في مئوية الزعيم ناصر.. كيف طوّع الفن سلاحًا تنمويًا «4- 5»
لم نر للفن دورًا وطنيًا بارزًا إلا
في عهد جمال عبد الناصر وثورة يوليو، ربما كان ذلك الازدهار بسبب ما أتاحه «ناصر» من
مساحة وإيماءات بالتقدير للفن، فراح أهل الفنون يتبارون في تقديم أفضل ما لديهم من إنتاج يدعم رسالة القومية العربية ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل أقاموا
الحفلات لصالح المجهود الحربي ونزلوا بأنفسهم لجمع المساهمات من الناس في القاهرة
والمحافظات لدعم الجيش، وتمثل ذلك في قطار الرحمة الذي يستقله أهل الفن لجمع
التبرعات وأيضًا أسبوع التسليح وأسبوع الطلبة وأسبوع المستشفيات وحفلات الجبهة
للجنود وغيرها من مظاهر توظيف الفن لخدمة شعب مصر وجيشها.
فرحة مصـر بالجلاء
كان الرئيس جمال عبد الناصر قد وقع
اتفاقية الجلاء في التاسع عشر من أكتوبر عام 1954 في البهو الفرعوني بمجلس النواب
ومعه أربعة من رجال الثورة وهم عبد الحكيم عامر وصلاح سالم وعبد اللطيف البغدادي
ومحمود فوزي، والمقصود بالجلاء هو رحيل قوات الاحتلال البريطاني عن مصر بعد
استعمار دام 74 عامًا تقريبًا، وقضت الاتفاقية بخروج المحتل الإنجليزي في غضون
عشرين شهرًا من توقيع الاتفاقية، ويعد هذا اليوم يومًا خالدًا في تاريخ مصر.
نجوم الفن يستعدون للاحتفال
في العشرين من أبريل عام 1956 بدأت
كتائب الفنانين في التجهيز والاستعداد بما سيشاركون به فرحة الشعب والقيادة بعد
شهرين في يوم جلاء آخر جندي بريطاني عن مصر، كانت أم كلثوم قد طلبت من أحمد رامي
أن يؤلف أنشودة تعبر عن الحدث وبالفعل أوفى «رامي» وأخرج من بين أنامله «أنشودة
الجلاء» وتعهد بها أم كلثوم لمحمد الموجي ليقوم بتلحينها، وجلس «عبد الوهاب» مع فريق كبير من المطربين يوميًا لإجراء بروفات على نشيد كتبه لهم مأمون الشناوي
وهو نشيد التحرير المعروف بـ«قولوا
لمصر»، وتصبح دار الأوبرا كخلية نحل، إذ يتم فيها الإعداد والتجهيز للحفل ويجري
فيها بروفات ملحمة «أفراح الشعب» من تأليف بيرم التونسي وألحان محمود
الشريف وتابلوهات استعراضية أخرى، وكانت الإذاعة أيضًا تجهز لذلك اليوم ببرنامج
تشارك فيه بأفراح الجلاء، وحاول فريد الأطرش أن يشارك بنشيد جديد لولا منعه من
الغناء بأوامر الأطباء.
«ناصـر» وضيوفه يشهدون ملحمة عيد الجلاء
ويأتي يوم الفرحة الكبرى، يوم الاستقلال
والجلاء، وهو يوم الثامن عشر من يونيو عام 1956 ليتوارى فيه العلم البريطاني عن
سماء مصر، ويرحل آخر جندي من قوات الاحتلال الإنجليزي عن مصر، وتتنفس مصر هواءً
نقيًا يخلو من أنفاس المستعمرين، وأتت الوفود العربية والأجنبية للتهنئة ومشاركة
مصر فرحة يوم الجلاء، ومنهم الأمير فهد إبن الملك سعود والأمير الحسن ولي عهد
المغرب وعبد الحسيب رسلان وزير الدفاع السوري ومجيد أرسلان وزير الدفاع اللبناني
وديمتري شبيلوف وزير الخارجية الروسي واللواء خليل جميل نائب رئيس أركان حرب الجيش
العراقي ورجال البعثات الدبلوماسية، وفي المساء وصل الرئيس جمال وضيوف مصر إلى
نادي القوات المسلحة بالزمالك ليروا موكب نجوم الفن في مظاهرة فنية وملاحم غنائية
واستعراضية لم تشهدها مصر من قبل في وجود مندوبو الصحف ووكالات الأنباء العالمية،
وقد احتشد نجوم الفن والتمثيل للمشاركة في هذه الاحتفالية الكبرى، وضج نادي القوات
المسلحة بقرابة ثمانية آلاف من الجمهور رغم أن سعته فقط ستة آلاف متفرج.
