د. زينب المنسي,
لفت نظري أثناء سفري خارج مصر مشاهدتي الكثير من التحف المصرية الثابتة والمنقولة في الشوارع والميادين والمتاحف، وهو ما جعلني أتساءل عن كيفية خروج تلك التحف إلى أماكن تواجدها؟ وهل خرجت بطريق رسمي أم غير رسمي؟
وعند بحثي عن الموضوع وجدت كثيرًا من الكتابات ومواقع السوشيال ميديا تتحدث عن سرقة مجوهرات أسرة محمد علي وتشير بأصابع الاتهام دائمًا إلى ثورة يوليو ورجالها! على الرغم من ظهور كثير من مقتنيات تلك الأسرة بعد ذلك في حوزة أحفادها، وهو ما جعلني أتساءل: ماذا عن آثارنا الفرعونية ووجودها خارج مصر؟ هل خرجت بعد ثورة يوليو أيضًا؟
بعد البحث، وجدت أن نهب التحف والآثار المصرية كان نهبًا منظمًا طيلة عصر أسرة محمد علي، حيث سردت كثير من الوقائع مظاهر إهدار أسرة محمد علي لكنوز مصر، فقد لعب أفراد من الأسرة العلوية دورًا كبيرًا في خروج آثار مصر إلى الخارج على اعتبار أنهم ملكوا الأرض وما عليها وما تحتها أيضًا.
فيُذكر أن الوالي محمد علي باشا، مؤسس الأسرة العلوية في مصر، لم يرحم كل من أشيع عنه أنه يحتفظ بقطع أثرية وجعله عبرة للناس واستولى على ما يملك، ووجهت له تهمة سرقة أملاك الباشا الوالي، وهو ما يتضح في حالة المواطن علي عمران، فعندما أشيع أنه يقتني حُليًّا أثرية اتُّهم بسرقتها، وتم قتله وتمزيق جثته ليكون عبرة لأمثاله. وفي الوقت نفسه أهدى محمد علي باشا مسلة معبد الأقصر، والتي تُعرف اليوم بمسلة كونكورد، وكذلك أبراج الزودياك التي تزين سقف متحف اللوفر، إلى شارل ملك فرنسا، كما أهدى العديد من المسلات الفرعونية إلى حكام إيطاليا. ويبدو أن محمد علي حاول أن يوطد علاقاته مع أوروبا فوجد ضالته في موضوع إهداءات الآثار، خصوصًا بعدما أتت أُكلها مع الفرنسيين، وهو ما يؤكده ما قاله الأب “جيرامب” الذي كان يزور مصر عام 1833 لمحمد علي: "لم يكن من يزور مصر يحوز الشرف إلا إذا كان يحمل مومياء في إحدى يديه وتمساحًا في الأخرى". ويبدو أن محمد علي استهوته فكرة الآثار، فيذكر مهندس الآثار الفرنسي "أوجست مارييت" في مذكراته أن الوالي محمد علي أمر بهدم الهرم الأكبر ليبني بحجارته قصرًا، وذلك لاعتقاده أن تحت الهرم كنوزًا ثمينة.
ولم يكن الأمر قاصرًا على الباشا المؤسس فقط، فقد انتقل شعور ملكية الآثار والتراث لورثته، فمن عجائب الأسرة العلوية أن محمد علي كان قد أمر بتجميع الآثار الفرعونية في إحدى قاعات قصور المماليك، وبعد وفاة محمد علي باشا زار مصر الأرشيدوق النمساوي ماكسيمليان، والذي استضافه عباس الأول في القصر المذكور، وأبدى الأرشيدوق إعجابه بمقتنيات القاعة، فأهدى له عباس الأول مقتنيات القاعة بالكامل، وحُمِلت بالباخرة إلى فيينا.
واستمرارًا لمسلسل أسرة محمد علي في إهدار آثار مصر، ففي عام 1860م في عهد سعيد باشا، عثر الأهالي في منطقة ذراع أبو النجا بالأقصر على مومياء ملكة وعليها مجوهراتها، وأُبلغ النبأ إلى سعيد باشا ومارييت باشا مدير مصلحة الآثار، الذي أمر بحفظ الآثار، لكن مدير قنا نقلها إلى بيته، ولما جاء مفتش الآثار لم يجد إلا قليلًا من الحلي، بينها سلسلة من الذهب يزيد طولها على متر، أهداهـا الوالي سعيد باشا إلى إحدى نسائه.
