رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


بعد عزل الرئيسة من يسكن القصر الأزرق فى «سول» ؟

16-3-2017 | 11:05


فى حكم تاريخى غير مسبوق، صدقت المحكمة الدستورية العليا فى كوريا الجنوبية على قرار البرلمان بعزل رئيسة البلاد بارك جيون هى، فضيحة الفساد التى أطاحت بالرئيسة المعزولة بارك ذات التوجه المحافظ، أعادت خلط الأوراق السياسية من جديد لتدفع بالمعارضة الليبرالية ممثلة فى شخص المحامى مون جاى آن، لصدارة المشهد استعدادًا لخوض انتخابات رئاسية جديدة فى مايو المقبل.

 

أسدلت المحكمة الدستورية العليا فى كوريا الجنوبية الستار على فضيحة الفساد السياسى الكبرى التى عصفت بالبلاد منذ نحو نصف عام لينتهى معها المستقبل السياسى لأول رئيسة منتخبة ديمقراطياً فى كوريا الجنوبية قبل نهاية فترتها الرئاسية لعام كامل، سقوط بارك التراجيدى يرفع عنها الحصانة الرئاسية لتواجه ثلاثة عشر اتهامًا أبرزها الفساد وإساءة استغلال السلطة وانتهاك أسرار الدولة وابتزاز المؤسسات الاقتصادية الكبرى الأمر الذى يجعلها عرضة للمثول للمرة الأولى أمام جهات التحقيق وربما يزج بها فى السجن مع صديقتها تشوى سون سيل بطلة فضيحة الفساد المعتقلة منذ أكتوبر الماضى، وبموجب الدستور فى كوريا الجنوبية، فإن عزل بارك، يستوجب عقد انتخابات رئاسية خلال ٦٠ يومًا لتنصيب رئيس جديد للبلاد التى واجهت حالة من البلبلة السياسية والشلل الاقتصادى فى وقت شديد الحساسية تزايدت فيه التوترات الإقيليمية والأنشطة الصاروخية لكوريا الشمالية.

رحيل بارك غير مأسوف عليها يمنح المعارضة الليبرالية التى خرجت من السلطة قبل عقد من الزمان الفرصة على طبق من ذهب لاستعادة منصب الرئاسة مرة أخرى من تيار المحافظين، وتنعقد آمال التيار الليبرالى فى كوريا الجنوبية على مون جاى آن، ٦٤) عامًا) الذى خسر الانتخابات السابقة أمام بارك فى عام ٢٠١٢ بفارق ضئيل، ويعول الكوريون الجنوبيون على مون أن لانتشال البلاد من حالة الفوضى السياسية والانقسام الداخلى وكذلك تصحيح مسار الاقتصاد بإجراء إصلاحات لكسر هيمنة التكتلات الاقتصادية الكبرى وممارستها الضغوط على صانع القرار السياسى فى البلاد، وبجانب الأوضاع الداخلية، فإن علاقات كوريا الجنوبية المتشابكة بالولايات المتحدة والصين وكوريا الشمالية ستشغل حييزًا مهمًا فى الحملة الانتخابية خلال الفترة المقبلة.

ولعل أبرز القضايا التى يضعها مون جاى آن نصب أعينه اتباع سياسة جديدة للتعامل مع الشطر الشمالى الذى أصبح أكثر شراسة وخطورة مما كان عليه الأمر عندما ترك الليبراليون السلطة، فخلال العقد الماضى ورغم تزايد حزم العقوبات الأممية ضد بيونج يانج، لم تتوقف كوريا الشمالية عن تطوير ترسانتها النووية منذ قيامها بأول اختبار نووى فى عام ٢٠٠٦ إضافة لتطوير منظومة الصواريخ البالستية التى أطلقت منها مؤخرًا أربعة صواريخ اجتازت مسافة ألف كيلومتر لتسقط فى المنطقة الاقتصادية لليابان، الزعيم الشاب كيم يونج أون لديه حالة من الهوس لتطوير منظومة الأسلحة النووية وكثيرًا ما هدد كوريا الجنوبية وحلفاءها بتوجيه ضربات استباقية، مون جاى آن يرفض النظام الديكتاتورى فى كوريا الشمالية لكنه يرى أن العقوبات التى فرضتها الولايات المتحدة بالتعاون مع الحكومات المحافظة السابقة قد فشلت فى عرقلة البرنامج النووى ومن ثم حان الوقت لاتباع سياسة مغايرة أقل تصادمًا، هذا التوجه يعيد للأذهان سياسة الشمس المشرقة التى تبناها الليبراليون خلال الفترة من ١٩٩٨ وحتى ٢٠٠٨ والتى استهدفت تقديم الدعم لكوريا الشمالية أملًا فى بناء الثقة المتبادلة وتوجيهها نحو نزع السلاح النووى خلال تلك الفترة امتنعت سول أيضًا عن انتقاد ملف حقوق الإنسان فى بيونج يانج، إلا أن سياسة الشمس المشرقة انتهت بتولى الرئيس المحافظ لى ميونج باك السلطة فى عام ٢٠٠٨ لتنهار العلاقات بين الطرفين فى شبه الجزيرة الكورية منذ ذلك التاريخ. يرفض مون آن سياسات المحافظين تجاه بيونج يانج قائلًا.. ماذا فعلت حكومات المحافظين غير التطاول بالقول على الشطر الشمالى فإذا كان ضرورياً أن تشدد العقوبات فإن الهدف سيكون لإعادة كوريا الشمالية إلى مائدة التفاوض.. وفى محاولة لإعادة التواصل مع الشطر الشمالى، أكد مون أنه سيسعى لإعادة فتح مجمع كيسونج الصناعى المشترك بين الدولتين والموجود على الحدود فى منطقة تابعة لكوريا الشمالية، كانت الرئيسة السابقة بارك قد أغلقت المجمع فى يناير ٢٠١٦ فى أعقاب التجربة النووية الرابعة.

