رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


سيناء عنوان المؤامرة (٣)

8-3-2017 | 13:23


 

:يكتبها _  العميد خالد عكاشة

رئيس المركز الوطنى للدراسات الأمنية

 

تناولنا في الحلقات السابقة ما اصطلح على تسميته بالطرح الإسرائيلي المتعلق بسيناء وإمكانية تنفيذ مشروع (غزة الكبرى)، وقد فصلنا مكونات المشروع البحثي الإسرائيلي وما احتواه من رؤية لمبدأ تبادل الأراضي ما بين مصر وإسرائيل، سعيا للوصول إلى حل للقضية الفلسطينية التي كانت حين خروج إشارات هذا المشروع للنور قد وصلت لنقطة انسداد من وجهة النظر الإسرائيلية، حيث لم تبحث تلك الأخيرة ولم تتوافر لديها إرادة الانصياع للأطر القانونية الدولية والجلاء عن الأراضي المحتلة، مما دفعها لسلوك هذا المسار الملتوي المملوء بالفخاخ والتعقيدات للأطراف الأخرى ليس لمصر وحدها صاحبة حق السيادة المطلقة على أرض سيناء بل وأيضا للأردن والفلسطينيين، ومباشرة ندخل إلى محطات وتفاصيل الطرح الإسرائيلي وبما كان عليه الوضع لدى النظام والأجهزة المصرية حينئذ، ففيه الكثير مما يستحق إعادة الاستذكار والاعتبار، ربما يساعد ذلك في تفكيك بعض شفرات ما يحدث اليوم على أرض سيناء أو ما يمكن اعتباره هدفا استراتيجيا لكل من إسرائيل والإرهاب وغيرهما ممن يخططون لسيناء وفق أهداف بعيدة المدى والمنال إن شاء الله.

بدأ الطرح الإسرائيلي همسا مع نظام مبارك فى العام ١٩٨٦م عن رؤى جديدة لحل القضية الفلسطينية محوره (قطاع غزة ـ شمال سيناء)، وكانت هذه الرؤى غير مكتملة المعالم من حيث الطرح، إذ ظلت حينها في مرحلة جس النبض مع النظام المصري الجديد وقتها، وأول تماس مباشر مع نظام مبارك لمعرفة حدود تحركاته وقابليته للتعاون، فالجانب المصري كان أثناء سنوات ١٩٨٢م وما بعدها مستغرقا في أروقة المحاكم الدولية ينتزع حقه فى مدينة طابا، لذلك لم يأخذ هذا العرض الغائم بالجدية المطلوبة فى هذا التوقيت، خاصة أنه كان معنيا في نفس الفترة الزمنية برأب الصدع الكبير مع الأنظمة العربية التي تباعدت عن مصر فيما سمي بجبهة الرفض العربي، انتقلت على إثرها جامعة الدول العربية من القاهرة لأول مرة منذ تاريخ إنشائها، ظهر ذلك كتركة مزعجة من نظام السادات أمام نظام مبارك وضعته في مربع أضيق كثيرا مما يحتمل، لذلك لم يرد مبارك أن يدخل في معادلاته الجديدة أي اتصالات مباشرة مع الجانب الإسرائيلي، وابتعد تماما عن تبني أو ترويج لأى حديث عن حل جديد للقضية الفلسطينية قد تربك مساعيه في هذا المضمار، فضلا عن احتدام المشهد العربي بتفاقم الحرب الأهلية اللبنانية .. وجاءت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام ١٩٨٧م لتغلق هذا الهمس وتخلط الأوراق برمتها وتفرض واقعا فلسطينيا وعربيا جديدا على كل الأطراف.

