقاييس العملية والعلمية يجب أن تُعاش كما صرح بها الدكتور مراد وهبة بحسب مفهوم سقراط، وهذا يؤكد على حيوية الذاكرة وأنشطتها في التذكر، والتحوط المطلوب في ضياع السرديات القديمة التي هي أفق التجربة كما قال عنها بول ريكور في كتابه (التاريخ، الذاكرة، النسيان). هذا الماضي البعيد أو القريب هو مرآة كاشفة عن الذاكرة/التاريخ، ولا بد من العناية بها للحفاظ على هذه الذاكرة الفاعلة في المساهمة بصياغة الهوية الخاصة بنا جميعًا.
وهذه الذاكرة الجمعية هي التي يحاول الدكتور مراد وهبة أن يحيل إليها في كل آرائه وأفكاره الحيوية التي ينادي بها لنصرة العصر ومثقفيه، ففي حوار معه حول دور المثقف تجاه التيارات التكفيرية الإرهابية والدور الإيجابي للمثقفين تجاه هذه التيارات؟ يجيب الدكتور مراد بأن المثقف يكتفي بإدانة الإرهاب، ويمتنع عن إزالته بالتوجه إلى قضايا أخرى لا علاقة لها بالإرهاب، مثل الفقر والجهل وغيرهما، لأن هذه الأمراض موجودة قبل الإرهاب وبعده، ولها حلول أخرى لا علاقة لها بالإرهاب. فالمثقف يقول دائمًا: إنه يوجد إرهاب، لكن ما سببه؟ سببه الفقر. هذه خديعة.
ويذكرنا بما حدث لنجيب محفوظ، من شاب جاهل طعنه بسكين، وسأله محفوظ إن كان قرأ “أولاد حارتنا” فقال: لا. فمن الذي قرأها؟ الذي قرأها مثقف قال للشباب أن يقتل نجيب محفوظ لأنه كافر. نجيب الذي أدى دوره التنويري بكتابة رواية “أولاد حارتنا”، ويشير الدكتور مراد إلى أنه أول من كتب عنها في جريدة “وطني” حين انتهى نشرها مسلسلة في الأهرام؛ لأني لمحت الدور التنويري في هذه الرواية، حيث جعل من “عرفة” رمزًا للعلم، ولا يعرف أحد من أين جاء، ولا أين ذهب؟ وهذا يعني أننا ضد العقل والعلم.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: أين دور المثقف الذي عاصر نجيب محفوظ؟ لقد أمضى المثقفون وقتهم في الالتفاف حول نجيب محفوظ والتسامر معه، من دون أن ينجزوا ما عليهم، وحين لمح نجيب محفوظ الدور المتخاذل للمثقف من حوله، أدرك أنه لن يكون سندًا له، وبالتالي – كما يشير الدكتور مراد – لا نطالب نجيبًا بأكثر من أنه كتب الرواية ونشرها، فهل يقتل نجيب محفوظ نفسه من أجل مثقف كل دوره أنه يتباهى بصداقة نجيب؟ أم أن المسألة هي الالتفاف معًا لتغيير الذهنية المصرية الحاضرة الآن؟
ومن أبرز وأهم من صنعوا الفلسفة فى مصر: الدكاترة مراد وهبة، عبد الرحمن بدوي، فؤاد زكريا، زكريا إبراهيم، حسن حنفي، عبد الغفار مكاوي، أحمد فؤاد الأهواني، أميرة بقطر، والأستاذ زكي نجيب محمود، والأستاذ محمود أمين العالم وغيرهم كثيرون ممن كانت الفلسفة ديدنهم في أعمالهم الفكرية والثقافية والرؤيوية، وقد درج كل منهم فى عالمه الفكري نحو القياس في نقاط محددة احتُفي بها وغاص في ملامحها المختلفة والمتنوعة. ويعتبر الدكتور مراد وهبة من أبرز من صنعوا لأنفسهم عالمًا فكريًا خاصًا به، ربط فيه الفلسفة مع الجوانب التنويرية الليبرالية للحياة المعاصرة من زوايا عدة، كان منهجه فيها يحمل زوايا تعتمد من أضواء التنوير وفلسفتها ملامح فكر ابن رشد علامات منهجية استخدمها في تحليل رؤاه الفلسفية والفكرية. لذا كانت كل الأسئلة التي طرقها ذات الأهمية الكبرى بالنسبة للعقول المفكرة، وكانت هي تقريبًا من ذلك النوع الذي باستطاعة العلم الإجابة عنه، كما أن إجابات اللاهوتيين الواثقين بأنفسهم لم تعد –على ما يبدو– مقنعة كثيرًا كما كانت في القرون الوسطى. ومثال هذه الأسئلة هو: هل العالم ينقسم بين العقل والمادة؟ وإن كان الأمر كذلك، فما السبيل إلى تحرير العقل والعكوف على ما تفرزه المادة، خاصة ما استطاع العلم الحديث أن يجود به ويطرحه على مستوى الواقع؟
