عن الماضي والمستقبل.. العلمانية في مصر
د. مراد وهبة
عنوان هذا المقال ينتهي بعلامة استفهام، ولكنه هو نفسه ليس مصاغًا على هيئة سؤال، ومعنى ذلك أن العنوان موضوع تساؤل، والتساؤل هنا هو عمّا إذا كان للعلمانية مستقبل.
والسؤال إذن:
لماذا لم أضع العنوان على هيئة سؤال، فيكون الحال على هذا النحو: هل للعلمانية مستقبل؟ إلا أنني لست منحازًا إلى هذه الصياغة، لأنه إذا جاءت الإجابة بالنفي، فالنفي عندئذٍ لا يقف عند حد نفي أي مستقبل للعلمانية، بل يتجاوزه إلى نفي أي مستقبل لمصر.
والسؤال إذن:
لماذا يكون مستقبل مصر مرهونًا بتأسيس العلمانية؟
أو في صياغة أخرى بعد تعديل عنوان المقال:
لماذا يكون مستقبل مصر في العلمانية؟
ونجيب بسؤال:
ما العلمانية؟
بحسب تعريفي هي التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق، ومعنى ذلك أن النسبية ينبغي ألا ترقى إلى المطلق، وإلا امتنع التطور، لأن التطور يستلزم النسبية، ومعنى ذلك أن جميع الأحوال الإنسانية ينبغي أن يكون تناولها زمانيًا، ولا يكون تناولها مجاوزًا للزمانية.
والسؤال إذن:
بماذا يتميز هذا الزمان الذي نعيش فيه الآن؟
من مميزاته “الكوكبية”.
وماذا تعني الكوكبية؟
تعني أن كوكب الأرض، بفضل الثورة العلمية والتكنولوجية، قد أُصيب بـ”موت المسافة” زمانيًا ومكانيًا، استنادًا إلى الإنترنت والبريد الإلكتروني والتجارة الإلكترونية، ومع موت المسافة تموت الدوجمات، إذ من شأن الدوجما أن تخلق مسافة بينها وبين أي دوجما أخرى، إلى الحد الذي نتوهم فيه كل دوجما بأنها مالكة للحقيقة المطلقة، فتنقض على الدوجمات الأخرى وتقتلها، وهذا هو ما أسميه “القتل اللاهوتي”، وهو النتيجة الحتمية لما أسميه “صراع المطلقات”.
العلمانية إذن ملازمة للكوكبية، بيد أن إرهاصات هذه الملازمة مردودة إلى القرن السادس عشر، عندما نشر عالم الفلك البولندي نيقولا كوبرنيكوس كتابه التاريخي المعنون “عن دوران الأفلاك (1543)”، حيث يقرر دوران كوكب الأرض حول الشمس وليس العكس على نحو ما ذهب إليه بطليموس، ومعنى ذلك أن الأرض لم تعد مركز الكون، وبالتالي لم يعد الإنسان مركزًا للكون، الأمر الذي يترتب عليه امتناع الإنسان عن الزعم بأنه قادر على امتلاك الحقيقة المطلقة.
بيد أنني أذهب إلى القول بأن الفضل في إرهاص العلمانية في القرن السادس عشر مردود إلى فلسفة ابن رشد التي ذاعت في أوروبا بعد ترجمة مؤلفاته إلى اللاتينية والعبرية في القرن الثالث عشر، فإثر ترجمتها نشأ صراع بين السلطة الدنيوية والسلطة الدينية أفضى إلى تأسيس “الرشدية اللاتينية”، وبفضل هذا التأسيس نشأت علاقة حميمة بين ابن رشد وجاليليو، فأنت عندما تقرأ رسائل جاليليو إلى الكونتيسة الهولندية كرستينا فكأنك تقرأ كتاب ابن رشد المعنون “فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”، يقول جاليليو: “في رأيي أن أضمن وأسرع طريق إلى البرهنة على أن موقف كوبرنيكوس لا يتعارض مع الإنجيل هو التدليل على أن هذا الموقف صادق وأن نقيضه ممتنع على التفكير، وحيث إنه لا تعارض بين حقيقتين فثمة توافق بين موقف كوبرنيكوس والإنجيل”، وهذا قول منقول عن ابن رشد، ويقول ابن رشد: “إن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له”، ويقول جاليليو: “إن تحت المعنى الظاهر لكلمات الإنجيل يكمن معنى مباين”، ويقول ابن رشد عن هذا المعنى المباين للمعنى الظاهر إنه المجاز، ويقول جاليليو: “من عادة علماء اللاهوت إعلان أحكامهم طبقًا للآراء المشهورة في زمانهم”، ويقول ابن رشد: “إن الطرق المصرح بها في الشريعة هي أربعة أصناف، ومنها تكون المقدمات مشهورة أو مظنونة”، ثم يشير جاليليو إلى من يحصرون أنفسهم في المعنى الحرفي لكلمات الإنجيل، وهذه الإشارة تفيد مغزى تعريف ابن رشد للتأويل من حيث هو “إخراج اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية”، ولهذا السبب فإنه يبدو أن الأجسام الطبيعية التي نراها أمام أعيننا بالتجربة الحسية أو التي نبرهن عليها بالبراهين الضرورية ينبغي ألا تكون موضع شك من جعل آيات الإنجيل التي قد تنطوي على معنى مباين موجود في أعماقها.
