رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


إلا الخبز يا مولاى! الرضا الشعبى قبل أن يتبخَّر

15-3-2017 | 13:56


كانت لدى عبد الرحمن الأبنودى مقولة يرددها كثيراً أمامنا فى جلسات نجيب محفوظ فى مركب “فرح بوت” الراسية على نيل الجيزة. وأعتقد أن هذه المقولة ترددت كثيراً فى قصائده الشعرية. لكنى سمعتها منه فى اللحظات الفارقة التى كانت يتبدى فيها الغضب الشعبى أو مقدمات الغضب الشعبى. يقولها كنوع من التحذير لنفسه ولنا وللآخرين. وبالذات لمن يحكمون البلاد.

كان الأبنودى يقول:

- إذا مش نازلين للناس، فبلاش.

وكان يكررها أكثر من مرة فى الجلسة الواحدة. ولم نكن نذهب إلى ما وراء الكلام، ولا إلى المعانى الثلاثة الكامنة وراء الجملة القصيرة الحادة والمدببة. والتى تصلح أن تكون قانوناً من قوانين العلاقة بالناس. الأولى: النزول للناس. الثانية: عدم النزول للناس. والثالثة، وربما كانت الأخطر، تلخصها كلمة: بلاش. وهى كلمة عامية تقول ما معناه أنه إذا لم ننزل للناس، فلا داعى لأى شئ آخر يمكن أن يكون. أو يحدث أو يتم، بل بالعكس إن جملة الأبنودى البليغة والمعبرة يمكن أن نُعَدِّلْ الكلمة الأخيرة فيها ونقولها على النحو الآتى:

- إذا مش نازلين للناس. لا أمل. لا جدوى. لا مبرر لأى شئ يمكن أن نقوم به. فالناس هم أصل الحكاية، ومربط الفرس، وجوهر ما يجب أن تقوم به المجتمعات والحكومات والدول. منذ فجر التاريخ وحتى آخر الدنيا.

هل أعترف أننى مساء الثلاثاء قبل الماضى تذكرت العبارة جيداً عندما فوجئت بأول مظاهرات شعبية غاضبة ورافضة تحدث منذ أن خلَّص الرئيس عبد الفتاح السيسى بلادنا من الإخوان، ومشروعهم المخيف الذى قال خيرت الشاطر إن سنواته لن تقل عن خمسمائة سنة. أى خمسة قرون من عمر مصر. وهى تشكل أكثر من عصر من تاريخ مصر.

أيضاً ما زلت أذكر شطراً من الشعر للشاعر سيد حجاب. كان فى تترات أحد المسلسلات المهمة التى نستمع إليها. الشطر يقول:

- منين بييجى الرضا؟!.

كانت المظاهرات جرس إنذار، كان لا بد أن نتوقف أمامه طويلاً. وكنت أتمنى من القيادة السياسية أن تخرج علينا لتلغى ما أقدم عليه وزير التموين على المصيلحى من إجراءات بشكل صريح وواضح. بل وتعتذر للناس عما أقدم عليه وزير التموين بقرار لم يدرس جيداً، ولم يستوعب لا وزير التموين ولا مجلس الوزراء دلالاته الخطيرة ومعانيه المخيفة، وأقدم عليه كأنه قرار من قرارات كل يوم.

حكمة التاريخ ومكره تقول لنا إن أضخم النار تأتى من مستصغر الشرر. وحكايات التاريخ تحكى لنا أن مصر احتُلت أكثر من ٨٠ سنة، وكانت الشرارة الأولى التى أدت لاحتلال بلادنا هذه الفترة التى توشك أن تشكل قرناً من تاريخنا. ولولا ثورة يوليو العظيمة لكنا ما زلنا محتلين من الإنجليز حتى هذه اللحظة.

كان الحادث الشرارة خلافا وقع بين حمَّار وراكب مالطى، قام بتوصيله من مكان لمكان فى الإسكندرية. واختلفا على أجر النقل. وأدى الخلاف لمعركة أدت لقضية كبرى فى الإسكندرية بين مالطى يتمتع بالرعاية الإنجليزية ومواطن مصرى لم يتفقا على الأجرة قبل بداية المشوار، واختلفا معاً، والاختلاف أعطى الإنجليز ذريعة لحماية مواطن يتمتع بجنسيتهم. وهكذا كان ما كان وجرى ما جرى.