وقد تعامل الخديوي إسماعيل مع آثار مصر بالمنطق نفسه، فقد كان يهدي الآثار إلى كل من هب ودب، فوصل ما أهداه إلى حكام أوروبا لأكثر من أربعة آلاف قطعة أثرية لحكام أوروبا، غير إهدائه الإمبراطورة الفرنسية "أوجيني" مجموعة من الحُلي الفرعونية النادرة والنفيسة.
ولم يتأخر الملك فؤاد عن مسار عائلته، فقد أهدى مقبرة الفنان "خا" الفرعونية إلى المتحف المصري في تورينو، وبأمره تعرضت بعض مقتنيات الملك توت عنخ آمون ومقبرته للسرقة وتسهيل نقلها على يد اللورد كارنافون وهوارد كارتر عام 1922م، وتوجد بعض هذه القطع الآن في متحف المتروبوليتان بنيويورك، ويُذكر أن عدد القطع الأثرية المصرية الأصلية التي يضمها المتحف يبلغ حوالي 53 ألف قطعة، حتى إن الملك فؤاد أخذ منها مجموعة قيمة من الحُلي وأهداها لزوجته الملكة نازلي، وهو ما يؤكد المثل القائل: "إذا كان رب البيت بالدف ضاربًا..."
إذا قارنا بين حكام أسرة محمد علي والحكام الأوروبيين، نجد أن حكام أسرة محمد علي فرطوا في آثار مصر بمنتهى السهولة لأنهم لا يعرفون قيمتها، أما الحكام الأجانب فلم يعتبروها ملكيات خاصة، بل وضعوها في متاحف وميادين بلادهم.
طوال حكم الأسرة العلوية ظلت آثار مصر طُعمة لكل أصدقاء تلك الأسرة من الأجانب، ولم تقف عمليات النهب عند الفرنسيين وحدهم، وكان في نفس المضمار الدبلوماسي الإيطالي “جيوفاني باتيستا بلزوني” الذي تفوق على جميع معاصريه في نهب الآثار المصرية.
وبعيدًا عن سياسة الإهداءات، فقد أغمضت الأسرة العلوية عينيها عن سرقات الآثار المنظمة، فلم يُعاقَب في قضايا سرقة الآثار إلا المصريون، فقد حضر تجار الآثار والمنقبون إلى مصر من كل بقاع الدنيا، ومارسوا كل أنواع العنف والإيذاء ضد المصريين للسطو على الآثار، كما يتضح في حالة واليس بادج، مسؤول قسم الآثار المصرية بمتحف لندن، الذي حضر إلى مصر وعُرف عنه استخدام العنف للحصول على الآثار.
وبمرور الوقت أصبح السطو على آثار مصر الهواية المفضلة للدبلوماسيين الأجانب، وأصبحت أرض مصر مسرحًا للمنافسة بين قناصل أوروبا في هذا المجال. فعلى سبيل المثال كان القنصل الإنجليزي هنري سولت من كبار تجار الآثار وتنافس مع دورفيتي الفرنسي على نهب الآثار المصرية.
وكان لسوء حظ مصر أن الهوى الثقافي للأسرة العلوية كان فرنسيًا، وهو ما يتضح في كل توجهات الأسرة، وهو الذي توافق مع التوجه الفرنسي في محاولة السيطرة على تراث وآثار مصر.
قد تكون محاولة سيطرة فرنسا على مصر ثقافيًا أمرًا بديلاً بعدما فشلت حملة نابليون، حيث اتضح زيادة الاهتمام بالآثار والتراث المصري بعد الحملة، فقد كان من أهم مقترحات لجنة الحملة العلمية "اختيار ونقل الآثار المصرية القديمة، وتأمين وصولها إلى فرنسا سليمة!!".
الأمر الذي اتضح في تخصيص جناح للآثار المصرية في اللوفر، إن لم يكن اللوفر قد أُنشئ خصيصًا لاستقبال آثار مصر.
