الرضا الشعبى.. وكيف يمكن تحقيقه فى عصر المعلومات
بقلم -السفير د. عزمى خليفة
عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية
لكاتبنا الكبير توفيق الحكيم مسرحية رائعة بعنوان «بركس أو مشكلة الحكم» وهى مسرحية كتبها على ماذكر فى مطلع الأربعينات وكانت مكونة من ثلاثة فصول وكان مصدر إلهامه لها الأدب الإغريقى وخاصة مسرحية الكاتب أخيليوس «نساء فى المجلس» وهى مسرحية ساخرة وكان مصدر السخرية عمل المرأة فى السياسة ودخولها مجلس الحكم ممثلا فى مجلس الشيوخ فى أثينا
وانتهت المسرحية بشكل كوميدى من تناقضات عمل المرأة فى السياسة التى رآها توفيق الحكيم وأخيليوس على السواء مجالا لا يناسب المرأة، إلا أن عبقرية الراحل توفيق الحكيم تفوقت على سخرية أخيليوس لأنه فى مطلع الستينات على ما أذكر أضاف إليها ثلاثة فصول أخرى ليغير من الجو النفسى للمسرحية من الجو الكوميدى إلى التراجيدى وليغير الموضوع بالكامل لتنتهى المسرحية بمأساة قومية نتيجة وفاة الحاكم وإخفاء زوجته الخبر عن الشعب أملا منها فى استمرار هيمنتها على الحكم وطمعا فى تحقيق إنجازات تسمح لها بتولى الحكم رسميا فيما بعد، إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهى السفن لأن إنجازاتها تزاوجت مع ضعف إمكانياته فى الحكم وأدت إلى «نكسة» قومية.
كان سر إعجابى بهذه المسرحية فى مطلع شبابى قدرة الكاتب توفيق الحكيم على معالجة قضايا حقوق المرأة وعملها بالمجال العام وتحديدا مجال الحكم معالجة موضوعية ساخرة ورغم ما كان يبدو من أنه ضد المرأة وعملها، وهو من أطلق عليه فيما بعد لقب عدو المرأة إلا أنه فى حقيقة الأمر كان مؤيدا لعمل المرأة فى مجالات دون أخرى استفادة من إمكانياتها وتكوينها العقلى الذى وهبه الله لها، وهى قضية خلافية ارتبطت بتاريخ نضال المرأة المصرية وبالحركة النسائية فى مصر عامة، ولكن الأهم والأكثر خطورة أن توفيق الحكيم عالج فى المسرحية فكرة الرضاء الشعبى عن الحكم، فرغم إعجاب الشعب بالحاكم فى حياته وعدالته، ومباركته لكل خطواته وجميع قراراته إلا أن المسرحية أوضحت عدم رضاء الشعب عن زوجته، وهو ما أدركته هى منذ البداية فحاولت بناء شعبية خاصة بها بعيدا عن شعبية زوجها من خلال تحقيق بعض الإنجازات التى تشفع لها، ومن خلال إخفاء نبأ وفاة الحاكم عن الشعب.
ورغم عبقرية توفيق الحكيم إلا أنه عالج مشكلة الرضاء الشعبى عن الحاكم فى إطار واقع اجتماعى مختلف تماماً عن هذا الواقع اليوم، ففى عصر الحكيم كان مصدر الرضاء الشعبى كيفية استخدام الحاكم للعنف والثروة ، أى أنه كان يحكم مستندا إلى أسلوب استخدامه للقوة المتاحة له وقدرته على قمع أى مطالب قد لا تروق له، أو إلى أسلوب استخدامه للثروة المتاحة تحت يديه ممثلة فى اقتصاد البلد وتوزيع الميزانية العامة، أى أنه يحكم بالمزاوجة بين سيف المعز معبرا عن القوة والعنف وبين ذهبه أى من خلال العقاب والثواب، العقاب لكل من يسعى إلى الحد من نفوذه، والثواب لكل من يؤيده وينفذ تعليماته.
