رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الخروج بالفلسفة.. من الأكاديمية إلى الشارع

4-12-2025 | 10:39


حلمي النمنم,

اتجه الرعيل الأول من المتخصصين والمهتمين بالفلسفة في مصر وعالمنا العربى إلى ترجمة أعمال كبار الفلاسفة إلى اللغة العربية وتعريف القارئ العربى بها، بهذا المعنى أقدم أحمد لطفى السيد على ترجمة أعمال أرسطو، خاصة كتبه الثلاثة الرئيسية؛ الكون والفساد ثم الأخلاق وبعده “في السياسة” كما وجدنا ترجمات لأعمال كبرى لفلاسفة عظام مثل سقراط وأفلاطون ثم نيتشة وشبنجلر وغيرهم كثر..
إلى جوار الترجمة كان هناك اهتمام مبكر، خاصة من أساتذة الجامعة المصرية بإحياء كتب التراث الفلسفى في الحضارة العربية – الإسلامية، سواء كانوا أساتذة من المصريين أو من الأجانب الذين عملوا بالجامعة المصرية. وقد لعب الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق  دورا بارزا في ذلك؛ على مستوى جهده البحثى والعلمى وعبر تلاميذه الذين أعدهم ودفعهم إلى هذا الجانب؛ فكان لدينا إبراهيم بيومى مدكور وعلى سامى النشار وتوفيق الطويل وغيرهم.
وجاءت أسماء فلسفية لم يتوقف أصحابها عند ذلك الدور؛ بل حاولوا الإضافة إليه؛ بتقديم اجتهادات فلسفية؛ وتأسيس مدارس فلسفية وفكرية مصرية؛ حاول ذلك يوسف كرم؛ خاصة في كتابه "العقل والوجود" لكن يوسف كرم لم يترك تلاميذ يكملون ما بدأه؛ كما لم يؤسس مدرسة فلسفية تتبنى موقفه؛ ولم يكن ذلك متاحا له ولا ممكنا في زمنه.
وجدنا كذلك د. عبدالرحمن بدوى يتبنى الفلسفة الوجودية؛ متأثرا بفلسفة الألماني "مارتن هيدجر" وضح ذلك في رسالة بدوى للدكتوراه "الزمان الوجودى"؛ ثم تابع طريقه في العديد من كتبه الأخرى؛ خاصة كتابه "الإنسانية والوجودية في الفكر العربى"؛ حاول فيه أن يبحث عن الجذور الوجودية في الحضارة والفكر العربى.. وقد دفع عبدالرحمن بدوي العديد من تلاميذه إلى السير في هذا الطريق..
د. زكى نجيب محمود تأثر بمدرسة "الوضعية المنطقية" حينما كان يعد لدرجة الدكتوراه في جامعة لندن؛ وحاول نقل هذا المنهج الفلسفى إلى الثقافة العربية؛ في كتابه "خرافة الميتافيزيقا" سنة 1953؛ كان نتاج هذا التأثر؛ وقد أثار الكتاب ضجة وقتها؛ لولا الانشغال بأحداث انتقال مصر من العصر الملكى إلى العصر الجمهورى لاشتدت الضجة؛ خاصة أن البعض اتهموا الكتاب بالتجديف.
واصل زكى نجيب العمل على تقديم "الوضعية المنطقية" واتجه بعض تلاميذه إلى نفس المدرسة؛ خاصة الراحل 
د. عزمى إسلام.
ثم وجدنا من يحاول تقديم "فلسفة خاصة به؛ مثل د. عثمان أمين صاحب " الجوانية"؛ لكن لم تؤخذ محاولته بجدية؛ يكفى انتقاد العقاد لها؛ الذى اعتبرها مجرد عرض لبعض أفكار فلسفية وثقافية؛ لم يجد فيها جديداً ولا أنها تستحق مسمى "فلسفة".
في تلك الفترة المزدهرة في الجامعة كان مراد وهبه طالبا بقسم الفلسفة؛ استمع إلى محاضرات هؤلاء جميعا؛ وكتب هو عن عدد من أساتذته مثل د. عبد الرحمن بدوى؛ الوجودى والمعجب بالألمان وفلسفاتهم؛ وعن زكى نجيب محمود ويوسف مراد وغيرهما.. ولد مراد وهبة بأسيوط في أكتوبر سنة 1926؛ وبهذا المعنى كان طالبا بالجامعة مع عدد من زملائه الذين صاروا نجوما لامعة في الحياة الثقافية؛ مثل أنيس منصور ومحمود أمين العالم؛ وكانت الجامعة تحتمل تباينات فكرية كثيرة؛ سواء بين الأساتذة أو الطلاب .