فى العام ١٩٩٠م ووفق الدأب الإسرائيلي المعروف أعادوا عن طريق وسطاء طرح الموضوع على «ياسر عرفات» بشأن إقامة الدولة الفلسطينية في قطاع غزة، مع ضمان أمريكي هذه المرة بإضافة بعض «التحسينات» على ظروف القطاع الخانقة، لكن بدهاء الزعيم الفلسطيني توصل إلى أن هذه «التحسينات» لابد أن تكون على حساب الجانب المصري في أرض سيناء، فأسرع بحمل الرفض المصري القاطع للإسرائيليين، وبرؤية استراتيجية ثاقبة تمسك بموضع قدم في الضفة (غزة وأريحا أولا) وأدخل المصريين إلى مائدة التفاوض قسرا، وبدأ منذ هذا التوقيت ينسق معهم في جميع الترتيبات التي تمت حينئذ.

وجرت مياه كثيرة في نهر العلاقات المصرية الإسرائيلية منذ أن بدأت مصر تدخل على طريق التفاوض ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعلى خط تنفيذ الترتيبات التي يتم الاتفاق عليها ما بين الطرفين، وأعيد ترتيب أوراق اللعب في المنطقة أكثر من مرة، إلى أن جدد الإسرائيليون الحديث عن فكرة «سيناء هي الحل»، بعد أن أخضعوا المقترح الذي كان مازال غائما للدراسة الأكاديمية الدقيقة في «مركز السادات ـ بيجين لدراسات السلام والأمن»، من أجل حساب مساحات الأرض وتبادل المنافع ما بين جميع الأطراف، وخرج بالفعل مشروع «غزة الكبرى» بصورة أكثر تحديدا، من حيث قياسات الأراضي وبالأماكن والدول التي يقترح مشاركتها في التنفيذ، وبدأوا في العزف على هذا اللحن في العام ٢٠٠٦م والعام ٢٠٠٨م مع الجانب المصري أولا متمثلا فى طرح مساحة من الأرض تضيق وتتسع وقابلة للتفاوض في هذه المنطقة من شمال سيناء، وهي تمثل امتدادا طبيعيا لقطاع غزة ـ المزعج ـ والذي حلم الإسرائيليون يوما بإلقائه فى البحر، وتكرر تسويق هذا الطرح في العديد من العواصم الأوربية حتى يتكون رأي وقبول سياسي دولي ليكون حلا نهائيا وسحريا للقضية الفلسطينية، وبدت الجائزة الكبرى الإسرائيلية ـ هي تحقيق حلم ابتلاع ما تبقى من الضفة الغربية داخل نطاق الدولة اليهودية. وبدأت إسرائيل تجهز تفصيلات تفاهم بهذا الشأن مع الجانب الأردني المعني الأول بوضع الضفة، وللمفارقة التاريخية المدهشة التي تلقي بظلالها على هذا المشروع حتى اليوم، أنه لم تكن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعيدة تماما عن هذا العرض السحري، بل إن بعض تحليلات تأريخ نشأتها وخروجها للنور في العام ١٩٨٧م يذكر بوضوح بأنها ولدت لتحقيق هذا الحلم الإسرائيلي الساحر.

قوبل هذا العرض برفض مصري رسمي حاسم في حينه .. ونظرا لابتعاد مثل هذه الأحاديث عن العلن، فكان الشد والجذب فيها يتم في الغرف المغلقة، ويأخذ على الأرض أشكالا وعناوين أخرى، لذلك قامت مصر بتكثيف جهودها في مسألة المصالحة الفلسطينية ما بين «سلطة فتح، وحماس» لمحاولة تجاوز مسألة التقسيم القسري الفلسطيني هذه المرة ما بين «الضفة، وغزة» وللالتفاف على الطرح الإسرائيلى، لكن المسعى المصري قوبل بتشدد غريب من قادة حماس، ومراوغة واضحة تتعامل مع القطاع بمبدأ الغنيمة فى لحظات الاقتراب من الحل، وكان الرد الإسرائيلي هو الهجوم على غزة في العام ٢٠٠٦م واستهداف المرافق المعيشية المحدودة، ثم إحكام الحصار حول القطاع بقرار إسرائيلي منفرد، بغلق المعابر كافة التي تصل القطاع أولا بالضفة والقدس وثانيا بدولة إسرائيل، للدفع باتجاه تحويل القضية من قضية احتلال إلى صورة من صور الإغاثة الإنسانية، وتقديم المعونات لمنطقة تفتقر إلى الحد الأدنى من وسائل الإعاشة، وتكريس استحالة قيام دولة أو شبه دولة على هذه المساحة الضيقة المختنقة من جميع الجهات إلا من جانب سيناء!

