رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الهزل والخلاعة يقضيان على كوميديا (الجلف) الرومانسية

12-3-2017 | 11:42


كتب : د. حسن عطية

منذ أن كتب الروائي والمسرحي الشهير "انطون تشيخوف" عام 1888 نص مسرحيته (الجلف) والبعض من قرائه ومخرجيه غير المتعمقين فى عالمه وما استحدثه فى المسرح ينخدع في مستواه الخارجي ، فيتعامل معه على أنه (مزحة) أو (دعابة) كما كتب "تشيخوف" نفسه على صدر نصه المنشور ، وهى إحدى ألاعيب الكتاب الذين يدفعون متلقي أعمالهم بعيدا عن الرسائل المضمرة في بنياتها ، أو صرف انتباههم عن الطبيعة الجادة لنصوصهم ، أو درءا لهجوم النقاد المتمرسين عليهم إذا ما اكتشفوا أن ثمة خللا فنيا أو عيوبا جمالية في النص المكتوب أو العرض المؤسس عليه ، فضلا عن أن رؤية الكاتب الكبير "أنطون تشيخوف" الفلسفية لمفهوم (الدعابة) أعمق كثيرا من متلقيه الواقفين عند حد الدعابة ، وأيضا عن طبيعة (الكوميديا) الأشمل من مجرد إثارة الضحك الأجوف ، والرقي من مجرد دغدغة الحواس ، وعدم الانتباه للمسحة الرومانسية التي تغلف النص الدرامي .

ينطلق نص (الجلف) أو (الدب) ككل النصوص الجادة من موقف درامي محدد : امرأة شابة جميلة وثرية تدعي "بوبوفا" تنتمي للطبقة الإقطاعية التي عرفتها روسيا في نهاية القرن التاسع عشر ، مات زوجها منذ سبعة شهور ، ترتدي السواد فهى مازالت بعد متقوقعة في حالة الحداد الذي تفرضه عليها التقاليد المرعية لهذه الطبقة ، واقفة بغرفة جلوس ضيعتها الريفية، محلقة في صورة زوجها المتوفي المعلقة على الحائط ، معلنة استمرار إخلاصها له ، وعدم خيانة العهد الذي قطعته على نفسها أن تظل حتى مماتها في ثوب الحداد ، رغم قسوة زوجها أحيانا عليها وعدم إخلاصه لها في حياته معها ، لكنها الأعراف الاجتماعية التي تفرضها طبقتها الارستقراطية مما يضفي على وفائها المعلن طابعا اجتماعيا عليها الالتزام به ، يحاول خادمها العجوز الطيب "لوقا" إخراجها من حالة الحزن التي تعيشها ، منبها إياها إلى الحياة المستمرة خارج ضيعتها ، والفرح الدائم القاتل للحزن العابر والذي على الإنسان العاقل أن يخلقه ، فتتمنع رافضة في شمم ، وتزيد تأكيدا على إخلاصها لزوجها بضرورة الاهتمام بمتعلقاته ، وبخاصة فرسه المفضل "توبي" ، وتطالب خادمها بأن يعطيه حصة مضافة من الشعير ، فكيف لها أن تحطم الصورة التقليدية للزوجة الوفية ، أو تخرق أعرافا هى جزء مهم من وضعها الاقتصادي والاجتماعي في البلدة .

