«كانت يد الله معنا فى العاشر من رمضان «، أتذكر تلك العبارة من الجزار البسيط عطية، تقابلت معه فى العراق، مطرودا، يبحث عن لقمة عيش، ومع ذلك وجهه يفيض بالفخار، خاض الحرب فى أكتوبر، وصمد في أعجب معركة فى الملاحات، لاقتحام خط بارليف، كانت هناك دشمة حصينة لليهود، ونزلت الكتيبة لمياه بحيرة التمساح؛ لتضربها من الماء عبر الطريق الوحيد المتاح، كانوا يرفعون أسلحتهم ومعداتهم الثقيلة فى الهواء، وكلما يقتربون تنطلق الحمم من مدفع الدشمة الحصينة فتتمزق وتتطاير أشلاء .
استشهد الضابط قائد الكتيبة، والصول على، وسيد وحسين ومجاهد، واغتالت رصاصة قناص الشهيد ميشيل، ٧٢ ساعة قضوها غارقين حتى نصفهم فى المياه، ولم يبق من أفراد الكتيبة سوى عشرة، عطية الجزار لم يكن من ضمن مهامه ضرب الدشمة الحصينة، مهمته ما بعد الاستيلاء عليها أن يتصدى لأي دبابات ومجنزرات، يحمل على كتفه أربع طلقات آر بى جى، الطلقة مداها المؤثر ٥٠٠ متر وتنطلق على هيئة قوس لتصيب الدبابة، ولما نصب عطية الآر بى جى ليضرب الدشمة البعيدة على بعد ٢٠٠٠ متر، نظر نحوه زملاء الكتيبة مع الفجر السرحان وعيونهم الكليلة داخت من التعب، ومن زخات الطلقات القاتلة، كان يطلب المستحيل، لأن المدفع المميت يطل من فتحة ضيقة يصعب التصويب عليها حتى ببندقية، كما أن الدشمة خارج مدى الآر بى جى، عطية بشفاهه الغليظة نصب السلاح، وهم جميعا على حافة الموت مع اقتراب الفجرالصادق، وقال : يارب، وأطلق قذيفة من الآر بى جى، فاخترقت الفتحة التى تخرج منها فوهة المدفع، وانفجرت كل ذخائر الدشمة، بعدها قطع الأومباشى فتحى وبقية المجموعة مسافة الـ ٢٠٠٠ متر فى عشر ثوان، وقتلوا كل من فى النقطة الحصينة، وذبح عطية وهو يصرخ جندى المدفع، وأكله بأسنانه، انتقاما لصديقه الودود الشهيد ميشيل ولمن ماتوا من رفاق الصمود طوال سنوات حرب الاستنزاف.
يومها رقصوا وغنوا، ورفعوا علم بلادهم، على أرضها المحتلة، وكأنها الدنيا عادت من جديد.
هذه الكتابة - قد تبدو بلا معنى - لكنها فى الحقيقة مهداة إلى كل هؤلاء الذين قاتلوا - بلا نياشين - بمناسبة ذكرى حرب أكتوبر، ومهداة إلى روح عبد العاطى صائد الدبابات وأولاده الفقراء، ليعرفوا أن أباهم كان أغنى من أغنياء هذا الوطن، وأن هؤلاء لا يستطيعون شراء الشرف الذى حققه ولو أنفقوا كل أموالهم !
دخل عبد العاطى الجيش فى مرحلة حرجة، من التعبئة العسكرية، لإزالة آثار الهزيمة، وكان يحرز الدرجات النهائية فى التصويب على الهدف، وكانت التدريبات بدون ذخيرة حية وعلى نماذج دبابات وهمية، وكان بعض الذين عاصروا عار يونيه من الجنود يتساءلون فى شك هل هذا السلاح الصغير والذي لا يزيد عن عشرين سنتيمترا سيؤثر فى الدبابة الأمريكية العملاقة ؟
الدبابة الأمريكية، قلعة عملاقة من الصلب، تطل منها المدافع الرشاشة المضادة للمشاة والجنود، ومدفع مضاد للطائرات وصواريخ مضادة للدبابات والدروع، والمدفع الرئيسى للبرج يطلق القذائف الثقيلة لدك الحصون وتدميرها!