ويُذكر أن الحملة الفرنسية عند استعدادها للخروج من مصر كانت قد كدست ما جمعته من الآثار المصرية وخزنته في الإسكندرية تمهيدًا لنقله إلى باريس، لكنهم فشلوا لرفض الإنجليز، الذين اشترطوا عليهم أن يتركوا الآثار المصرية لهم، بل إن الإنجليز قرروا نقل إحدى المسلات الفرعونية إلى لندن احتفالًا بفشل الحملة الفرنسية، وهي المسلة التي تزين أهم ميادين لندن حاليًا، بل نُقلت مجموعة ضخمة من الآثار المصرية من التماثيل والمومياوات والبرديات إلى المتحف البريطاني، علاوة على عدد كبير من القطع الأثرية المصرية النادرة، يُعد أشهرها حجر رشيد بعدما انتزعته بريطانيا من فرنسا.
استمر المخطط الفرنسي للاستيلاء على آثار مصر عن طريق قربهم من أسرة محمد علي، وهو ما جعل فرنسا من أكثر بلدان العالم نهبًا للآثار المصرية، عن طريق رجالهم مثل القنصل برناردينو دورفيتي، أول قنصل لفرنسا بمصر عقب الحملة الفرنسية، وكان يتاجر في الآثار المصرية بوضوح، وكذلك شامبليون، الذي نهب وحده آلاف القطع من الآثار المصرية، فقد وصلت القطع المصرية في اللوفر وحده في نهاية عمر شامبليون عام 1823م إلى ما يقرب من عشرة آلاف قطعة، وقد وصلت القطع المصرية في نفس المتحف إلى أكثر من مائة ألف قطعة مع نهاية حكم أسرة محمد علي في مصر.
وأوجست مارييت الفرنسي الذي تولى شؤون آثار مصر، والذي يُعرف بلص الآثار المصرية أو اللص التائب، فقد سرق وهرب كثيرًا من آثار مصر إلى فرنسا، ويقال إن ما فشل في نقله وتهريبه وضعه في متحف بولاق، والذي كان بمثابة نقطة تجميع للآثار المصرية قبل تهريبها إلى فرنسا.
واستمر مارييت وتلاميذه من بعده في سرقة الآثار، فاستغلوا فيضان عام ١٨٧٨م الذي ضرب متحف بولاق، فهربوا معظم محتويات المتحف إلى فرنسا، مدعين اختفاءها في أحداث الفيضان.
وعلاوة على إدارة الفرنسيين للعمل الأثري في مصر، فقد تدخلوا لدى أصدقائهم من أسرة محمد علي في التشريعات الخاصة بالعمل الأثري، وهو ما يتضح في تكريس نظام القسمة، ناهيك عن مشروعية البيع ومشروعية اقتناء المجموعات الخاصة التي تحول مقتنوها إلى تجار ومهربين. فعلى الرغم من شهادة التاريخ لمحمد علي باشا بأنه أول من وضع القوانين لمواجهة سرقة الآثار، إلا أنه لم يمنع نفسه من إهدائها.
في البداية، كان نظام القسمة قائمًا على أن تُمنح بعثة التنقيب بعض الآثار المكتشفة كحافز تشجيعي، وتطور الأمر إلى أن شاركت البعثة الدولة في كل اكتشاف بنسبة النصف. وجاء المشرع في عهد أسرة محمد علي ليمنح الدولة المصرية الحق في شراء أي قطعة تقع في نصيب المنقب، وللغَرابة أقر القانون أيضًا حق المنقب في رفض بيع القطعة إذا لم يُعجبه الثمن. ولا عجب في ذلك، فالمشرعون وواضعو القوانين في حكم أسرة محمد علي كانوا أجانب حتى قبل دستور ١٩٢٣م، وبالطبع هم أصحاب مصلحة، فتحولت الدولة إلى شريك مع مهربي وتجار الآثار.
وفي عام ١٩١٢م أصدرت الحكومة المصرية قانون تنظيم منح تراخيص الاتجار في الآثار، وهو الأمر الذي شرّع سرقة الآثار وتهريبها.
وفي عام ١٩٣٧م عُقد في مصر مؤتمر دولي في الآثار برعاية الملك فاروق، فُرض على الدولة المصرية السماح للبعثات الأجنبية بتملك العديد من الآثار المصرية المكررة، وكذلك وضع الأولوية في القسمة للبعثات الأجنبية.
وفي ظل حالة النهب المنظم لآثار مصر، ظهرت بارقة أمل في شخوص عدد من المثقفين الوطنيين، أمثال العلّامة الدكتور سليم حسن وكيل مصلحة الآثار المصرية.