«عبد الوهاب» وكتيبة الفن يبهرون الحضور
ويبدأ الحفل ويفرج الستار عن أول مشهد
حيث يقف سبعة من عمالقة الطرب يتوسطهم الموسيقار محمد عبد الوهاب ليغني نشيد جماعي
لأول مرة ويشارك معه نجوم آخرون وهم محمد عبد المطلب وعبد الغنى السيد وسعد عبد
الوهاب وعبد العزيز محمود وشادية وفايدة كامل، ويزدهر المشهد بوجود فاتن حمامة
وتحية كاريوكا تحمل علم مصر وبجانبها إيمان وزهرة العلا وليلى فوزي وثريا حلمي
يحملون الأعلام أيضًا، وفي «الكورس» هند رستم ونعيمة عاكف ومريم فخر الدين وشريفة
ماهر، ويبدأ المطربون في غناء نشيد التحرير «قولوا لمصر تغني معانا في عيد
تحريرها» أمام الزعيم ناصر وضيوف مصر في مشهد مؤثر يثير الشجون حيث تطوف نجمات الفن
حاملات الأعلام حول المطربون في كل فقرة من فقرات النشيد، ويهتز المسرح من تصفيق
الجمهور المدوي في نهاية هذا المشهد الفني الذي يفيض حبًا ووطنية وتؤرخ كلماته
لحدث جلل وتشيد بإنجاز ناصر وهو تحرير مصر من المستعمر البريطاني.
ويشهد الحضور الفقرة الثانية من الحفل
وهي ملحمة «أفراح الشعب» ويستعرض فيها الفنانون كفاح مصر ضد الاحتلال،
وشارك فيها بالغناء إبراهيم حمودة وسيد إسماعيل ومحمد رشدي وحورية حسن وآخرون، ويٌحيي الفنان «شكوكو» الزعيم ناصر بأغنية تقول كلماتها «مين يرفع راية البلد إلا
انت يا ابن البلد»، وشارك معهدي فتيات مدام «ايفانونا» ومدام «نيكولز» باستعراض باليه
عايدة ورقصة الريف المصري، وقدمت فرقة الريحاني ماري منيب وسراج منير وميمي
شكيب وعبد العزيز أحمد مسرحية من فصل واحد استغرقت خمس وثلاثين دقيقة وهي مسرحية «يوم البلاد» ومن الطريف أن أحضرت ماري منيب حفيدتها لتشارك في التمثيل
في الاحتفالية.
«أم كلثوم» غاضبة من فرقتها
ونأتي لمسك الختام، حيث شاركت أم
كلثوم في هذه الاحتفالية الوطنية الرائعة بـ«أنشودة الجـلاء» وتغنيها
لأول مرة أمام ناصر وضيوف مصر، وبدت أم كلثوم غاضبة بين الكواليس فقد تأخر أفراد
فرقتها في الوصول، وبعد أن وصلوا أجرت بروفة مع الموجي، وتعتلي أم كلثوم المسرح
ويشرق وجهها بالفرحة والبشر أمام الزعيم وتبدأ أم كلثوم في الغناء بأروع أنشودة «يا مصر إن الحق جاء فاستقبلي فجر الرجاء، اليوم قد تم الجـلاء، ونلتِ غايات
المنى»، ويصل التصفيق إلى عنان السماء، فكلمات الأنشودة تواكب الحدث بالإضافة إلى
روعة أداء أم كلثوم في الأغاني الوطنية، وتنتهي أم كلثوم من الغناء وتشير لمحمد
الموجي بالحضور حيث تقف لتقدمه إلى جمهور الحفل، وكان المفروض أن تغني أم كلثوم هذه الأنشودة
فقط لولا مطالبة الضيوف العرب والجمهور لها بأغنية ثانية، وتعالت المطالبة بأغنية «يا جمال يا مثال الوطنية» لكن أم كلثوم غنت «شمس الأصيل»، وما كادت
تنتهي إلا وزادت المطالبة بوصلة ثالثة، فاختتمت أم كلثوم الحفل بأغنية «مصر
التي في خاطري» وردد معها الحضور ورجال القوات المسلحة، ويسدل الستار عن
هذه الاحتفالية التاريخية الرائعة التي أسعدت ناصر وضيوف مصر وصورت دور الفن وجهود
نجومه في إحياء المناسبات الوطنية.
«ناصر» يسابق الزمن والفن يسانده
قلب من حديد كان بين ضلوع الرئيس جمال عبد الناصر، وكان الرجل يسابق الزمن في
الإنجازات التي ترفع مصر وتعيد إليها حقوقها، ففي يونيه عام 1956 كان جلاء
الإنجليز عن مصر، وبعدها بشهر أطلق عبد الناصر طلقة نارية أفقدت الغرب توازنه
وعقله، إذ يتحدى الرجل العالم ويؤمم قناة السويس ويجعلها شركة مصرية في 26 يوليو
1956، وكانت بريطانيا تملك 45 % من أسهم القناة وكانت السفن البريطانية تمثل ثلث
السفن العابرة التي تحمل ثلاثة أرباع النفط البريطاني مما جعل بريطانيا تعقد العزم
على إسقاط ناصر وحكومته، ويتم العدوان الثلاثي على مصر، وهنا جاء دور الفن، حيث سارعت
فايدة كامل بغناء «دع سمائي» وسارعت أم كلثوم بشد أزر الجنود بأغنية «والله زمان يا سلاحي»، وغني محمد عبد الوهاب «تحت
القنابل» ، ومع احتدام المعركة وبسالة شعب بورسعيد تحولت أروقة الإذاعة
المصرية إلى ساحة للنضال حيث شدت المجموعة بنشيد «الله أكبر فوق كيد
المعتدي»، وشارك محمد عبد المطلب بأغنية «ياسايق الغليون»، وتدحر
مصر العدوان ويواكب صوت أم كلثوم النصر وتنطلق مع تسلم المرشدين المصريين الملاحة
في القناة بأغنية «محلاك يا مصري وأنت على الدفة» وترد عليها فايدة كامل
بأغنية «رايتنا عالية».