أنا أعرف أن الرئيس عبد الفتاح السيسى مساء الثلاثاء قبل الماضى قام بدور مهم لتلافى أخطاء قرار الخبز. ولم يشأ أن يعلن عن قراره، ربما لأسباب إنسانية يتمتع بها. ولبعد عاطفى يتصرف من خلاله. وربما قرر أن يترك لحكومته ولوزيره أن يبدوا أمام الرأى العام كما لو كانا قد عالجا أزمة كان السبب فيها قرارا عاجلا متسرعا لوزير التموين، لم يجد المتابعة المطلوبة من قبل مجلس الوزراء. فقرر أن يتدخل.

وفى يوم ما سنعرف ماذا فعل الرئيس السيسى مساء هذا اليوم؟ وكيف تصرف ليطفئ حريقا ضخما كان يمكن أن يمتد وأن يتواصل فى كل مدن مصر، وأن يتحول لما لا يُحمد عقباه؟.

لا يتصور أحد أن الإخوان لهم علاقة بالمظاهرات. المظاهرات كانت مظاهرات الخبز. ولا بد أن نضع فاصلة بعد هذه الجملة. صحيح أن الإخوان حاولوا استغلال الحدث وركوبه وتصويره تليفزيونيا بدقة غير عادية حتى الآن لا أعرف كيف تمت بكل الأمان الذى تمت فيه. وقد عرضتها قنوات الإخوان بتوسع شديد كما لو كانت منجزاً يحسب لهم. مع أنهم يعجزون عن إخراج مواطن مصرى واحد متعاطفاً مع تخريبهم لكل ما يتم على أرض مصر.

حتى الآن لا أعرف ملابسات القرار الذى اتخذه الدكتور على مصيلحى باعتباره وزيراً جديداً للتموين. ولا كيف استراح ضميره واستقر وجدانه على مثل هذا القرار؟ فالرجل لا يعيش فى برج عاجى. وأنا لا أعرف ظروفه الإنسانية جيداً. لكن لا أتصور أنه من هذا النوع الذى يمكن أن يقال عنه ولد وفى فمه ملعقة من الذهب. وبالتالى فلا بد وأنه يدرك خطورة الاقتراب من رغيف الخبز.

أتمنى من كل قلبى أن ندرس بدقة وعناية وموضوعية بعيداً عن التهويل والتهوين مظاهرات مساء الثلاثاء قبل الماضى. وما الذى حركها بهذا الشكل حتى نستفيد ونفيد ونحاول أن نتأكد أنها مظاهرات غير قابلة للتكرار. أو أن مهمتنا الأساسية ألا تكون قابلة للتكرار مرة أخرى. فمصائر الشعوب لا يجب أن تترك أبداً للتجارب، ولحسابات الربح والخسارة. خصوصاً عندما يكون المصير، مصير أمة إقليمية عظمى مثل مصر.

هذا الجهد لا يجب أن تقوم به الحكومة وحدها. ولكن أجهزة الدولة المهمة ومراكز البحث العلمى، ومراكز الدراسات الاجتماعية، والمجالس النيابية. كل هذه الجهات لا بد أن تتوقف أمام هذه المظاهرات لتسأل نفسها سؤالاً مصيرياً:

- ما الذى أوصلنا لمربع التظاهر بالطريقة التى تمت بها؟.

ولا يجب أن ننسى أبداً أن الرئيس عبد الفتاح السيسى ببطولاته النادرة ضد عصابة الإخوان توفرت له شعبية لم يسبقه إليها فى القرن العشرين سوى سعد زغلول وجمال عبد الناصر. وأن الاقتراب من هذه الشعبية خط أحمر. وفى محاولات الاقتراب من الشعبية يجب أن نحفظ الدرس جيداً ونقول أن الخبز خط أكثر من أحمر. لو أن هناك أية ألوان أخرى يوصف بها لقلت: الخبز خط أحمر بكل الألوان الطبيعية الممكنة. بل والمستحيلة.

فى التاريخ السياسى العربى والإسلامى ثمة واقعة شهيرة. عندما قرر أحد السلاطين أن يكتب الشعر. ولم يكن موهوباً كشاعر. وقد أتى بشاعر لكى يعلمه قول الشعر. فوقف الشاعر أمامه وقال له العبارة التى أصبحت مثلاً:

- إلا الشعر يا مولاى.

وبنفس الطريقة أستعير ما دفعنى إليه قراءتى الواقعية لما جرى مساء الثلاثاء قبل الماضى، وأقول وضميرى مستريح وقلبى مطمئن وعينى على مصير مصر:

- إلا الخبز يا مولاى.