حالة حزن شاعري

حالة هادئة مغلفة بالحزن تسيطر على الموقف الأول في المسرحية ، تعيشها الأرملة الشابة كل يوم ، وحوار متكرر مع خادمها لا يغير من هذه الحالة العاطفية المدعومة بأعراف مجتمعية ، حتى يدق على بابها إقطاعي آخر في منتصف العمر يدعي "سميرنوف" ، يكسر السكون القائم ويغير من الحالة المزاجية المهيمنة ، بحضور مشع بالحياة ، فقد جاء ليحصل على مال كان له عند الزوج المتوفي ، مقابل الشعير الذي كان يشتريه منه ، ويعطيه للخيول بالطبع ومنهم فرسه المفضل ، وهو لم يأت إليها إلا بعد أن عجز عن تحصيل أمواله ممن اشتروا منه نتاج مزارعه دون تسديد ، في الوقت الذي عليه تسديد فوائد ما اقترضه من البنك العقاري ، حتى لا يقوم هذا البنك بالحجز على ضيعته ، وهى الدائرة الاقتصادية المعروفة ، يقترض مالك الأرض من البنك ليزرع أرضه ، ويبيع محصولها بالأجل لمن يحتاجها ، فيماطلون أو يتهربون من التسديد ، أو يموتون قبل التسديد مثل زوج الأرملة الشابة ، التي تؤخر بدورها الدفع عدة أيام حتى يعود وكيل أعمالها من المدينة ، مما يوتر الموقف ، ويدفع "سميرنوف" للانفعال ، واتخاذ قرار ببقائه بالمنزل حتى يتم سداد المبلغ المستحق له ، وهو ما يزيد من إثارة الحالة المزاجية التي كانت تعيشها الأرملة قبل دخوله ، وتغير من الأجواء النفسية التي كانت تغلف الموقف الدرامي السابق ، وتدفع للماء الساكن ما يحركه ، ليس على المستوى المادي فقط ، بل وعلى مستوى المشاعر أيضا ، فالحوار الساخن بين الرجل والمرأة المنتمين لنفس الطبقة ، والمتقاربين في العمر ، يحل محل المناجاة الذاتية التي كانت غارقة فيها المرأة أمام صورة زوجها ، وإن تخللها حوار خاطف دون جدوى مع خادم عجوز ، وبقاء الرجل غير المتزوج - بالطبع نحن في مجتمع مسيحي - في منزل الأرملة ، وتشابكهما في الحوار ، ونقاشهما عن الأوفى في الحياة الزوجية الرجل أم المرأة ، يرفع من وتيرته ، ويكشف تدريجيا عن وهج الحياة الكامن بأعماق الأرملة ، وانبهار الرجل بقوة عاطفة هذه الأرملة الجميلة ، فيبدآن في التقارب العاطفي ثم الجسدي ، حينما يحاول تعليمها كيفية إطلاق الرصاص ، مما يدفع الرجل لطلب الزواج منها ، فتتمنع بعض الوقت ، حتى تقبله في نهاية الأمر ، طالبة من خادمها ألا يضع الشعير لفرس زوجها ، منهية بذلك علاقتها بالزوج المتوفي ، ومختتمة المسرحية بخاتمة سعيدة ، مؤكدة بها أن الكوميديا الحقيقية هى المثيرة للبسمة ، وأن مفهوم الدعابة هنا يتمحور حول غياب التفسير المنطقي لهذا (الانقلاب) العاطفي الذي حدث لبطلي المسرحية ، داخل عمل يجيش بالعواطف الرومانسية المسرفة (السنتمنتال) والمتجاوزة للمنطق العقلي الذي يتطلب في الأعمال التراجيدية فترة زمنية كافية لنضج المشاعر.

شخصيات هزلية

ومن الواضح أن مخرجنا النابه "محمد مكي" فرقة الإسكندرية التابعة للبيت الفني التي قدمت أخيراً مسرحية (الجلف) قد انخدع مع من انخدعوا في كون المسرحية نوعا من الفودفيل المثير للضحكات فقط من سلوك هذا الجلف مع المرأة الرقيقة ، فصاغ المخرج رؤيته الإخراجية بتنميط الشخصيات تعاملا مع سماتها الخارجية ، محولا الكوميديا الرومانسية إلى هزلية (فارس) تبدو فيها الشخصيات وكأنها رسوم كاريكاتورية دون غوص فى بنيتها النفسية المحركة لها ، مضيفا من عنده على النص التشيخوفي كلمات وعبارات ممجوجة ، فصار "سميرنوف" شخصية وقحة جسدها المخرج نفسه "محمد مكي" بعد أن حل محل ممثلها الأول "إسلام عبد الشفيع" ، جسدها بمبالغة شديدة ، فمن أجل انتزاع الضحك الغليظ من جمهوره راح يخرج بالصورة والصوت الريح العفنة من مؤخرته ، ويشرب الخمور بفظاظة ، ويثير الجلبة في المكان بصورة سوقية ، باصقا باستمرار على الأرض ، مما يذكرك بما كان يفعله "أحمد مظهر" في تجسيده لشخصية "محمود" مع زوجته "آمال" (شادية) في الفيلم القديم (لوعة الحب) ، وإن كان لممثله برؤية مخرجه "صلاح أبو سيف" مبررا ما في تجسيده للشخصية الجافة بهذه الصورة المنفرة بكونه يعمل في مهنة شاقة هي قيادة القطارات التي تعمل بالفحم زمنذاك ، وكي يوجد دافع لزوجته للميل نحو مساعده المهذب "حسن" (عمر الشريف) ، فإنه لا مبرر مطلقا للمخرج هنا في هذه الصياغة المستفزة لرجل ثري من ذوي الأملاك ، ولم يكشف لحظة في النص عن سوقيته ، بل هو مجرد رجل منفعل لتهرب مدينيه من دفع المستحق عليهم ، حتى لا تضيع أرضه منه ، وانفعاله العاطفي هذا هو الذي يثير مشاعر الأرملة ، ويدفعها لطلب المبارزة بالسلاح بينهما ، دون أن تعرف كيفية الضرب بالمسدس ، مما يزيد إعجابه ، ويقرر الاقتران بها .