وكان هذان المبدآن أساس الحكم فى ذلك العصر بالفعل فوسائل الاتصال كانت محدودة الفعالية، لضعف إمكانياتها، وحداثة نشأتها، وعدم تنوعها وتقريبا كانت مقتصرة على الراديو - وكان مدى الإذاعة محدودا - والصحف المطبوعة التى تطبع عددا محدودا من النسخ يتراوح بين عدة مئات وبضعة آلاف فى أحسن الأحوال وربما إلقاء نظرة على المبانى التاريخية للإذاعة فى شارع الشريفين مقارنة بماسبيرو ، ومبانى الأهرام والأخبار والجمهورية بمبانيها الشاهقة اليوم وتجهيزاتها تكفى لمعرفة الفارق، فاليوم هناك الإرسال التليفزيونى عابر الحدود، والذى أتاح لنا مشاهدة الأخبار فى لحظة وقوع الحدث، بل والمشاركة فى تأييده أو رفضه وفقا للظروف، بمعنى مشاركة شعوب العالم فى توجيه الأحداث العالمية وتطويرها ومن ثم التأثير على صانع القرار فى أى قرار يتخذه، والإنترنت التى أتاحت لنا الاطلاع على الصحف العالمية فى نفس لحظة ظهورها فى بلادها وما تتيحه من مشاركة شعوب العالم فى الإسهام برأيها فيما يجرى من أحداث، ولعل ما حدث فى جميع أنحاء العالم وفى داخل الولايات المتحدة من مظاهرات مناهضة لسياسات الرئيس ترامب عشية توليه السلطة خير مثال على تغيير العالم، بل إن ما حدث فى العالم أجمع من مظاهرات عام ٢٠٠٨ شملت أوربا بشطريها الشرقى والغربى، وآسيا بكاملها وإفريقيا وأستراليا وأمريكا اللاتينية كرد فعل على الأزمة المالية العالمية والدعوة إلى احتلال وول استريت كان مثالا آخر
أيضا عام ٢٠٠٣كانت الحرب الأمريكية على العراق لاحتلاله أول حرب تنقل على الهواء مباشرة فى قمة النشوة الأمريكية لاستعراض القوة، مما أدى إلى تنظيم مظاهرات فى مختلف أنحاء العالم ضد السياسة الأمريكية، فقد أكد العالم أنه برغم كل الأخطاء العراقية، إلا أن هذا التدخل الأمريكى مرفوض، وانطلقت المقالات فى مختلف صحف العالم تنتقد الآثار المترتبة على هذه الحرب سواء على المنطقة العربية أم على العالم، وظهر نمط من التضامن العالمى مع العراق، خاصة وأن الاحتلال ارتبط بانتهاكات واضحة لحقوق الإنسان وسوء معاملة المساجين السياسيين فى سجن أبو غريب،وهو ما ساهم فيما بعد فى اعتذار الرئيس الأمريكى بوش الابن عن شن هذه الحرب وتبعه تأكيد تونى بلير رئيس الوزراء البريطانى أن الحرب لم تكن ضرورة.