بدأ قادة حماس (الإخوان المسلمين) يحشدون الرأي العام داخل القطاع بالعزف على نغمة الحصار الخانق وغلق المعابر ومراوغات تشغيل «معبر رفح»، وساد جدل طويل حول دخول المعونات الإنسانية والطبية منه أم من «معبر كرم أبوسالم»، ومثل هذا النزاع عنوان التنافس ما بين حماس والسلطة الفلسطينية، فقد كان توزيع المعونات على الفلسطينيين هو سلاح اكتساب الولاءات وربط المصالح، ودخول المعونات من «معبر رفح» يضعها تحت أيدي حماس ودخولها من «معبر كرم أبوسالم» كما تنص (اتفاقية المعابر الدولية) تضعها تحت يد السلطة في رام الله، واختفى تماما أي حديث عن الاحتلال أو العدوان، وكان الرد المصري في حينه الذي جاء مرارا على لسان «الرئيس مبارك» أن قطاع غزة مازالت (منطقة محتلة) من الإسرائيليين، وعليهم وفق قواعد القانون الدولي التزام توفير سبل المعيشة كاملة لسكان تلك المنطقة، وعلى المجتمع الدولي تحمل مسئولية ذلك في وضوح.

... وكان هذا هو الالتفاف الثاني لمصر على ما تخطط له وتريده إسرائيل من عزل قضية قطاع غزة عن باقى قضية الاحتلال، والإصرار على التجاهل المتعمد لغلق «٦ معابر» ما بين غزة وباقى الأراضي الفلسطينية وحصر الأمر في إغلاق «معبر رفح» باعتباره السبب في حصار القطاع، وكان الموقف الوحيد الذي يصب في الصالح الإسرائيلي هو ما تساعدها حركة حماس فيه، من التشهير الكاذب بالحصار المصري للقطاع، وكانت الآلة الإعلامية العربية المساندة لحماس (قناة الجزيرة القطرية) تساعدها في ترسيخ هذا المفهوم، عند الرأي العام العربي غير المدقق في التفصيلات الدقيقة وغير المطلع على ما بين سطور التشهير، ولا يعلم ما يدور خلف ستار إنقاذ ضحايا القطاع، بلغ الأمر ذروته في العام ٢٠٠٨م عندما تم تفجير عدة ثغرات فى الشريط الحدودي ما بين قطاع غزة وسيناء، أعقبه اجتياح الفلسطينيين للمنطقة الحدودية الشرقية من رفح المصرية إلى الشيخ زويد حتى وصلوا إلى مدينة العريش (٦٥كم)، وبدأوا في شراء ونقل مختلف أنواع البضائع والسلع إلى غزة تحت شعار «كسر الحصار»، وحسنا فعلت السلطات المصرية حينئذ أن تركتهم ينقلون ما شاء لهم من سلع دون التعرض المباشر لهم، وبدأت تراود الكثيرين منهم أحلام البقاء في مدينة العريش أو الشيخ زويد أو رفح المصرية، ذلك قبل أن تجبرهم السلطات المصرية في هدوء على المغادرة، وتلك الواقعة التي استمرت نحو ثلاثة أسابيع كانت هي البروفة الأخيرة لما كان يدور فى الغرف المغلقة !!

وعند تلك المحطة نتوقف في هذه الحلقة، ليتبقى لنا في الحلقة الأخيرة الأسبوع المقبل إن شاء الله المحطتان الأخيرتان وهما الأخطر والأكثر اقترابا على الإطلاق والأعلى سخاءً في المقابل الذي كانت إسرائيل على استعداد لسداده في مقابل التمرير، الأولى في نهاية عصر مبارك والأخرى في عام تولي الرئيس الإخواني محمد مرسي منصب الرئاسة، فأين كانت أبعاد خطوات كل منهما فيما يخص سيناء الأرض والسيادة؟