رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


جمال حمدان.. عن الاستعمار الصهيوني (6)

13-12-2025 | 15:30


د. عاطف معتمد,

خصص جمال حمدان الباب الثاني من كتابه«استراتيجية الاستعمار والتحرير للاستعمار الأوروبي الحديث». وقد اخترنا اليوم في الحلقة السادسة من رحلتنا مع الكتاب حديثه الدقيق عن حالة الاستعمار الصهيوني في فلسطين.

من بريطانيا إلى الولايات المتحدة

أخذ حمدان يتتبع بدايات الحركة الصهيونية، فوجدها تتسق مع آخر موجة كبرى من موجات الاستعمار الأوروبي الحديث من التكالب على أفريقيا، وإن كان تحقيقها على أرض الواقع قد تعاصر مع نهايات عصر الاستعمار بوجه عام.

يرى حمدان أن الصهيونية تعلقت بأذيال موجة التكالب على أفريقيا لتركبها ولتستثمر المناخ السياسي الاستعماري العام وصولًا إلى تحقيق أهدافها الخاصة في إنشاء "الدولة اليهودية".

يقول حمدان إن الصهيونية من بدايتها حركة سياسية في الحقيقة (الصهيونية السياسية)، ولكنها تقنعت منذ اللحظة الأولى بالدين (الصهيونية العاطفية)، لتخلق من "رؤيا العودة إلى أرض الميعاد" أيديولوجية تاريخية ودينية تجمع يهود الشتات حولها، ولتخلق من هذه الرؤية أيضًا قناعًا وشعارًا تخفي به حقيقة أهدافها عن العالم الخارجي. ولهذه الأسباب رفضت الصهيونية عدة اقتراحات لوطن قومي في غير فلسطين.

يؤكد حمدان أنه كان من المستحيل منذ البداية أن يتحقق الحلم إلا بالمساعدة الكاملة من قوى السيادة العالمية، ومن هنا التقت الإمبريالية العالمية مع الصهيونية لقاءً تاريخيًا على طريق واحد هو طريق المصلحة الاستعمارية المتبادلة.

تقوم هذه المصلحة على أن يكون الوطن اليهودي قاعدةً تابعةً وحليفًا مضمونًا يخدم دومًا مصالح الاستعمار، وذلك ثمنًا لخلقه إياه وضمانه لبقائه.

على هذا النحو كانت بريطانيا هي التي خلقت الوطن القومي منذ الحرب العالمية الأولى، بينما خلقت الولايات المتحدة الدولة اليهودية منذ الحرب الثانية.

فقد كانت بريطانيا (الاستعمار القديم) هي التي خلقتها، ولكنها سلمتها بعد ذلك طواعيةً لوصاية أمريكا (الاستعمار الجديد). فكانت الأولى بمثابة الأب البيولوجي، والثانية بمثابة الأب الاجتماعي.

وإذا كانت إسرائيل ملتحمة كلية في الوقت الحالي بالولايات المتحدة، فإنه ليس من الواضح تمامًا من الذي يستعمر من: فإسرائيل تكاد تبدو اليوم وكأنها أمريكا في الشرق الأوسط، أو الولاية الحادية والخمسون من الولايات المتحدة كما يُقال، أو على الأقل قاعدة أمريكية – أكبر قاعدة أمريكية – عبر البحار، إلا أنها قاعدة بدرجة دولة، وإلا أن كل طاقمها من اليهود. وفي نفس الوقت تمارس الصهيونية العالمية لحساب إسرائيل نفوذًا وضغطًا غير متناسب على الولايات المتحدة.

من إسرائيل الصغرى إلى إسرائيل الكبرى مر تكوين إسرائيل عند حمدان بمرحلتين: التغلغل ثم الغزو. في مرحلة التغلغل يبين حمدان ثلاثة مشاهد متتابعة:

موجات من التسلل والتسرب المبعثر حتى ما قبل الحرب الأولى.

فتح الانتداب باب الهجرة إلى الوطن القومي ليبدأ تغلغل حقيقي خلق جسما خطيرًا من أقلية يهودية كبيرة، وانتزع موطئ قدم بسياسة شراء الأراضي المخططة من قبل.

بهذا النهج تكونت نواة المجتمع اليهودي في فلسطين، ونجح في خلق دولة داخل الدولة.

