رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الفيلسوف الذي أنطق العقل

4-12-2025 | 11:27


د. إنجي حمدي,

مع اقترابه من عامه المئة، لا يُستدعى مراد وهبة بوصفه جسدًا يشيخ، بل كعقلٍ ظل متوهجًا، وفكرٍ ظل وفيًّا للحقيقة، لا يهادن في سعيه نحو الحرية. لم يكن شاهدًا على قرن من التحولات، بل كان فاعلًا فيه، منخرطًا في قلب الصراع، حيث جعل من الفلسفة وطنًا للحرية، ومن العقل أداة للنجاة. لم يتعامل مع الفلسفة كترفٍ نخبوي، بل كضرورة وجودية، يرى فيها العقل لا مجرد وسيلة للبرهنة، بل قوة للشك الخلّاق، ولتفكيك القيود، ولإعادة إنتاج المعنى في عالم متغير. وفي كل ما كتب، ظل وهبة يُعيد للفلسفة وظيفتها التنويرية، ويمنحها غايتها الأخلاقية والمعرفية، في زمنٍ تراجع فيه حضورها، لتبقى كتاباته شاهدًا على أن الفلسفة، حين تكون صادقة ومنخرطة، لا تشيخ، بل تظل أبدًا شابة.

وُلد الفيلسوف المصري مراد وهبة في 13 أكتوبر 1926 بمدينة أسيوط، وتخرّج في قسم الفلسفة بجامعة فؤاد الأول عام 1947، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة الإسكندرية عام 1959، ليبدأ مسيرة أكاديمية وفكرية امتدت لأكثر من سبعة عقود، شغل خلالها مناصب تعليمية وبحثية بارزة، منها رئاسة قسم الفلسفة بكلية التربية بجامعة عين شمس، وأستاذًا زائرًا في جامعات عالمية مثل موسكو وهارفارد.

تميز مشروعه الفلسفي بالانفتاح على الفكر الغربي والعلوم الطبيعية، وبالتركيز على الرشدية بوصفها لحظة عقلانية في تاريخ الفلسفة الإسلامية، وكتب في قضايا العلمانية، وفلسفة العلم، والعلاقة بين الدين والدولة، مؤمنًا بأن الفلسفة ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية، وأن العقل هو السبيل للتحرر من التخلف والجمود على حد تعبيره.

ترك مراد وهبة إرثًا فلسفيًا غنيًا ومتنوعًا، امتد عبر التأليف والترجمة والتحقيق، وشكّل علامة فارقة في الفكر العربي المعاصر. من أبرز مؤلفاته: المذهب في فلسفة برجسون، محاورات فلسفية في موسكو، فلسفة الإبداع، مستقبل الأخلاق، جرثومة التخلف، ملاك الحقيقة المطلقة، الأصولية والعلمانية، إلى جانب المعجم الفلسفي الذي صدر بثلاث لغات ويُعد من إنجازاته الموسوعية الكبرى. في هذه الأعمال، تتجلى رؤيته النقدية التي تربط الفلسفة بالعلم، وتُعيد الاعتبار للعقل بوصفه أداة للتحرر، وللفكر بوصفه ممارسة مقاومة. لم يكن وهبة يكتب من برج عاجي، بل من قلب الواقع، منحازًا للحرية ضد الاستبداد، وللتنوير ضد الظلام، وللجدل العقلاني ضد التسليم والدوجما، فكان إرثه الفكري بمثابة دعوة دائمة لإحياء السؤال، وتفكيك المسلمات، واستعادة الفلسفة كقوة تغيير في العالم العربي.

في قلب مشروعه الفلسفي، تتجلى الرشدية كلحظة مفصلية في تاريخ الفكر، وكإمكان فلسفي لتجاوز الانغلاق. لقد رأى في ابن رشد نموذجًا لفكر عقلاني قادر على التوسط بين الدين والفلسفة، بين الشرق والغرب، وبين النص والعقل، بل إن الرشدية كانت حجر الأساس في انطلاق حركة التنوير الأوروبية. وانطلاقًا من هذه القناعة، أسس وهبة الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير عام 1994، ساعيًا إلى استعادة الرشدية كمنهج نقدي في الفكر العربي المعاصر. بالنسبة له، لا يمكن تجاوز التخلف إلا باستعادة روح ابن رشد: العقلانية، الحوار، والجدل الخلّاق. فالرشدية ليست مجرد تراث، بل مشروع مستقبلي لتحرير الفكر من الأصوليات والانغلاق.