أتيح لمراد وهبة فرصة نادرة؛ درس وتخرج في جامعة القاهرة؛ كان اسمها جامعة فؤاد الأول ثم أتم دراساته العليا في جامعة الإسكندرية؛ التي تأسست سنة 1942؛ وكان هناك إصرار من د. طه حسين مؤسسها على أن تكون مثل جامعة القاهرة؛ من حيث المستوى الأكاديمي والتعليمى؛ وبعد ذلك عين د. مراد مدرسا ثم أستاذا بجامعة عين شمس؛ وهكذا مر بجامعات مصر الثلاث وقتها، وعمل فترة مستشارا للرئيس جمال عبدالناصر لشؤون التعليم.
لم يتجه د. مراد نحو مسار عدد من أساتذته في الالتحاق بمدرسة أو نظرية فلسفية؛ ينشرها بين طلابه وبين المثقفين المصريين؛ مثل الوجودية أو الوضعية المنطقية ولكنه وزع اهتماماته في جانبين..
الأول هو محاولة التأسيس للمعرفة الجيدة بالفلسفة؛ وهكذا جاء كتابه المهم "المعجم الفلسفى"؛ يتيح المعجم للقارئ العادى أو الدارس المتخصص التعرف على المصطلحات الفلسفية، بتبسيط لا يخل بالمادة المعرفية؛ والإلمام بتاريخ الفلسفة من خلال ذلك المعجم؛ الذين لم يسبقه إليه أحد في مصر. وأصدر مجمع اللغة العربية بعد ذلك المعجم الفلسفي الخاص به.. وهناك كذلك كتاب "قصة الفلسفة" الذى يشرح ويقدم تاريخ الفلسفة بيسر وسهولة؛ وقد صدرت منه عدة طبعات؛ لقى إقبالا كبيرا من القراء وترحيبا من الدارسين والمتخصصين.
في هذا الإطار يأتي كتابه "المذهب في فلسفة برجسون" وكتابه كذلك عن المذهب لدى "إيمانويل كانط" وقد قدمه د. نظمى لوقا.
في الكتابين كان تركيز د. مراد على طريقة التفكير ومنهج التفلسف لدى كلٍّ منهما؛ فلم ينشغل كثيرًا بفلسفة برجسون ولا فلسفة كانط، بل بالقواعد أو المنهج الذي سار عليه كلاهما في رؤيته للعالم. ويمكن القول إن الكتابين كانا بالدرجة الأولى موجَّهين نحو الدارس المتخصص في الفلسفة أكثر منهما للقارئ العادي.
داخل الجامعة ومع العمل الأكاديمي، انشغل مراد وهبة بالحوار مع أساتذة الفلسفة حول العالم في قضايا الحضارة والتراث وغيرها. شارك في تأسيس الجمعية الفلسفية الدولية، ونظَّم عدة مؤتمرات في مصر وخارجها للتداول في القضايا الفكرية والإنسانية، سواء في مصر والعالم العربي أو في بلدان أخرى مثل باكستان ومنطقة جنوب شرق آسيا.
وقد يبدو الأمر للبعض غريبًا، أن يتجه نحو آسيا ونحو أوروبا وكذلك إفريقيا، لكنه ليس كذلك؛ فهو يرى أن هناك حضارة إنسانية واحدة، وينتقد نظرية وجود حضارات منعزلة أو متناقضة: شرقية وغربية، شمال وجنوب، إسلامية أو مسيحية أو بوذية. هو ليس مع تلك التصنيفات؛ فهناك حضارة إنسانية واحدة، لها فترات صعود في منطقة ما أو بلد ما وثقافة بعينها. ففي حقبةٍ كانت الحضارة في اليونان إغريقية الطابع.. هيلنية الطبع، ثم انتقلت بعد ذلك إلى العالم الإسلامي في دمشق وبغداد والقاهرة وبلاد الأندلس، ثم وقع الركود مرة أخرى في العصور الوسطى المظلمة، إلى أن جاء عصر النهضة الأوروبية. وقد قامت النهضة الأوروبية على الأفكار التي قدّمها الفلاسفة المسلمون، وعلى رأسهم ابن رشد. استلهم الأوروبيون أفكار ابن رشد وطرحوا عنهم سيطرة الكنيسة وسلطة البابوات وكهنوتهم.
هذا الدور الذي لعبته أفكار ابن رشد في نهضة الأوروبيين وإنقاذهم من ظلام العصور الوسطى هو ما دعا مراد وهبة إلى تبني مشروع ابن رشد ليُنقذ به بلادنا من عقلية العصور الوسطى.