وقد اتسمت هذه المرحلة بالدموية في شكل حرب عصابات يهودية شجعها الانتداب بالسلاح، في ظل مقاومة عربية ثورية قاومها الانتداب بالقوة.

ثم جاءت مرحلة الغزو ومرت بخطوتين متتابعتين:

اغتصاب أرض فلسطين بعد انسحاب الانتداب – متواطئًا – في 1948، وعن طريق حرب ضد العرب يسميها اليهود حرب الاستقلال (عن الاستعمار البريطاني) أو حرب التحرير من الاستعمار العربي.

طرد نحو مليون من العرب الأصليين خارج الأرض المحتلة، في الوقت الذي تدفقت فيه الهجرة الكبرى لتجمع في النهاية نحو المليونين أو الثلاثة من الصهيونيين يمثلون حوالي 13% من اليهودية العالمية.

يقول حمدان إن إسرائيل اعتبرت نفسها منذ ذلك الوقت "إسرائيل الصغرى" فقط، على أساس أن هدفها المعلن هو "إسرائيل الكبرى" أي من النيل إلى الفرات. وفي سبيل تحقيق هذه الخطة، قامت بحربين عدوانيتين أخريين أو ثلاث ضد الدول العربية في 1956، 1967، 1973، عملت فيها جميعًا بالتواطؤ مع دول الاستعمار الغربي، علاوة على آخر جرائمها سنة 1982 في لبنان.

وإسرائيل استعمار توسعي أساسًا، وأطماعها الإقليمية معلنة بلا مواربة، وخريطة إسرائيل الكبرى محددة من قبل ومتداولة، وشعار الإمبراطورية الصهيونية الموعودة "من النيل إلى الفرات أرضك يا إسرائيل". وهدف إسرائيل الكبرى أن تستوعب كل يهود العالم في نهاية المطاف، ومثله لا يمكن أن يتم إلا بتفريغ المنطقة من أصحابها، إما بالطرد وإما بالإبادة. وبطبيعة الحال، فلا سبيل إلى هذا إلا بالحروب العدوانية الشاملة. ونحن بهذا إزاء أخطبوط سرطاني في آن واحد، إزاء عدوان آني واقع وعدوان سيقع في أي آن.

سبعة أوجه للاستعمار الصهيوني

يمكننا عرض أفكار حمدان في تحليل الصهيونية بوضعها في سبعة ملامح:

-ظاهرة استعمارية لا دينية

إسرائيل عند حمدان دولة/ظاهرة استعمارية صِرف، قامت على اغتصاب غزاة أجانب لأرض لا علاقة لهم بها دينيًا أو تاريخيًا أو جنسيًا، وإن زعموا عكس ذلك تمامًا ودوامًا.

فمن الناحية الدينية، ينفي حمدان رؤيا العودة الخرافية والوعد الأسطوري المزعوم، وذلك لأنه لا أساس لهما أو سند من الدين، وإلا لجازت نفس العودة لبقية الأديان، فضلًا عن أنه ليس على أصحاب دين أي التزام بدعاوى أصحاب دين آخر.
وتاريخيًا، لا يجد حمدان أية علاقة بين اليهود وفلسطين بعد أن انقطعت الصلة بينهما منذ ألفي عام.

وجنسيًا أو عرقيًا ليس ثمة روابط بينهما، لأن هناك اثنتين من الهويات اليهودية في التاريخ: هوية اليهود القدامى وهوية اليهود المحدثين، وما من صلة أنثروبولوجية مذكورة بينهما.

يقول حمدان إن يهود فلسطين التوراة بعد الخروج تعرضوا لظاهرتين أساسيتين طوال 20 قرنًا من الشتات في المهجر: خروج أعداد ضخمة منهم بالتحول إلى غير اليهودية، ودخول أفواج لا تقل ضخامة في اليهودية من كل أجناس المهجر. واقترن هذا بتزاوج واختلاط دموي بعيد المدى، انتهى بأن أصبح اليهود المحدثون شيئًا مختلفًا كلية عن اليهود القدامى، ولم يعد اليهود اليوم من نسل بني إسرائيل التوراة بأي حال.