كل هذه الأحداث تعكس الفارق بين عصر توفيق الحكيم وبراكسا فى مطلع الستينيات وعصرنا الحالى، فمن المؤكد أن سيف المعز وذهبه لم يعودا كافيين لبناء الرضاء الشعبى الحاكم، خاصة وأن هذا الرضاء الشعبى لم يعد مرتبطا بالسياسات الداخلية فقط للدول، فالمظاهرات التى خرجت اعتراضا على سياسات ترامب الداخلية والتى أعرب عنها خلال حملته الانتخابية لم تخرج فى أمريكا فقط ولكنها اجتاحت جميع دول العالم، سواء الدول التى ترتبط بسياسات ودية مع أمريكا أو الدول الرافضة لهذه السياسات إجمالا، فماذا جد على العالم ؟
الجديد أن مقومات السلطة فى العالم اختلفت إذ أصبحت المعلومة مكونا جديدا لها، فقد نجحت المعلومة فى تحقيق قدر كبير من تآكل السيادة التى كانت مكونا مهما من مكونات الدولة، ويندر أن نجد كتابا صادرا فى التسعينات فى منطقتنا العربية دون أن يشمل جزءا عن تآكل السيادة أما اليوم فقد تناسى السياسيون العرب الحديث عن هذه الآثار المترتبة على تآكل السيادة، ولم يهتموا أيضا بما طرأ من متغيرات على المجتمع وأهمها أن المجتمع لأى دولة فى العالم سواء كبيرة أم صغيرة قد اكتسب أبعادا عالمية وليست محلية نتيجة دخول المعلومة فى مقومات السلطة، بل إن القوة التى احتكرت الدولة استخدامها ضد مواطنيها فيما مضى لم تعد كذلك، فقوة الدولة تفتت وانتشرت على نطاق واسع بين مختلف مؤسسات الدولة وبين المجتمع نفسه وهى القوة التى استثمرها المجتمع فى إعادة تنظيم نفسه بما يناسب عصر المعلومات .
والواقع أن المعلومة لم تعد مجرد مكون من مكونات السلطة إلى جانب القوة والمال، ولكنها أصبحت أهم مكون على الإطلاق، خاصة وأنها أثرت على عملية التفاعل التى ربطت عبر التاريخ العلاقة بين القوة والمال باعتبار أن القوة طوال عمرها مصدر ووسيلة من وسائل تكوين المال، فالاستعمار لم يكن سوى تعبير من الدول الأقوى لاستخدام قوتها لتكوين ثروات فيما وراء البحار وهو ما نجحت فيه بالفعل . بل إن المعلومة أيضا صارت أهم مصادر تكوين الثروة والمال على الإطلاق أيضا، فالاقتصاد الذى كان تعبيرا عن التقدم المادى للدول تحول إلى نمط جديد من الاقتصاد المرتبط بالمعرفة، وصار اقتصادا قائما على الاستفادة من المعلومة فى العملية الإنتاجية وأصبح عقل الإنسان وما يطرحه من معلومات هو رأس مال القرن الحادى والعشرين ولذا تحول الاقتصاد إلى ما يمكن أن نطلق عليه الاقتصاد الذكى أو الاقتصاد الناعم آخذا فى الاعتبار تغير القوة إلى القوة الناعمة والقوة الذكية .
هذا التحول فى المفهوم المعاصر للسلطة وما ارتبط به من تغييرات مماثلة فى مفهوم القوة ومكونات السلطة انعكس ببساطة على أسس بناء الرضاء الشعبى الذى يربط أى حاكم بشعبه، ويزيد من أهمية ذلك أن هذا الرضاء الشعبى مكون هام من مكونات الرأى العام الإقليمى والعالمى تجاه هذا الحاكم، وهى مسألة قد لا يدركها الكثيرون، ولكنها هامة ويكفى أن نقول إن نجاح المحكمة الدستورية العليا فى كوريا الجنوبية فى عزل رئيسة الجمهورية يعود فى بعض أسبابه إلى هذا الترابط بين الرضاء الداخلى والرأى العام الخارجى، كما أن الإدانة العالمية للرئيس الكورى الشمالى لتجاربه الصاروخية الباليستية وتجاربه النووية تعود فى أحد أسبابها إلى نمط الحكم فى بلاده الذى يستبعد الشعب من المعادلة السياسية .