توازن عالم متغير

كما ليس هناك أي مبرر لتحويل شخصية "لوقا" من خادم عجوز مخلص لمخدومته ، إلى فتى رقيع أقرب للشواذ ، بنمط شخصية مساعد العالمة في الأفلام المصرية القديمة ، والمستمدة من مهنة (الطواشي) التي عمل بها الخصيان فى حماية الحريم في العصر المملوكي ، وجسدها "أحمد السيد" بغلظة وصلت إلى حد تقديم مؤخرته مرات عدة لسيدته . والمشكلة الأكبر فى شخصية الأرملة الشابة "بوبوفا" التي جسدتها واحدة من أبرز ممثلات جيلها "إيمان إمام" حيث بدت من البداية في زي يتداخل فيه الأحمر والأسود ، تجلس تقرأ في كتاب ، ثم تتحرك لترقص رقصة فرحة ، مما يصرح منذ البداية برغبتها في كسر حالة الحداد المجبرة عليها ، وهو ما يقلل من دور الرجل "سميرنوف" في نزع قشرة الحداد الحزين الملتفة بها الأرملة في البداية ، ويقلل من دور الكوميديا في الانتقال بشخصياتها من حالة الحزن لحالة البهجة ، ناقلة هذا إلى جمهورها ، فيخرج سعيدا بانتصار شخصيات العرض على نفسها ، مبتهجا بأن الأمل في التحول لما هو أفضل ما زال قائما . كما لم يكن هناك أي احتياج لكي تعلن الأرملة الشابة الثرية أنها فقدت كل أملاكها لتختبر رغبة "سميرنوف" في الزواج بها ، فكلاهما ينتمى لطبقة اجتماعية واحدة ، وليس هناك أى حديث عن كون "سميرنوف" صعلوك طلب الزواج من مالكة للأراضى ، فكان عليها أن تصارحه أو تكذب عليه بأنها فقيرة وصعلوكة مثله ، ولكنه الإعداد المسيء للنصوص الجادة ، والذى صار اليوم بدعة بيد المخرجين ، الذين استصغروا مهنتهم الإخراجية ، فراحوا يسندونها بمهنة الكتابة ، وهو الأمر الذي لم نكن نعرفه مع مخرجين حقيقيين مثل "عبد الرحيم الزرقاني" و"كمال ياسين" و"سعد أردش" و"كرم مطاوع" وحسين جمعة" و"جلال الشرقاوى و"عصام السيد" و"ناصر عبد المنعم" وغيرهم ممن كانوا ومازالوا متمسكين بمهنتهم ودورهم فى المسرح كمخرجين لا يقلون قيمة عن الكتاب ، ويمنحون المسرح قراءة تفسيرية مختلفة للنصوص المقدمة ، ويصيغون مسرحا راقيا برؤى تدرك أهمية المخرج فى المسرح .

ولأن النص يتطلب تحولا في الحالات النفسية ، فكان لابد للديكور وأثاثه أن ينقلا هذا التحول من التقوقع الحزين إلى الرغبة في عشق الحياة والانفتاح على العالم ، غير أن الديكور الذى صممه د."محمد سعد" بصورة شديدة التماثل ، يبدو معها العالم منذ الوهلة الأولي وحتى النهاية واسعا ومستقرا ومتوازنا ولا يعاني من أية مشاكل ، فروح الزوج المتوفى وحالة الحداد الحزينة غير متجلية في المشهد الأول من المسرحية ، حتى صورته بدت باهتة في عمق يمين المسرح ، ولم تتغير وضعية أثاث الغرفة ، أو حتى تكشف تدريجيا عن ألوان زاهية خلف الألوان القاتمة بحلول "سميرنوف" داخلها ، وعجزت تصميمات "وليد جابر" للملابس عن أن تحقق للشخصيات حضورا دراميا بملابسها ، وبخاصة مع شخصية الزوجة التى ستتحول من حالة الحزن المقنعة لحالة الفرحة المعلنة ، وأبهرت إضاءة "إبراهيم الفرن" أعين الجمهور ، لكنها لم تستطع التعبير عن هذا التحول في المشاعر والحالات النفسية التي طرأت على الشخصيات .

نكرر دوما أننا اليوم فى أمس الحاجة للكوميديا الجادة والعروض المتفائلة بالحياة ، الساخرة بعمق من سلبيات المجتمع ، والدافعة جمهورها للتفكير في أهمية تغيير ذاته ومجتمعه للأفضل ، أما الفارس الغليظ والفودفيلات الدائرة حول النهود والمؤخرات والشواذ فهذا أمر لا علاقة له بالفن ولا حاجة للمجتمع به ، ومكانه الحانات لا دور المسرح المحترمة .