من هنا كانت الفلسفة هي النظر في الأسئلة الوجودية الكبرى لتحقيق رؤية كونية عن العالم والكون والحياة، كذلك هي بحث فى الواقع يستهدف إيجاد حلول للمشكلات التي تؤرق الفرد والمجتمع. وقد قيل إنها روح عصرها وبنت بيئتها أيضًا، أي المعبر عن الواقع الذي ترتبط به، وتنشأ أفكارها منه، وحينئذ لا تشذ الفلسفة عن آمال وهموم الناس فتكون الأفكار التي تتمخض عنها أفضل ترجمان لطبيعة تفكير الناس وطبائعهم الخاصة والعامة. والحقيقة أنه ما المثقف فلسفيًا إلا من يشغل دورًا في المجال العام ويفكر فيه بحثًا عن حلول لمشكلاته، ولهذا قيل إن الفلسفة منعزلة عن الواقع وبعيدة عن أداء دورها في تحقيق مسؤوليتها تجاه الناس والحياة. ومن صحيح القول أن الفلسفة صناعة للمشكلات التي يعج بها الواقع، فهذه المشكلات التي تدهش عقل الإنسان وتدعوه للتفكير فيها بحثًا عن حلول لها مصدر من مصادر الفلسفة. فكل جواب وكل حل لمشكلة إنما هو في الأساس فكرة ومفهوم حققه العقل الإنساني وصار معرفة فلسفية تفيد كخبرة في التاريخ، وتجربة جاهزة للمستقبل ومعرفة بالتاريخ الذي نشأت فيه فلسفة من الفلسفات. إلا أن للدكتور مراد وهبة اتجاهه الخاص الذي أوضحناه في بداية هذا الطرح من الوجهة الفلسفية التي كان يعتمدها في حياته الفكرية، وكان منجزه الإبداعي هو السبيل والطريق الذي سار من خلاله نحو هذا العالم الفكري الحديث.
ففي كتابه “الأصولية والعلمانية” تحدث الدكتور مراد حول الحقيقة المطلقة المثيرة للتساؤل عن نشأتها ومبرر ملكيتها، فقال: “فلسفيًا يمكن القول بأن الإنسان، منذ نشأته، ينشد الحقيقة المطلقة بحكم أن العقل الإنساني ينزع بطبيعته نحو توحيد المعرفة الإنسانية. وهو من أجل ذلك يتجول في كل مجال من مجالات المعرفة، ثم هو يهضمها جميعًا، ويربط فيما بينها في وحدة عضوية بحيث لا يتيسر معه فصل عضو عن الكائن إلا بالقضاء عليه كله، ونزوع العقل نحو التوحيد هو في الوقت ذاته نزوع نحو المطلق. والإنسان ينشد الحقيقة المطلقة كذلك بحكم إحساسه بعدم السكينة في هذا الكون”.
وفي كتابه “العنف والمقدس” وهو جملة أبحاث مما كان مطروحًا في مؤتمر عقد عام 1981 تحت عنوان “الشباب والعنف والدين” تدور موضوعاته حول تحليل العلاقة بين العنف والمقدس في ضوء الظروف الحاضرة في ذلك الوقت الراهن الذي بدأ في البزوغ في السبعينيات من هذا القرن. أشار فيها الدكتور مراد وهبة إلى منطق هذا العنف بقوله: “ما لم يوجد بعد هو الحق..”. وهذه العبارة مناقضة لعبارة “هيجل” في مقدمته لكتابه “فلسفة الحق” حيث يقول: “إن مهمة الفلسفة هي فهم ما هو كائن، لأن ما هو كائن هو العقل. والبصيرة العاقلة التي تصالحنا مع ما هو واقعي تدور على إقرار أن العقل هو مثل الزهرة في صليب الحاضر، ومن ثم فهو الذي يمكننا من الاستمتاع بهذا الحاضر”.