بناء على ذلك فقد سقطت فكرة العصا والجزرة من معادلة الحكم إلى الأبد، وأصبح الرضاء الشعبى يقوم أساسا على المعلومات والأفكار، فالمعلومة فى حد ذاتها قوة، خاصة إذا أجيد استخدامها، والأمثلة واضحة من مصر، فقد أدرك الشعب المصرى أن جميع مؤسسات الدولة تعانى من نقص من الكفاءات السياسية والإدارية، فتصاعدت المطالب بتعيين قيادات من الجيش فى المناصب العليا بالدولة وخاصة المناصب الوزارية،ومع فشل التجربة فى وزارة التموين انتهى الأمر بتعيين المحترفين السياسيين، ولكن الاختيار توجه نتيجة الازمة إلى وزير سابق فى عهد مبارك، فحدثت أزمة الخبز وطالب الشعب بتدخل الرئيس، وهو ما أرجحه لأن القرار الذى اتخذ لم يكن متوافقا مع ما أعلنه وزير التموين فى مؤتمره الصحفى المذاع على الهواء مشيرا إلى أنه مفيش حد يلوى ذراع الحكومة متناسيا أن الشعب قد أصبح جزءا من المعادلة للحكم وأن الرضاء الشعبى أساس تواجده فى منصبه .
كان تدخل رئيس البرلمان فى صراع مع الإعلام ممثلا فى جريدة الأهرام، وتأكيده أنهم يصرفون على الصحافة القومية التى تشتمهم فى الآخر على حد تعبيره تعبيرا غير موفق وخارج إطار عصر المعلومات، مما أدى إلى تراجعه عن هذه التصريحات لنفس السبب، فإن كان الشعب المصرى قد اكتسب ثقافة وقيما وأفكارا جديدة تربطه بالعالم، وتتيح له التعبير عن نفسه وتأكيد ذاته بعد ثورة يناير وأكدها بقوة فى ثورة ٣٠ يونيه فمن المؤكد أن اكتساب رضاه لن يتم إلا من خلال الانحياز لهذه الأفكار والقيم، ولن يتأتى من خلال الاستهانة بوزراء مبارك وخاصة أولئك الذين قادوا البلاد إلى التهلكة وهو ما يجعل الشعب لدى كل أزمة يطالب الرئيس بالتدخل .
فالرضاء الشعبى اليوم لم يعد من الممكن بناؤه بالثواب والعقاب فقط، بل إن الأهمية النسبية لهما قد تقلصت عن ذى قبل، ولكن الأهم التعرف على ما يريد الشعب وعدم المساس بالحد الأدنى من مستويات المعيشة فى ظل موجة الغلاء التى تتغاضى الحكومة عن علاجها بدعوى أهمية إطلاق الحرية الاقتصادية وأهمية إطلاق قوى السوق ممثلة فى العرض والطلب لتحديد ثمن السلعة بما فى ذلك قيمة العملة الأجنبية، متناسين أن العملة الأجنبية ليست سلعة للاكتناز، ومتناسين أن الإشراف على البنوك ودورها فى جعل حرية بيع وشراء العملات الأجنبية سياسة حقيقية واقعية شرطا من شروط الحرية الاقتصادية لأن رفض بعض البنوك بيع العملة الأجنبية يعنى التعاون الصريح لإنشاء سوق سوداء موازية .
لو أن عبد الناصر بكل ما حققه من شعبية طاغية أمد الله فى عمره لليوم وحاول تطبيق نفس سياساته التى طبقها واكسبته هذه الشعبية مثل الإصلاح الزراعى، ومجانية التعليم والتأميم ( أى سياسات إعادة توزيع الثروة مع الاستناد إلى القوة ) لما نجح ولما حقق هذه الشعبية لأنها أفكار رغم أهميتها وأولوياتها الحيوية بالنسبة لمصر فى هذه المرحلة إلا أنها مازالت تفتقد الترابط بأفكار الشعب وقيمه التى عبرت عنها ثورة ٢٥ يناير وهى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وهى أفكار تمثل معبرا إلى قلوب الشعب المصرى فى الوقت الراهن .
والخلاصة أن الرضاء الشعبى لن يتم بسيف المعز وذهبه فقط بالرغم من أهميتهما لأننا اليوم نحتاج إلى تنمية قيم الشعب أيضا وهذا الشعب يعيش منه أكثر من عشرة ملايين مواطن خارج مصر، ومن المقيمين بالداخل على الأقل ملايين يتابعون الصحف العالمية ومواقع الأخبار العالمية ويدركون كيف أصبح العالم.