وفى ظل القلق المتنامى داخل الولايات المتحدة من جموح طموحات زعيم الشطر الشمالى، تأتى علاقات التحالف القوية بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية على رأس أولويات مرشح الانتخابات مون جاى آن، صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية كشفت بأن عزل بارك سوف يدفع بوصول رئيس جديد أكثر تشككًا فى أهداف السياسة الأمريكية فى آسيا، ويشعر أنصار التيار الليبرالى فى كوريا بالانزعاج من التعجل فى نشر منظومة الدفاع الصاروخى المتطور «ثاد» والتى تسلمت كوريا الجنوبية بالفعل أول شحنة لمكوناتها هذا الأسبوع.. ربما يؤدى صعود مون جاى آن إلى السلطة إلى حدوث بعض التعقيد فى نشر المنظومة الدفاعية التى كانت تدعمها الرئيسة بارك وكان يفترض أن يبدأ العمل بها بنهاية هذا العام، وعشية إعلان قرار المحكمة الدستورية للتصديق على عزل بارك، صرح مون جاى، بأن التحالف مع الولايات المتحدة محور أساسى فى سياسة بلاده ووصف نفسه بصديق الولايات المتحدة وأعرب عن امتنانه لحماية الولايات المتحدة لكوريا الجنوبية من الحظر الشيوعى ودعمها للنمو الاقتصادى، لكنه أضاف قائلًا إن كوريا الجنوبية عليها أن تتعلم أن تقول «لا» للأمريكيين مون جاى آن تعهد بمراجعة نشر المنظومة الصاروخية إذا ما تم انتخابه وعرض القضية على البرلمان للتصويت عليها، فيكتور تشاى الخبير فى الشئون الكورية بجامعة جورج تاون يرى أن الحكومة القادمة فى سول ستكون أكثر ميلًا لليسار ولن تتشارك مع إدارة ترامب فى وجهات النظر.

وصول القطع الأولى من منظومة الدفاع الصاروخى إلى كوريا الجنوبية أثار بالطبع مخاوف الصين التى ترى المشروع تهديدًا لأمنها وفرضًا للهيمنة الأمريكية واختلالًا للتوازنات السياسية فى جنوب شرق آسيا، ولكون الصين الشريك التجارى الأول لكوريا الجنوبية، بدأت على الفور فى ممارسة الضغوط الاقتصادية غير المعلنة مثل فرض القيود على واردات المنتجات الكورية الجنوبية وحظر السياحة الصينية إلى كوريا الجنوبية والتى تمثل ٪٥٠ من عدد السائحين لديها، هذه الأمور أثارت المخاوف من وقع حرب تجارية ستكون لها أثار مدمرة على اقتصاد كوريا الجنوبية التى تعتمد على الشريك الصينى فى ٪٢٥ من صادراتها.

الأزمة السياسة الطاحنة التى عصفت بكوريا الجنوبية على مدى الأشهر الستة الماضية، ساهمت فى تراجع معدلات النمو ومع ارتفاع الدين الداخلى لا يتوقع الخبراء أن يتعافى الاقتصاد سريعًا، سيواجه الرئيس القادم حزمة من الأزمات الاقتصادية أبرزها إعادة هيكلة صناعة السفن التى تمثل جزءًا رئيسيًا من اقتصاد كوريا الجنوبية والتى تضررت أيضًا بسبب تباطؤ حركة التجارة العالمية، إضافة لذلك فإن الرئيس القادم سيحتاج إلى عمل خطة إصلاح جذرية لحلحلة التشابك بين المصالح الاقتصادية والسياسية التى جعلت التكتلات الاقتصادية الكبرى التى تسيطر عليها عائلات بعينها تحت المجهر، وليس أدل على ذلك من تورط وريث عائلة سامسونج جاى لى التى تمثل عائداتها ٪١٥ من اقتصاد كوريا الجنوبية فى قضية الفساد. وريث إمبراطورية سامسونج أصبح داخل السجن بعد اتهامه بتحويل ٣٠ مليون دولار لصديقه بارك للحصول على امتيازات غير مستحقة.

