أم كلثوم.. ميلاد الصوت الذي غير تاريخ الغناء العربي
سطع اسمها كالشمس التي لا تغيب، وارتبط صوتها بذاكرة وطن وهوية أمة، لتصبح أم كلثوم أكثر من مجرد مطربة، بل أسطورة صنعت مجدها بالصبر والموهبة والفن الراقي، صوت خرج من قلب قرية بسيطة في الدقهلية، ليُكتب له الخلود فوق أكبر مسارح العالم العربي، صوت علّم الجمهور معنى الطرب، وزرع في الوجدان حنينًا لا ينتهي، لتبقى “كوكب الشرق” رمزًا للفن الأصيل وتاريخًا من الذهب لا يصدأ مهما مر الزمن.
في مثل هذا اليوم ولدت كوكب الشرق أم كلثوم، تلك الطفلة القادمة من قرية طماي الزهايرة بمحافظة الدقهلية، التي كتبت بصوتها فصلًا جديدًا في تاريخ الفن العربي. وُلدت فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي في 31 ديسمبر 1898 وفق ما هو متداول، بينما تشير السجلات المدنية إلى 4 مايو 1908، ابنة الشيخ المؤذن والمنشد الديني الذي كان أول من اكتشف كنزًا يسكن هذا الصوت الصغير.
بدأت رحلتها في كتاب القرية، تحفظ القرآن الكريم وتردد التواشيح والقصائد مع والدها، حتى جاء يومها الأول مع الغناء أمام الجمهور، خمسة عشر فردًا كانوا الحاضر الوحيد في ليلة صغيرة، لكنها أصبحت أول خطوة في طريق المجد، لتخرج أم كلثوم بعدها إلى العالم بصوت لم يعرف الهزيمة يومًا.
قدمت الطفلة الموهوبة العديد من الحفلات في القرى، وبدأ اسمها يلمع شيئًا فشيئًا حتى جاءت إلى القاهرة، حيث كان اللقاء الأهم مع الشيخ أبو العلا محمد الذي آمن بموهبتها، ثم قدمها للشاعر أحمد رامي الذي فتح أمامها أبواب اللغة والشعر، فيما تولى محمد القصبجي الجانب الموسيقي، فأسس لها أول تخت موسيقي وعلّمها المقامات، لتبدأ مرحلة الاحتراف الحقيقي. غنّت أم كلثوم أول مونولوج لها “إن كنت أسامح وأنسى الأسية” فحققت الأسطوانة مبيعات غير مسبوقة، ومع انطلاق بث الإذاعة المصرية عام 1934 أصبح صوتها جزءًا من يوم المصريين والعرب.
منذ ذلك الوقت وحتى رحيلها، كتبت أم كلثوم تاريخًا كاملًا من الطرب الرفيع، غنت ما يقرب من 700 أغنية، من بينها روائع “إنت عمري” و“أنساك” و“ألف ليلة وليلة” و“أمل حياتي” و“سيرة الحب”، وتعاونت مع عمالقة التلحين في مصر والعالم العربي، مثل زكريا أحمد، رياض السنباطي، محمد القصبجي، محمد عبد الوهاب، بليغ حمدي، ومحمد الموجي وغيرهم، لتحمل عن جدارة ألقابها اللامعة: كوكب الشرق، سيدة الغناء العربي، الست، فنانة الشعب، وصاحبة العصمة.
لم يكن صوت أم كلثوم مجرد فن، بل كان قوة وطنية وثقافية، غنت لمصر في لحظات الفخر والانكسار، وكانت سفيرة للأغنية العربية في العواصم العالمية، حاملة معها اسم الوطن إلى المسارح الكبرى، مرددة “مصر التي في خاطري وفي فمي” لتصبح رمزًا قوميًا قبل أن تكون نجمة غناء.
قدمت كوكب الشرق أيضًا تجربة ناجحة في السينما من خلال ستة أفلام من بينها “وداد” و“نشيد الأمل” و“دنانير” و“سلامة” و“فاطمة”، كما حصلت على أرفع الأوسمة العربية من العراق والأردن وسوريا ولبنان وتونس، تقديرًا لقيمتها الفنية ومكانتها الإنسانية.
وفي الثالث من فبراير عام 1975، رحلت صاحبة الحنجرة الذهبية بعد صراع مع المرض، لكن صوتها لم يرحل، وإرثها لم يختف، بل ظل حاضرًا في قلوب الملايين، ليبقى اسم أم كلثوم حيًا، وصوتها خالدًا، وتاريخها صفحة من ذهب في ذاكرة الفن العربي.