وبهذا فإن عودة اليهود إلى فلسطين بالاغتصاب هو غزو وعدوان غرباء، لا عودة أبناء قدامى، أي استعمار لا شبهة فيه بالمعنى العلمي الصارم. وإسرائيل بالتالي تمثل جسمًا غريبًا ودخيلًا مفروضًا على الوجود العربي، أبدًا غير قابل للامتصاص، ولكنه حتى الآن غير ممكن اللفظ.

•استعمار طائفي عنصري

يرى حمدان في إسرائيل استعمارًا طائفيًا بحتًا، ويرى تلك الدولة دولة دينية صرفة، فهي تقوم على تجميع اليهود، واليهود فقط، في جيتو سياسي واحد، ومن ثم فأساسها التعصب الديني ابتداءً. وإذا كان من الواضح أنها بذلك تمثل شذوذًا رجعيًا في الفلسفة السياسية للقرن العشرين الذي لا يعرف أو يعترف بالدول الدينية، فإنها في الواقع تعيد إلى الحياة حفريات العصور الوسطى بل القديمة، ومنطق العصور القبلية المتحجرة.

وهي كذلك تفرض من طرف واحد حربًا دينية ليس الطرف الآخر مسؤولًا عنها، بل هو يرفضها، وإسرائيل تبعث بذلك شبهة صليبيات جديدة في منطقة لا تعرف إلا التسامح الديني تقليديًا.

كما يرى حمدان في إسرائيل استعمارًا عنصريًا مطلقًا، وأن فرضهم الإسرائيليين لأنفسهم كأمة مزعومة مدعية في دولة مصطنعة مقتطعة يجعل منهم ومن الصهيونية حركة عنصرية أساسًا، وذلك بكل معنى العنصرية من استعلاء وتعصب واضطهاد ودموية.

•استعمار أوروبي أبيض اللون

وهي استعمار لبضعة ملايين من "البيض" وسط بحر من "الملونين" العرب، وهي من ثم عنصرية بيضاء، بل عنصرية بيضاء نازية بالدقة، لأنها تعد نفسها "الشعب المختار" على غرار "ألمانيا فوق الجميع" أيام الهتلرية.

ويرى حمدان إسرائيل قطعة من الاستعمار الأوروبي عبر البحار، والغلبة فيها لليهود الغربيين (الأشكناز) على اليهود الشرقيين (السفارديم)، بل إن إسرائيل تعتبر نفسها دولة غربية لا شرقية.

•استعمار إبادة سكسوني

حين يقارن حمدان الاستعمار الصهيوني بنمط الاستعمار السكني في البيئات المعتدلة كما في أمريكا اللاتينية، الذي يضيف المستعمرين إلى الأهالي الأصليين دون إبادة شاملة، وبين النمط السكسوني الذي يقوم على إحلال المستعمرين محل الأهالي الوطنيين بالإبادة أو الطرد كما في أستراليا وجنوب إفريقيا والولايات المتحدة، فإنه يجد إسرائيل تقع بالتأكيد في النمط السكسوني.

ومع ذلك، فهي تتميز عنه بما يجعلها حالة فريدة شاذة لا مثيل لها بين كل نماذج الاستعمار الاستيطاني، فهي تجمع بين أسوأ ما في هذه النماذج، ثم تضيف إليه الأسوأ منه. فهي كأستراليا والولايات المتحدة انتظمت قدرًا محققًا من إبادة الجنس، وهي كجنوب إفريقيا تعرف قدرًا محققًا من العزل الجنسي، ولكنها تختلف عن الجميع من حيث إنها طردت كل السكان الأصليين خارجها تمامًا ليتحولوا إلى لاجئين مقتلعين معلقين على حدودها.

وإسرائيل بهذا كله أعلى مراحل الاستعمار الاستيطاني.

•استعمار ثلاثي الأبعاد

يرى حمدان أن إسرائيل، رغم أنها تجسيم للاستعمار متعدد الأغراض، إلا أنها تمثل استعمارًا مثلث الأبعاد: استيطانيًا، واستراتيجيًا، واقتصاديًا.

يؤكد حمدان أن وجود إسرائيل غير الشرعي رهن من البداية إلى النهاية بالقوة العسكرية وبكونها ترسانة وقاعدة وثكنة مسلحة، لأنها ما قامت ولن تبقى إلا بالدم والحديد والنار.