وينحدر المرشح الرئاسى جون جاى آن من أسرة فقيرة كانت ضمن الآلاف من لاجئ الحرب الكورية الفارين من النظام الشيوعى الذين تم تهجيرهم من ميناء هنجنام على يد قوات البحرية الأمريكية فى شتاء ١٩٥٠، وينتمى مون إلى جيل الشباب الكوريين الجنوبيين الذين تشكل وعيهم لمجابهة الحكام الديكتاتوريين المواليين للولايات المتحدة أمثال بارك تشانج هى والد الرئيسة المعزولة بارك الذى حكم البلاد من عام ١٩٦١ وحتى ١٩٧٩ وخلال دراسته الجامعية للقانون فى السبعينيات تأثر مون آن بشدة بالصحفى المنشق درى يانج هى، الذى ألف كتابًا ينتقد فيه حرب فيتنام، إلا أن الحكومة العسكرية التى أرسلت قوات لمساندة الأمريكيين فى حرب فيتنام صادرت الكتاب واعتقلت الصحفى، وفى مذكراته التى كتبها مون فى عام ٢٠١١ وتحمل عنوان القدر، وصف هذه المرحلة قائلا «فى ذلك الوقت كنا نعتقد أن كل ما تفعله الولايات المتحدة هو العدل وكل ما تقوله هو الصدق وما دون ذلك كان مرفوضًا».

أصبح مون جاى آن محاميًا ثم رئيسًا لمكتب الرئيس السابق روه مو هيون وفى عام ٢٠١٢ دخل البرلمان وبعد وقت قصير انتخب مرشحًا عن الحزب الديمقراطى لخوض الانتخابات الرئاسية التى خسرها أمام بارك، الآن أصبح مون جاى ان المرشح الأوفر حظًا لخوض انتخابات التاسع من مايو المقبل بلا منافس حقيقى حتى هذه اللحظة بعد تراجع بان كى مون السكرتير العام السابق للأمم المتحدة عن الترشح ممثلًا لتيار المحافظين.

بعد ديلما روسيف رئيسة البرازيل التى أقيلت العام الماضى تعد بارك جيون هى الرئيسة الثانية التى يطيح بها الفساد السياسى، فما هو المصير الذى ينتظرها؟

فى قراءتها لقرار المحكمة الذى صدر بإجماع الأعضاء الثمانية كلهم قالت رئيسة المحكمة «لى جانج مى» إن الرئيسة المعزولة خانت ثقة الشعب وتسببت فى حدوث خرق شديد للقانون لا يمكن تجاوزه، عزل بارك يمثل نهاية درامية للرئيسة التى نجحت فى الوصول إلى منصب الرئاسة لتعهدها بمكافحة الفساد السياسى، والواقع أن سقوط بارك التراجيدى يمثل الفصل قبل الأخير فى حياتها المأساوية التى تشبه مسرحيات الدراما الإغريقية القديمة، شهدت بارك اغتيال والدتها بالخطأ على يد أحد عملاء كوريا الشمالية فى عام ١٩٧٤ لتصبح السيدة الأولى فى القصر الأزرق فى سن الثانية والعشرين. كما عاصرت بارك اغتيال والدها الديكتاتور السابق بارك تشانج هى على يد رئيس جهاز الاستخبارات فى عام ١٩٧٩، وقعت بارك خلال تلك الفترة تحت تأثير الزعيم الروحى تشوى تاى مين والد صديقتها والذى لقب براسبوتين لتشابهه مع الراهب الروسى المولع بالسحر والتنجيم والذى كان مقربًا للقصر الإمبراطورى، الطامة الكبرى كانت وقوعها تحت تأثير صديقتها تشوى سون سيل بعد وصولها إلى منصب الرئاسة لتصبح زعيمة فى الظل.

اعتذارات بارك لمواطنيها طوال الأزمة لم تشفع لها بسبب جسامة الاتهامات بالفساد والمحاباة وإساءة استغلال السلطة، مصير بارك أصبح اليوم فى يد القضاء الذى سيرسم الفصل الأخير فى تراجيديا حياتها.