فكما ذكرنا سابقًا، فإن فرنسا سيطرت ثقافيًا على مصر زمن أسرة محمد علي، وكان من أهم المجالات التي سيطر عليها الفرنسيون مجال الآثار، حتى يبدو أنه كان هناك اتفاق أن يسيطر فرنسي على مصلحة الآثار منذ نشأتها، فكان المدير وكبار الموظفين من العناصر الفرنسية، وهو ما يعني "أن القط معه مفتاح القرار".
إلى أن ظهر سليم حسن، عالم الآثار المصري، والذي تولى منصب وكيل مصلحة الآثار عام ١٩٣٦م، الأمر الذي كان يمثل تحديًا للأجانب، وخاصة فرنسا ورجالها الذين كانوا بمثابة عصابة أو مافيا تقوم بالحفر والتنقيب والتهريب والتسجيل والحصر طيلة عقود من حكم عصر أسرة محمد علي.
وكان الفرنسي آتيين دريوتون (١٨٨٩ – ١٩٦١م) هو مدير المصلحة في تلك الفترة، وكان يرتبط بعلاقة صداقة شديدة مع الملك فاروق ورجاله.
وبدأت المواجهات عندما طلب وزير المعارف محمد حسين هيكل (كانت مصلحة الآثار تابعة لوزارة المعارف) من سليم حسن جرد مخازن المتحف المصري للمرة الأولى منذ إنشائه عام ١٨٣٥م.
بعد أن كلف هيكل الفرنسي دريوتون بالأمر أكثر من مرة، ولكنه امتنع عن التنفيذ. وبالفعل نفذ الأمر سليم حسن، وتمت عملية الجرد التي أسفرت عن تقرير يُعتبر طامة كبرى بكل المقاييس، فقد ذكر سليم حسن في تقريره ما يفيد بضياع وفقد قرابة ٢٣ ألف قطعة أثرية، وأكد أن آلاف القطع الموجودة بالمخزن غير مسجلة، مما يجعلها ممهدة للسلب.
وهنا أصبحت الحرب معلنة بين فرنسا والقصر من ناحية، والعناصر الوطنية من جانب آخر. ودخل على خط المعركة اللوبي الإنجليزي بعدما رفض سليم حسن قانون قسمة الآثار المكتشفة، والذي كان يقضي بقسمة الآثار بين الحكومة المصرية والمنقبين، ومعظمهم أجانب بالطبع.
وكان من أسباب شدة المعركة رفض سليم حسن تقسيم آثار توت عنخ آمون.
واشتد الأمر بدخول فاروق شخصيًا في الصراع، حينما طلب استرداد مجموعة أثرية كان قد أهداها والده إلى المتحف في وقت سابق، ولكن سليم حسن رفض، ثم قام بتسجيل المجموعة الأثرية في سجلات المتحف.
واجتمعت جميع الأطراف على التخلص من سليم حسن وتشويه سمعته، فتقدم مدير المصلحة الفرنسي ومعاونوه بشكوى رسمية لوزير المعارف تتهم سليم حسن بسرقة يوميات عمال الحفر، ووقع على الشكوى عدد من العمال.
وتولى التحقيق الإداري أحد رجال القصر، وحاول إثبات التهمة على سليم حسن، وحُولت القضية إلى النيابة العامة التي برأته، وراح ضحية تلك البراءة النائب العام ووزير العدل، وتم فتح القضية مرة أخرى أمام المحاكم الأهلية مع خروج النائب العام ووزير العدل من الخدمة.
وكان القرار الاكتفاء بالعقوبة الإدارية – أي الإحالة إلى المعاش - دون المحاكمة الجنائية. وهو قرار حقق لخصومه الهدف: إبعاد سليم حسن عن مصلحة الآثار. وعلى هذا الأساس قررت النيابة العمومية حفظ القضية.
وكان رد سليم حسن: "منذ متى يُعاقب المختلس والمزور بالإحالة إلى المعاش؟".
وبعد أقلّ من عامين من إبعاد سليم حسن، ظهرت قضية تهريب آثار وادي الملوك، وكان المتهم الرئيسي فيها الفرنسي دريوتون نفسه، إلا أن علاقته بالملك فاروق حالت دون عزله من منصبه، الذي ظل فيه يمارس كل أعمال السطو والسلب والنهب على آثار مصر حتى اندلاع ثورة يوليو ١٩٥٢م، التي عزلته من منصبه.