ومعنى هذه العبارة أن هيجل يضع العقل في مستوى أفقي مع الواقع، ونحن نتفق ونفترق في قبول هذه العبارة، الاتفاق من حيث إن العقل يتجه إلى إدراك الواقع، ولكن الافتراق في أن هذا الإدراك لا يبدأ من الواقع الراهن، ولكن من الواقع المستقبلي، أي لا يبدأ مما هو كائن، ولكن مما سيكون. وهذه البداية مردودة إلى التمايز بين الإنسان والحيوان في علاقة كل منهما بهذا الواقع، ولبيان هذا التمايز يقول ماركس: “في نهاية أي عمل يصل الإنسان إلى نتيجة كانت قائمة في مخيلته عند بدء العمل”. ومعنى ذلك أن نشاط الإنسان ينطوي على فكرة “الغاية”، وأن فكرة الغاية تتجاوز الواقع من أجل العمل على تغييره.
ومن هذه الزاوية فإن العبارة – مفتتح هذا المقال – تكشف عن مفارقة وأعني بها أن الحقيقة لها علاقة عضوية مع ما هو ممكن وليس مع ما هو كائن. والنزاع بين ما هو ممكن وما هو كائن قائم منذ بداية الفكر الفلسفي. ففي الفلسفة اليونانية القديمة، العقل هو الملكة العارفة التي تميز بين ما هو حق وما هو باطل، من حيث إن الحقيقة هي شرط الوجود الواقعي، وبفضل هذه الوحدة بين الحقيقة والوجود الواقعي يكون الوجود أفضل من اللاوجود، فاللاوجود تهديد للوجود بل مدمر له، ولكني أرى المسألة على عكس ذلك، فالوجود الواقعي أو الواقع الراهن هو المهدد الحقيقي للوجود، لما هو ممكن، أو لما سيكون. ولهذا فعلى العقل أن يقيس الوجود باللاوجود، أي يقيس الكائن بما هو ممكن، وإذا كان هذا المقياس مقبولًا فإن ما سيكون هو البديل لما هو كائن”.
وفي كتابه “جرثومة التخلف” — ولعل هذا العنوان يضعنا أمام حجم القضية والإشكالية الكبرى في عالمنا العربي بسبب التباين وعزلة التخلف التي وضع فيها هذا العالم من الكتلة الاستعمارية الاستغلالية في عدم السماح لعالمنا العربي بالتقدم، بل والاستحواذ على ثرواته وعقوله الخلاقة لخدمة أغراضه ومصالحه الخاصة — يقول الدكتور مراد في كتابه “جرثومة التخلف”: “لا شك أن لهجرة المهنيين والمثقفين في الشرق الأوسط والبحر المتوسط آثارها العميقة في الوضع الحضاري المتخلف، فكيف يمكن أن نتغلب عليها؟
في تصوري أن قضية هجرة المهنيين تتبلور في “هجرة المثقفين”. ذلك أن مجتمعات الشرق الأوسط مجتمعات متخلفة، وليس المقصود بالتخلف المعنى الاقتصادي، وإنما المعنى الحضاري. ذلك أن هذه المجتمعات يغيب عنها عصران لا غنى عنهما في إزالة التخلف؛ وأعني بهما: عصر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، وعصر التنوير في القرن الثامن عشر.
العصر الأول هو عصر تحرير العقل من سلطان المؤسسة الدينية، والعصر الثاني هو عصر تحرير العقل من كل سلطان ما عدا سلطان العقل. وكان من شأن هذين العصرين أن استطاعت أوروبا أن تنتقل من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الرأسمالي ثم المجتمع الاشتراكي.
ومن هنا فإن المثقفين هم طليعة الطبقة الاجتماعية الصاعدة في أي تغير اجتماعي، وهم طليعة الطبقة البرجوازية في الثورة الفرنسية، وهم طليعة الطبقة العمالية في الثورة البلشفية.
ولهذا فإن هجرة المثقفين من مجتمعاتهم المتخلفة في الشرق الأوسط يحرم الطبقات الاجتماعية الصاعدة والراغبة في إزالة التخلف من عنصر قيادة جوهري”.
وينتقل الدكتور مراد وهبة للحديث عن قيمة التراث العربي ودوره الفلسفي في إثراء الفكر الإنساني، حيث يقول: “يمثل التراث العربي قيمة معاصرة ومستقبلية في آن واحد، ويعد عالم عربي مثل ابن رشد من الأسماء التي يجب أن تتصدر اهتمام الفكر العربي المعاصر، فهل لك أن تذكر، تحديدًا، القيمة التي ينطوي عليها؟
فى تصورى أن الإضافة التى أثْرى بها ابن رشد الفكر الإنسانى هى سلطان العقل الذى لا يعادله أى سلطان. يقول ابن رشد فى كتابه “فصل المقال”: “ونحن نقطع قطعًا أن كل ما أدَّى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع فإن ذلك الظاهر يقبل التأويل”. والمقصود بالبرهان هنا هو البرهان العقلى.