الرشدية اللاتينية إذن تمهيد للعلمانية، وبالتالي هي تمهيد للتنوير، لأنه لا تنوير من غير علمانية، ومن التنوير بزغت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، ومنها إلى الثورة العلمية والتكنولوجية في القرن العشرين.
هذا ما حدث في أوروبا، فماذا حدث في مصر في مواجهة بزوغ العلمانية؟
ثمة محاولات لتأسيس العلمانية ولكنها أُجهضت، أذكر منها محاولتين على وجه التخصيص لاثنين من العلمانيين وهما: فرح أنطون والشيخ علي عبدالرازق.
ألف الأول كتابًا عنوانه “ابن رشد وفلسفته”، صدر في الإسكندرية عام 1903، والغاية من تأليفه الدعوة إلى العلمانية استنادًا إلى فلسفة ابن رشد، فقد جاء في إهدائه للكتاب أنه “يهديه إلى أولئك العقلاء في كل ملة وكل دين في الشرق الذين عرفوا مضار مزج الدنيا بالدين في عصر كهذا العصر، فصاروا يطلبون وضع أديانهم جانبًا في مكان مقدس محترم ليتمكنوا من الاتحاد اتحادًا حقيقيًا ومجاراة التمدن الأوروبي الجديد لمزاحمة أهله وإلا جرفهم جميعًا وجعلهم مسخرين لغيرهم”.
والسؤال بعد ذلك هو على النحو الآتي:
ما الذي حدث لهذا الكتاب؟
أو بعبارة أدق:
كيف أُجهض هذا الكتاب؟
أُجهض بعاملين:
العامل الأول مردود إلى أن الكتاب دار حوله جدل حاد بين فرح أنطون مؤيدًا للعلمانية من جهة، والشيخ محمد عبده ورشيد رضا رافضين للعلمانية من جهة أخرى، وبعد هذا الحوار أُغلقت مجلة “الجامعة” التي كان رئيس تحريرها فرح أنطون، والتي نشر فيها كتابه مسلسلاً ومعه الحوار المذكور.
أما العامل الثاني فمردود إلى الهيئة المصرية العامة للكتاب، إذ أصدرت كتاب فرح أنطون في عام 1993 بهدف مواجهة التطرف والإرهاب في مصر ومحاصرتهما واحتوائهما تمهيدًا لاقتلاعهما تمامًا، على أن تتم هذه المواجهة بفعل “انتفاضة المثقفين” على نحو ما جاء في الغلاف الخارجي للكتاب.
ومع ذلك فقد حدث ما يثير السخرية.
والسؤال إذن:
ما هو هذا الذي حدث ويثير السخرية؟
ونجيب بسؤال:
ما السخرية؟
السخرية على ثلاثة ضروب:
قد تكون السخرية ثمرة الكشف عن تناقض في أقوال الآخر بحيث ينكشف جهله، وهذه هي سخرية سقراط.
وقد تكون السخرية نوعًا من المجاز، والمجاز يعني أنك تترك المعنى الحسي الظاهر وتنزلق إلى المعنى الباطن، والمستمع يأخذ المعنى الباطن على أنه المعنى الظاهر، فيتراءى أمامك وكأنه يمشي على رأسه.
وقد تكون السخرية أنك تفكر في شيء وتقول شيئًا آخر، ويصدقك الآخر فيما تقول فتكون بذلك قد ضحكت عليه، أي سخرت منه.
والسؤال إذن:
أين تقع السخرية من الكتاب من بين هذه الضروب الثلاثة؟
نحكي ما حدث للكتاب، عند نشره لكي نجيب عن هذا السؤال.
حُذف الإهداء الذي يدعو فيه المؤلف إلى العلمانية، وحُذف “التمهيد في سبب كتابة هذا الكتاب” ويقع في 32 صفحة، ويحكي فيه المؤلف عن نشأة ابن رشد وأسباب اضطهاده، ومحاكمته ونفيه، والمنشور بتحريم الفلسفة، وشماتة شعراء خصومه بنفيه، ويقع في 40 صفحة، وحُذف الجدل الحاد الذي دار بين فرح أنطون من جهة، والشيخ محمد عبده ورشيد رضا من جهة أخرى.