الفكرة الأساسية لدى ابن رشد هي التأويل: تأويل النص الديني وفق العقل، وإنهاء الصراع أو الازدواجية بين العقل والنقل. ينادي مراد وهبة بتلك الفكرة، وكتب بانتظام سنوات في مجلات وصحف مثل مجلة الطليعة الشهرية التي كانت تصدر عن مؤسسة الأهرام ويرأس تحريرها لطفي الخولي، ومجلة الهلال ومجلة المصور الأسبوعية، وجريدة الأهرام والمصري اليوم. وراح يصدر كتبه تباعًا الداعية للتنوير وحرية التفكير وتبنِّي روح التسامح.
وقدّم تعريفًا للعلمانية بعيدًا عن الصراعات الفكرية والسياسية السائدة؛ فعرّفها بأنها: "التفكير في المطلق بما هو مطلق، وفي النسبي بما هو نسبي"؛ أي لا نُطبِّق قواعد النسبي على المطلق. وهذا ما يؤدي بالبعض إلى اهتزاز فكرة الإيمان بالله وربما الإلحاد؛ والسبب أنهم يتعاملون مع القضايا المطلقة مثل وجود الله أو الموت والحساب والثواب والعقاب بالمعايير النسبية أو اليومية المتغيرة والمتجددة باستمرار، وقد يتعاملون مع أمور الحياة اليومية في تحولاتها السريعة بالمعيار الثابت أو المطلق مما يؤدي إلى نوع من الدوجما العقائدية الشديدة.
وقد اشتدت المخاوف من الدوجما مع ظهور تيار "الإسلام السياسي" والجماعات المتشددة والأصولية، خاصة بعد اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر سنة 1981، ثم اغتيال فرج فودة سنة 1992، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ سنة 1994، فضلًا عن محاولات اغتيال شخصيات عامة أخرى وظهور قوائم اغتيالات ضمت رموزًا من الصحفيين والكتّاب والمسؤولين.
أصدر د. مراد العديد من الكتب في تفكيك منطق أو تفكير هذه الجماعات؛ فكانت رباعية الديمقراطية رؤية لمواجهة التطرف بالتسامح والاستنارة والديمقراطية.
والذي يتولى ذلك هو الدولة الوطنية؛ لذا كان مؤيدًا لمساندة الدولة تطلعات وآمال الشعب، وخاصة في ثورة 30 يونيو وما بعدها إلى يومنا هذا.
وقد يتصور البعض أن د. مراد ابتعد بذلك عن مجال الفلسفة والتفلسف واتجه إلى القضايا العامة ومجريات الحياة اليومية. لكن واقع الحال أن د. مراد منذ نهاية السبعينيات عقد مؤتمرًا دوليًّا في جامعة عين شمس كان عنوانه: "الفلسفة ورجل الشارع"؛ ناقش فيه المؤتمر هموم الشارع وكيف تتعامل معها الفلسفة. ولعلنا نذكر جميعًا أن سقراط، الفيلسوف اليوناني العظيم، كان يمارس الفلسفة مع رجل الشارع وتلاميذه العاديين؛ لم تكن هناك مدرسة بالمعنى الحرفي، وربما بسبب ذلك قدّم إلى المحكمة بتهمة إفساد الشباب، وأُدين، وهذا ما جعل تلميذه أفلاطون يتخذ مسارًا آخر؛ إذ أسس الأكاديمية وأدخل الفلسفة إلى جدرانها وبين تلاميذها، مبتعدًا بها عن الشارع وقضاياه.
ومن يومها تراوح الفلسفة مكانها بين من يريد لها أن تكون داخل جدران الأكاديمية لطلاب الجامعات والمتخصصين فقط، وفي سبيل ذلك لا بأس أن تعلو على اهتمامات رجل الشارع وقضايا الجماهير. وذلك ما استقر عليه رأي بعض أساتذة الفلسفة في مصر؛ لذا ابتعدوا عن الشؤون اليومية المباشرة وانشغلوا بالشأن الأكاديمي الخالص.
ولكن كان هناك فريق آخر رأى عدم الابتعاد عن الشأن العام؛ عبدالرحمن بدوي كان في شبابه مسؤولًا في الحزب الوطني الجديد، زميلًا لفتحي رضوان وإبراهيم شكري، ود. فؤاد زكريا لم ينقطع عن الكتابة للصحف والاشتباك مع الواقع وقضاياه.
ود. مراد من هؤلاء، وإن كانت القضايا العامة قد استغرقته في السنوات الأخيرة، فأفاد عددًا أكبر بكتاباته وأعماله.
أما وقد وقف د. مراد على عتبة عامه المائة، فأتمنى أن تهتم الهيئات الثقافية ودور النشر بإعادة إصدار أعماله، بالإضافة إلى جمع مقالاته المتناثرة في الصحف والمجلات لتكون متاحة للباحثين والدارسين.