من هذه الزاوية يمكن القول إن ابن رشد كان ممهِّدًا لعصر التنوير الذى تميزت به الحضارة الإنسانية فى القرن الثامن عشر، واتخذ موقعًا له فى الظهور فى الحضارة الغربية. ونقول الحضارة الغربية لا الحضارة العربية؛ لأن فلسفة ابن رشد قد أُجهِضت فى العالم العربى إثر ما يُسمَّى بـ “نكبة ابن رشد”، وهى النكبة التى حدثت حين أصدر المنصور أمرًا بنفيه إلى “اليسانة”، فى حين أن الإمبراطور فريدريك الثانى قد أمر بترجمة مؤلفات ابن رشد ونشرها، وقد كان فى صراع مع رجال الدين المسيحى، وكانت فلسفة ابن رشد العقلية هادية له فى مواجهة هذا الصراع. و”المفارقة” هنا أن ابن رشد ميت فى الشرق، حى فى الغرب، وهى مفارقة فى حاجة إلى تفسير”.
وخلاصة فلسفة ابن رشد تقوم على: “أن أعظم المسائل التى شغلت حكيم قرطبة كانت مسألة أصل الكائنات. وهو يرى فى ذلك رأى أرسطو، فيقول: إن كل فعل يفضى إلى خلق شىء إنما هو عبارة عن حركة. والحركة تقتضى شيئًا لتحريكه ويتم فيه بواسطتها فعل الخلق. وهذا الشىء هو ـ فى رأيه ـ المادة الأصلية التى صُنِعت الكائنات منها، ولكن ما هذه المادة؟ إنها شىء قابل للانفعال ولا حد له ولا اسم ولا وصف، “بل هى ضرب من الافتراض لا بد منه ولا غنى عنه”. وبناءً على ذلك يكون كل جسم أبديًا بسبب مادته، أى أنه لا يتلاشى أبدًا، لأن مادته لا تتلاشى أبدًا. وكل أمر يمكن انتقاله من حيز القوة إلى حيز الفعل لا بد له من هذا الانتقال، وإلا حدث فراغ ووقوف فى الكون. وعلى ذلك تكون الحركة مستمرة فى العالم، ولولا هذه الحركة المستمرة لما حدثت التحولات المتتالية الواجبة لخلق العالم، بل لما حدث شىء قط. وبناءً على ذلك، فالمحرك الأول الذى هو مصدر القوة والفعل “أى الخالق سبحانه وتعالى” يكون غير مختار فى فعله”.
وفى كتابه “قصة الفلسفة” يشير الدكتور مراد فى مقدمة هذا الكتاب إلى التعريف الأول للفلسفة بأنها البحث عن المطلق، ويستطرد بتساؤلاته عن معنى الفلسفة والمطلق؟ فيجيب بأن: “الفلسفة، فى أصلها اليونانى، تعنى حب الحكمة، فيقال: فيلوسوفوس باليونانية، أى محب للحكمة”، ويشير الدكتور مراد إلى أن الفيلسوف إذن ليس حكيما، بل هو مجرد عاشق للحكمة.. لماذا؟ لأن الله وحده هو الحكيم، فى رأى فيثاغورس واضع لفظ الفلسفة، إذ قال: “لست حكيما فإن الحكمة لا تُضاف لغير الآلهة، وما أنا إلا فيلسوف”. والله “مطلق” بمعنى أنه موجود قائم بذاته، وليس قائمًا بموجود آخر. والذى يقوم بذاته لا بد أن يكون “بسيطا” وليس مركَّبًا من أجزاء؛ إذ لو كان مركبًا لاستلزم موجودًا آخر يكون سببًا فى تركيب أجزائه. البسيط إذن هو الواحد بالضرورة. غير أننا لا نفهم معنى “الواحد” إلا فى مقابل “الكثير”، ومعنى “المطلق” إلا فى مقابل “النسبي”، من هنا نسأل: ما الصلة بين المطلق والنسبى؟ سؤال فلسفى، والجواب عنه هو ما يحكى “قصة الفلسفة” التى يشير إليها هذا الكتاب.