وبناءً على هذا، يرى حمدان أن إسرائيل دولة عسكرية في صميم تنظيمها وحياتها، وأن "أمن إسرائيل" هو المعضلة الدائمة، ولا حل لهذه المعضلة إلا بأن يصبح جيشها هو سكانها، وسكانها هم جيشها، وهو ما يُعبر عنه بـ"عسكرة" إسرائيل.

أما أنها استعمار اقتصادي، فهذا أساسي في كيانها منذ أن اغتصبت الأرض وما عليها من ممتلكات، فالاستعمار الإسرائيلي عملية رهيبة من نزع الملكية على مقياس شعب ووطن بأسره. وهي من هذه الزاوية استعمار طفيلي ابتزازي ابتلاعي. ومن تلك الصفة العسكرية وهذه الجذور الطفيلية، تخرج الصفة الفاشية الواضحة في كيان إسرائيل كنتيجة منطقية للغاية.

•استعمار يقلد النازية

يرى حمدان أن الصهيونية تكرر قصة النازية بحذافيرها. فكما كانت ألمانيا تطالب بـ"مجال حيوي"، تتكلم إسرائيل عن إسرائيل الكبرى، وكما كانت ألمانيا تدعي أنها "شعب بلا مجال"، لا تخفي إسرائيل أنها ترى في المنطقة العربية "مجالًا بلا شعب". وكما كانت ألمانيا تحث على زيادة النسل كمبرر لادعاءاتها الإقليمية، تحث إسرائيل يهود العالم على الهجرة إليها.

في النهاية، وفي النتيجة، فقد تعيَّن في حالة إسرائيل كما كانت حالة ألمانيا، أن تصبح حدودها هي جيوشها، وجيوشها هي حدودها.

يقول حمدان إننا هنا إزاء تجسيد لسخرية المفارقات الاستعمارية: فقد تلقت إسرائيل اضطهاد العنصرية النازية في أوروبا بكل مرارة التجربة، ولكنها إنما تعلمت الدرس لتنقله وتعكسه مضاعفًا على العرب في فلسطين، وهنا تتضاعف المفارقة سخرية، لأن العرب – وحدهم من بين كل المجتمعات – هم الذين لم يضطهدوا اليهود عبر التاريخ.

•استعمار بالأصالة والوكالة

إسرائيل من البداية إلى النهاية استعمار من الدرجة الأولى والثانية معًا، استعمار بالأصالة والوكالة في نفس الوقت. ونقصد بذلك أن إسرائيل قامت وأُقيمت بفعلٍ ولحساب نفسها والصهيونية العالمية، وكذلك قامت وأُقيمت بفعلٍ ولحساب الاستعمار العالمي. فبالنسبة إلى الصهيونية العالمية، فإن الدولة اليهودية ملجأ من الشتات وأخطاره المحتملة أو الموهومة. ولكن تحقيقها في البداية وبقاءها بعد ذلك لم يكن ممكنًا بغير المشاركة الكاملة للاستعمار العالمي الذي تطابقت إلى حد التماثل خططه ومصالحه.

وهي في كل أولئك تمثل فاصلاً أرضيًا يمزق اتصال المنطقة العربية ويخرب تجانسها ويمنع وحدتها، ويمتص كل طاقاتها، ونزيفًا مزمنًا في مواردها، وأداة جاهزة لضرب حركة التحرير.

إسرائيل بهذا المعنى دولة مرتزقة لا شك، تعمل مأجورة في خدمة الاستعمار العالمي، بمثل ما هي صنعته وصنيعته وربيبته. وهذا الالتقاء والتداخل العميق بين مصالح الصهيونية والإمبريالية العالميتين هو مفتاح الوجود – والمصير – الإسرائيلي برمته. وهو الذي يفسر كثيرًا من مظاهر الغرابة والتفرد فيه.

ما الحل؟

يختتم حمدان بنتيجة واضحة ترفض ما سيتحدث عنه الناس لاحقًا من حل الدولة أو حل الدولتين، إذ يقرر بوضوح: "الشرق العربي لا يمكن أن يتسع للعرب ولإسرائيل معًا، فوجود أحدهما نفيٌ لوجود الآخر، ولكي يبقى أحدهما لابد أن يذهب الآخر".