وفي إطار هذا الحذف الثلاثي تغير عنوان الكتاب، فالعنوان الأصلي هو “ابن رشد وفلسفته”، أما العنوان المزيف فهو “فلسفة ابن رشد”.
العنوان الأصلي يستلزم الحديث أولاً عن حياة ابن رشد واضطهاده ومحاكمته، ومع حذف هذا الحديث لزم حذف التمهيد، ولزم تغيير عنوان الكتاب.
وأنت بعد ذلك وما تشاء من اختيار أي من الضروب الثلاثة التي تثير السخرية، أو من الكف عن الاختيار والأخذ بها جميعًا.
هذا عن كتاب فرح أنطون، فماذا عن كتاب الشيخ علي عبدالرازق؟
عنوان كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، صدر عام 1925، أنكر فيه الخلافة التي تعني أن سلطان الخليفة مشتق من الله، وهو معنى مطابق لما كان حادثًا في العصر الوسيط في أوروبا من أن سلطان الملوك مقدس وحقهم سماوي، وكان الشيخ علي عبدالرازق في ذلك الإنكار متأثرًا بنظرية العقد الاجتماعي عند الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632 – 1704)، وهي النظرية التي تقرر أن المجتمع من تأسيس الإنسان وليس من تأسيس الله.
وإثر صدور ذلك الكتاب بهذا التوجه العلماني صودر الكتاب وحوكم صاحبه، وأُخرج من هيئة كبار العلماء وجُرّد من جميع مناصبه، وأيد هذا الإجراء الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة “المنار” التي أصبحت فيما بعد الناطقة باسم جماعة الإخوان المسلمين، كما أيد هذا الإجراء سعد زغلول زعيم الأمة كما كان يُلقب، وحتى الذين دافعوا عن شيخنا من أمثال العقاد، ومنصور فهمي، وسلامة موسى لم يقرنوا بالدفاع عن حرية الرأي المكفولة في الدستور.
وفي 30 أكتوبر 1925 أُقيل وزير الحقانية عبدالعزيز فهمي باشا، لأنه رأى أن المادة 101 من قانون الأزهر الصادر عام 1911 لا تجعل لهيئة كبار العلماء اختصاصًا في حادثة الشيخ علي عبدالرازق نفسه.
واللافت للانتباه أن الشيخ علي عبدالرازق نفسه، قبل وفاته بعدة شهور، قد صرّح لمجلة “المصور” بأنه يرفض طبع كتابه مرة أخرى، بل يهدد من يطبعه.
وفي مارس من عام 1928 تأسست جماعة الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنا، التي تستند في تعاليمها إلى الإمام الفقيه ابن تيمية (661 – 738هـ)، وتعاليمه تستند إلى فكرتين محوريتين:
أولاهما: رفض منطق أرسطو في كتابه المعنون “نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان”، بدعوى أن ذلك المنطق يمثل العقلية اليونانية التي تقف على الضد من العقلية الإسلامية.
وهو في ذلك يساير أبا حامد الغزالي (480 – 505هـ) في رفضه للفلسفة اليونانية وتكفيره لكل من يتأثر بها.
أما ثانيتهما: فهي رفض مفهوم التأويل عند ابن رشد الذي ينص على ضرورة إعمال العقل في النص الديني، بقول ابن تيمية: “إذا كان التأويل معناه صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر، فليس ثمة آية لا معنى لها أو مصروفة عن ظاهرها، بل كل آيات القرآن واضحة في معناها وليس هناك خفاء، وبالتالي فإن الإنسان يقف عند المحسوس فلا يأذن للعقل أن يعمل ذاته في النص الديني”، ثم إنه ينعت التأويل بأنه “تحريف الكلم عن مواضعه، ومخالف للغة، ومتناقض في المعنى، ومخالف لإجماع السلف”، وإذا كان الإجماع شرطًا ضروريًا للتأويل، فالتأويل ممتنع، ويترتب على هذا المنع مساواة العقل بالسمع، بل طاعة العقل للسمع.
والسؤال في نهاية المطاف هو على النحو الآتي:
هل ثمة مستقبل للعلمانية في مصر؟
في أول مارس من هذا العام انعقد أول مؤتمر لتأسيس العلمانية في مصر بتنظيم من ثلاثة تجمعات: منتدى ابن رشد المتفرع من الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير، والجمعية المصرية للتنوير، وحزب مصر – الأم – تحت التأسيس، ومستقبل العلمانية مرهون بكيفية تحول هذا المؤتمر إلى تيار دون أن يُصاب بالإجهاض، وبذلك تتم ولادته ولادة طبيعية، فينمو نموًا طبيعيًا ويحدث تخصيبًا يسمح بدخول مصر في مسار الحضارة الإنسانية بعد مرور ثمانية وسبعين عامًا على تأسيس حركة الإخوان المسلمين.