هذا الديناصور العملاق، كان على عبد العاطى – الجندى المصرى – مواجهته بل وتدميره، ومن اللحظات الأولى فى حرب أكتوبر، كان من الواضح أن المطلوب أن يقف الرجل فى مواجهة الدبابة، وأن يسقط الصاروخ الطائرة، وبرغم أن المعادلة تقريبا مستحيلة، نجح الجنود وأصيب العالم بالذهول .
فى اليوم الأول والثانى من الحرب كان عبد العاطى مازال على الضفة الغربية للقناة ينتظر الإذن بالعبور، عبرت قوات الصاعقة ودكت الطائرات حصون إسرائيل داخل سيناء، وعبرت بعض الدبابات البرمائية، إلى أن جاء يوم ١٢ رمضان الموافق ٨ أكتوبر وكان يوم عبد العاطى . كانت إسرائيل قد دفعت بدباباتها وألويتها المدرعة إلى داخل سيناء، واحتلت المرتفعات، وكانت الدبابات المصرية لم تعبر القناة لمواجهتها، وصدر الأمر بإيقاف الدبابات الإسرائيلية، وفى جنح الليل تسللت كتيبة عبد العاطى ورفاقه إلى منخفض تحيط به المرتفعات، حفر الرجال فى الأرض واستعدوا، وكان معنى انبلاج الصباح أن تفتح الدبابات العملاقة نيرانها عليهم وهى واقفة تطل عليهم من الجبال، أصدر عبد العاطى شاويش المجموعة توجيهاته وضبط الصاروخ على أعلى ارتفاع ممكن، وأطلق الصاروخ الأول لكنه اندفع ليصطدم بالجبل ويسقط بلا صوت، وزاغت عيون الجنود، وعلى الفور نهرهم وأمر بالاستعداد لإطلاق الصاروخ الثانى بعد أن رفع قاعدة التوجيه لأقصى ارتفاع ممكن، وانطلق الصاروخ وظل عبد العاطى يوجهه إلى أن أصاب أول دبابة واخترقها، ومرت ثوان معدودة، قبل أن يشاهد عبد العاطى ورفاقه أجمل مشاهد العمر، الدبابة العملاقة، تقفز فى الهواء ككتلة من اللهب و ذخائرها تنفجر بداخلها واحدة بعد الأخرى. فى هذا اليوم دمر عبد العاطى بمفرده ١٣ دبابة، وصديقه بيومى ٧ دبابات وتراجعت الدبابات عن المرتفعات هاربة إلى داخل سيناء، وقطعت إذاعة فرنسا إرسالها لتقول إن المصريين يمتلكون على ما يبدو سلاحا غامضا لكنه قادر على تدمير أى مدرعات تمشى على الأرض داخل سيناء.
هل حقا مات عبد العاطى ؟
نعم مات يوم ١٠ ديسمبر ٢٠٠١، أعظم صائد للدبابات فى التاريخ، وحتى صحف إسرائيل اهتمت بوفاته، مات وعمره ٥١ عاما بداء الكبد.
مات عبد العاطى، ولا توجد فى قريته بمحافظة الشرقية ما يشير أن بهذه الناحية الفقيرة الشديدة الظلام، خرج أعظم صائد للدبابات فى التاريخ .
رحم الله عبد العاطى بطل حرب أكتوبر، ولعلنا بتلك الكلمات نمسح دموع أولاد عبدالعاطى، الذين يصعب أن أتحدث عنهم وعن ظروفهم، حتى لا أشعر بالخزى والعار.
كتب : عادل سعد