في كتاباته، يتجلى وهبة بوصفه ناقدًا جذريًا، يرى أن الفلسفة لا تُبرر، بل تُسائل، وأن العقل لا يُختزل في منطق صوري، بل يُستعاد كأداة للشك، ولإنتاج المعنى، ولتفكيك البنى التي تُكرّس الاستبداد. وهبة لا يكتب ليُقنع، بل ليُزعزع، ولا يُعلّم ليُلقّن، بل ليُحرّر. من أبرز ملامح مشروعه انفتاحه على العلوم الطبيعية، وإيمانه بأن الفلسفة لا تُعاصر عصرها إلا إذا انخرطت في أسئلته العلمية والتكنولوجية. كتب عن فلسفة العلم، وعن العولمة، وعن العلاقة بين الفيلسوف والواقع، مؤكدًا أن الحياد في الفلسفة أمر غير مقبول، وأن الانحياز للعقل هو الموقف الأخلاقي الوحيد الممكن. تميّزت كتابات مراد وهبة في صحيفتي الأهرام اليومي والمصري اليوم بجرأتها الفكرية ووضوحها الفلسفي، حيث اتخذ من المقال الصحفي منبرًا لتفعيل العقل النقدي في المجال العام. في الأهرام، كتب سلسلة مقالات بعنوان "أفكار لها تاريخ"، تناول فيها قضايا فلسفية وسياسية وتاريخية، رابطًا بين التراث والحداثة، ومفككًا البنى الفكرية التي تكرّس الجمود. أما في المصري اليوم، فقد نشر مئات المقالات التي عالجت موضوعات مثل العلمانية، والإبداع، والعقل العربي، والعلاقة بين الدين والدولة، وفلسفة الأخلاق، بأسلوب يجمع بين التحليل الفلسفي والالتزام التنويري. كانت كتاباته الصحفية امتدادًا لمشروعه الفلسفي، إذ لم يفصل بين الفيلسوف والمثقف، بل جعل من المقال أداة للتنوير، ومن الصحافة فضاءً للحوار العقلاني، مؤمنًا بأن الفلسفة يجب أن تخرج من قاعات الجامعة إلى ساحة الحياة اليومية.

يتسم المذهب الفلسفي لمراد وهبة بالنزعة العقلانية النقدية، التي ترى في الفلسفة أداة لتحرير الإنسان من أسر الدوجما والخرافة. فقد انطلق من قناعة راسخة بأن العقل هو السبيل لفهم العالم وتغييره، وأن الفلسفة لا تكتسب مشروعيتها من قدرتها على التبرير، بل من قدرتها على التساؤل وإنتاج المعنى. تأثر بالفكر الغربي من ديكارت مرورًا بكانط إلى سارتر، لكنه وجد في ابن رشد نموذجًا لفكر عقلاني عربي يمكن أن يشكّل جسرًا بين الحضارات. أما أثره في تلامذته، فقد كان عميقًا وممتدًا؛ إذ لم يكتف بتلقين المفاهيم، بل حفّزهم على التفكير الحر، ومساءلة المسلمات، والانخراط في قضايا الواقع. كانت محاضراته بمثابة ورش فكرية حية، يتعلّم فيها الطلاب كيف يفكرون لا ماذا يفكرون، وكيف يصوغون مواقفهم من العالم لا كيف يكررون مواقف الآخرين، فترك فيهم أثرًا لا يُقاس بالمعلومة، بل بالمنهج، ولا يُقاس بالكم، بل بالقدرة على النقد والتحرر. وقد امتاز أسلوب وهبة في الكتابة بالوضوح العميق؛ لغته تجمع بين التحليل المنطقي والبعد الأدبي، وتُحقق معادلة نادرة: أن تكون الفلسفة مفهومة دون أن تفقد عمقها. وهبة لا يُسطّح المفاهيم، بل يُضيئها، ولا يُبسّط الفلسفة، بل يُقرّبها دون أن يُفرّغها من تعقيدها.

