بقلم : عاطف بشاي
عشرات السنين عشتها بين مد وجذر .. في قصور فاخرة .. وغرف على الأسطح يشاركني فيها الدجاج .. رأسمال ضخم ورثته عن أبي وأضعته .. ثم استرددته ثم أضعته .. دوامة لا تهدأ .. فقر وغنى .. شظف وترف .. ظلام وأضواء .. قامرت وربحت وخسرت .. وانتصرت .. وهزمت .. ولكني لم أسلم سلاحي ولم أخضع للأقدار .. وظل المسرح محبوبتي التي ذبت فيها عشقاً منذ أن كنت في السابعة من عمري .. وقد تضاعف هذا العشق على مر الأيام وتحول إلى وله"
الفقرة السابقة كتبها الفنان الكبير الراحل "يوسف وهبي" في مذكراته بعنوان .. عشت ألف عام 1889 - 1982" عن دار المعارف (1973) واستعانت بها الأديبة والإعلامية "راوية راشد" وهي تؤلف كتاباً عنوانه "يوسف وهبي .. سنوات المجد والدموع" الذي صدر مؤخراً .. تصف فيه حياته .. وهي تؤكد معترفة أن أعماله الإبداعية (مخرجاً ومؤلفاً وممثلاً) أكبر وأكثر من أن يتضمنها كتاب واحد .. وهذا كتاب ما هو إلا قطرة في بحر عطائه الفني .. ونقطة ضوء صغيرة لملامح حياته التي عاشها على مدى خمسة وثمانين عاماً وكان كل ما يخشاه ألا يتذكره أحد ولا تعرفه الأجيال الجديدة..
والحقيقة أن أهم ما يميز الكتاب الذي التهمته التهاماً في شغف بالغ .. بالإضافة إلى أنه يمثل مرجعاً بالغ الأهمية والقيمة من حيث هو بانوراما عريضة لعصر كامل وتأريخ موثق توثيقاً جيداً لحركة المسرح المصري منذ نشأته مستعرضاً عدداً كبيراً من معاصري "يوسف وهبي" وعلاقته الحميمة بهم والتأثيرات المتبادلة بينهم وبينه ومنهم :روز اليوسف-نجيب الريحاني -عزيز عيد- أمينة رزق..
بالإضافة لذلك فإن طريقة السرد جاءت بليغة وعذبة وطريقة تفتقرها الكثير من الكتب التي تناولت السيرة الذاتية لكثير من رموزنا الفنية والفكرية .. وتمزج فيها المؤلفة ببراعة بين تفاصيل الأحداث المتتابعة في حياة فنان الشعب ودلالاتها ومغزاها ومدى تأثيرها في مشواره الذي حفره بكفاحه وإرادته الفولاذية .. وبين الخلفية التاريخية التي تعكس تغييرات سياسية واجتماعية عاصفة تجعل من الكتاب نموذجاً رائعاً يتجاوزه مجرد متابعة قصة حياة فنان إلى رؤية شاملة يستطيع المتلقي لها أن يجد عالماً زاخراً بالبهجة والحكمة والحب والجمال والثراء الفني يجعلنا دون ان ندري ننظر بمزيج من الحسرة والألم إلى واقعنا الآني المتردي والفاجع في قبحه وضحالته .. والكتاب زاخر بالمواقف الإنسانية في رحلة المجد والدموع تلك التي تنسجها المؤلفة برهافة وحساسية حيث تقول في أحداها :
"خارج المسرح .. كان "يوسف وهبي" يقف إلى جانبه مختار عثمان و حسين رياض وفاخر فاخر وفتوح نشاطي ونجمة إبراهيم وزينب صدقي وأمينة رزق .. يحمل كل واحد متعلقاته .. ذكرياته .. أحلامه التي تبخرت في الهواء .. بكى مختار عثمان .. فانفجر الجميع في البكاء .. امتلأت قلوبهم بالمرارة وهم يشاهدون عمال البنك ينزعون اسم مسرح رمسيس من على واجهة المسرح ويضعون الأختام على أبوابه .. ويتمتم "يوسف وهبي" .. اليوم فقط أشعر أني أدفن كل أحلامي لكن حقيقة الأمر كما تؤكد الكاتبة فالأحلام لا تنتهي ولا تلقى مصرعها .. ربما تتعثر .. تقمع .. تتهاوى .. ثم تنهض من جديد .. تنمو .. تزدهر .. خاصةً إذا تمتع صاحبها بقوة الإرادة وحظى بصداقات مخلصة نبيلة .. فإلى جانب عزيمة "يوسف وهبي" .. قامت أمينة رزق ببيع مصوغاتها لسداد بعض ديونه وساهم كل من مختار عثمان ومحمد كريم بمبالغ مماثلة ..
ومن الحكايات الطريفة التي يزخر بها الكتاب في مرحلة طفولة "يوسف وهبي" هي حكاية إبنة الجيران التي كانت تكبره بعامين والتي حاول إقناعها لتشاركه في أداء دور "جوليت" تقول "راوية راشد:
كانت تهاني ابنة إسماعيل باشا فهمي جار والده وكان عمرها اثنى عشر عاماً وكان ممنوعاً على الفتيات في سنها الخروج بعد عودتها من المدرسة فكانت تتحادث مع يوسف عبر النافذة التي تطل من غرفتها على غرفته حتى أصبحا أصدقاء وعندما وافقت على تمثيل دور "جوليت" كانت العقبة الوحيدة هي كيف تأتي إلى حديقته .. ففكر يوسف بالاستعانة بأحد الصناديق الضخمة الموجودة خلف حديقة منزله وظل يزيحه بكل قوته حتى وضعه أسفل شباك تهاني فاستطاعت أن تهبط عليه إلى الحديقة .. وبدأ الفتى والفتاة في أداء مشاهد من رواية روميو وجوليت .. وعندما بدأ في تمثيل مشهد اجتراع السم أخذها يوسف في أحضانه والدموع في عينيه يصيح : جوليت حبيبتي حبيبتي وفي تلك اللحظة اشتعلت مشاعر تهاني وانقضت على يوسف تقبله في فمه في نفس اللحظة التي أتى فيها والده بصحبة ناظر العزبة الأمر الذي وضع الأب في موقف لا يحسد عليه أمام عائلة الفتاة التي استنكرت ما يفعله يوسف ببناتهم وتمت معاقبة يوسف بالحبس في غرفته ثلاثة أيام أما تهاني فقط أغلق شباك حجرتها بمسامير وأخشاب من الداخل وحرم يوسف من أول صديقة بادلته حب فن التشخيص .
مازال الشيخ وهو في الثمانين يتذكر تهاني الفتاة الجميلة جارته وترق دموعه وهو يصف ملامحها ورقة صوتها وأول قبلة طبعتها على فمه لكنه تناسى بالطبع الصفعة التي تلقاها من والده كي يكف عن المسخرة وتقليد المشخصاتية .