في تصور مراد وهبة، يُعد التنوير لحظة فلسفية تُعلن السيادة المطلقة للعقل بوصفه المرجعية العليا في فهم العالم وتنظيمه، دون خضوع لأي سلطة خارجة عنه، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية. فالعقل، في هذا الإطار، ليس مجرد أداة تحليل، بل هو محكمة عليا تُعرض أمامها كل القضايا الفكرية، ويُعاد فيها تقييم المسلمات والسلطات. ومن هنا، يصبح التنوير فعلًا تحرريًا، يُعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والمعرفة، ويُؤسس لشرعية التفكير المستقل. وقد جعل وهبة من عبارة كانط الشهيرة: "لتكن لديك الجرأة على استخدام عقلك" شعارًا للتنوير، معتبرًا أن وأد العقل هو وأد للتنوير ذاته. وفي هذا السياق، رأى في ابن رشد التجسيد الأسمى للفكر العقلاني الشامل، الذي أقام حوارًا متكافئًا بين النص والعقل دون أن يُخضع أحدهما للآخر، فكان فيلسوفًا تنويريًا بامتياز، ومصدر إلهام لمشروع وهبة في مقاومة الأصولية واستعادة الرشدية كمنهج نقدي معاصر.

يُعد كتاب فلسفة الإبداع لمراد وهبة من أبرز أعماله التنويرية، حيث يُعيد فيه تعريف الإبداع بوصفه فعلًا تحرريًا يتجاوز التكرار والجمود، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بحرية التفكير وقدرة العقل على إنتاج أفكار جديدة من شأنها أن تغير الواقع. يرى وهبة أن الإبداع ليس مجرد تعبير ذاتي، بل هو مشروع حضاري يُمكّن الإنسان من تجاوز الواقع المفروض، ويُمارَس من خلال الشك والتجربة والانفتاح على المستقبل.

ينتقد في الكتاب العقبات التي تعيق الإبداع في المجتمعات العربية، مثل التعليم القائم على الحفظ، والخوف من التغيير، والتعصب، مؤكدًا أن الفلسفة والإبداع يتشاركان في جوهرهما النقدي والتحرري.

بأسلوب يجمع بين العمق والوضوح، يطرح وهبة الإبداع كمنهج للتغيير، لا كترف ثقافي، ويُقدّمه بوصفه ضرورة وجودية في مواجهة التخلف والاستبداد.

تعرّض مراد وهبة لانتقادات متعددة من أطياف فكرية مختلفة، نتيجة لمواقفه الجريئة التي انحازت للعقلانية والحرية في مواجهة الأصوليات الدينية والسياسية على حد تعبيره؛ فقد هاجمته بعض التيارات الإسلامية بسبب دفاعه الصريح عن العلمانية وفصل الدين عن الدولة، واعتبرته تهديدًا للهوية الدينية، بينما انتقده قوميون ويساريون لرفضه الانغلاق الأيديولوجي وتفكيكه للمسلمات القومية، كما رأى فيه بعض الأكاديميين كاتبًا مفرطًا في الوضوح، متّهمين أسلوبه بالافتقار إلى العمق الفلسفي التقليدي، رغم أنه كان يؤمن بأن الفلسفة يجب أن تكون مفهومة لا غامضة. كذلك أثار ظهوره الإعلامي المتكرر جدلًا بين من رأوا أن الفيلسوف يجب أن يبقى في دائرة التأمل، لا في ساحة الإعلام، لكنه ظل ثابتًا في موقفه بأن الفلسفة لا تُختزل في التنظير، بل يجب أن تنخرط في المجال العام، وتواجه الخرافة والاستبداد بسلاح العقل والكلمة الحرة.

لم يكن مراد وهبة فيلسوفًا منعزلًا عن قضايا عصره، بل كان فاعلًا في قلب التحولات الفكرية الكبرى، من العلمانية والتعليم إلى الدين والدولة، ومن أزمة العقل العربي إلى تحديات العولمة، حيث اتسم حضوره بالصوت العقلاني والموقف النقدي الذي لا يهادن. وسواء اتفقنا مع أطروحاته أو اختلفنا، فإن مذهبه العقلاني وأسلوبه الفلسفي يظلان متجذرين في نسيج الفلسفة العربية المعاصرة، بوصفهما دعوة دائمة إلى تحرير الفكر من الوصاية، واستعادة الفلسفة كقوة تغيير. ومع اقترابه من عامه المئة، يظل صوت وهبة شاهدًا على أن الفلسفة، حين تكون صادقة ومنخرطة، لا تشيخ، بل تبقى شابة، نابضة بالحياة، ومؤهلة دومًا لمواجهة الأسئلة الكبرى.