الرضا الشعبى.. كيف يتحقق؟!
عندما خرجت جموع الشعب المصرى ظهر يوم الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١ إلى الميادين العامة يطالبون بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، كان هذا يعنى غضبهم على الحكم القائم وعدم رضاهم عن مجمل الأحوال العامة التى وجدوا أنفسهم فيها، ورغم تغير الرئاسات والحكومات منذ ترك حسنى مبارك السلطة فى ١١ فبراير (٢٠١١) وحتى كتابة هذه السطور، إلا أن الغضب الشعبى العام على الحكم لايزال قائما؛ بل إنه يزداد يوما بعد يوم مع ضيق فرص الحياة الحرة الكريمة أمام مختلف شرائح الطبقة الوسطى وفئات العمال والحرفيين والأجواء فى الريف والمدينة مما يبدو من القفشات التى يتبادلها جموع المصريين فيما بينهم لعل سلطات الحكم تنتبه لتردى الأحوال وتتخذ القرارات اللازمة لإصلاح الأحوال فتنعم برضا جموع الشعب وتأييدهم، ولكن دون جدوى.
والمثير فى كل هذا أن الحكومات المتتابعة تصدر مختلف التصريحات لطمأنة الشعب على المستقبل وعدم اليأس من الحاضر؛ لأنه لا بديل عن المضى فى طريق الإصلاح الاقتصادي، ولكن تمر الأيام والأحوال تزداد سوءا، والغضب يشمل شرائح جديدة، وحبال الصبر لدى الشعب المصرى تتقطع رغم شهرة المصريين تاريخيا بالصبر على البلاء حتى يأتى الفرج.
والحال كذلك .. ترى ما سر غضب الشعب المصرى أو عدم رضاه على ما انتهت إليه الأحوال ...؟
يبدو واضحا أن غالبية المصريين فقدوا الأمل فى حياة حرة كريمة تتلخص فى عدم اطمئنانهم على يومهم ومن ثم على مستقبل أبنائهم من بعدهم، وأنه لم يعد أمامهم إلا أن يرفعوا أيديهم إلى السماء يستمطرون اللعنات على من تسبب فى تردى أحوالهم.
على أن مواجهة سخط الجماهير عن أحوالهم واستجلاب رضاهم لا يمكن أن يتحقق إلا بوضع اليد على الأسباب التى أدت إلى سخطهم وغضبهم. وتتلخص هذه الأسباب فيما يبدو من ظاهر مجريات الأمور، فى تخلى الدولة بالتدريج عن مسئولياتها الاقتصادية والاجتماعية منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، حين استجاب الرئيس السادات لشروط الولايات المتحدة الأمريكية بضرورة «فك القطاع العام وتحريره من يد الدولة»، وكانت هذه نصيحة وليم سايمونز وزير الخزانة الأمريكى الذى رافق الرئيس نيكسون فى زيارته للقاهرة فى ١٩ يونيه ١٩٧٤، حين طلب منه عبد العزيز حجازى وزير المالية المصرى آنذاك تقديم مساعدات مالية لمصر للنهوض بالبلد بعد اقتصاد حرب أكتوبر ١٩٧٣، فما كان من سايمونز إلا أن قال لحجازي: لا يمكن مساعدة الاقتصاد المصرى طالما أنه تحت القطاع العام under Public Sector، ورد حجازى قائلا: وما المطلوب، فأجابه سايمونز قائلا: liberalization .. تحرير الاقتصاد، أى تفكيكه وبيعه لرأس المال الخاص وهو ما بدأ تطبيقه ابتداءً من عام ١٩٨٥ مع حكومة عاطف صدقي، ثم الجنزورى ثم عاطف عبيد فيما عرف بـ»الخصخصة» اصطلاحا. وبهذه السياسة الجديدة بدأ إفقار الشعب المصرى لحساب أصحاب رأس المال الذين أطلق عليهم السادات لقب «رجال الأعمال» بدلا من الرأسماليين حتى لا يجعل الشعب المصرى يتذكر أيام عبد الناصر ومبدأ القضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم.
والحاصل أن الحكومات التى تلت حكم السادات حافظت على مطالب السياسات الأمريكية فى الخصخصة تحت الاسم الكودى «تحرير الاقتصاد» أسوة باقتصاديات العالم الغربي. وزادت هذه النغمة أكثر وأكثر عندما تخلى الاتحاد السوفييتى عن الاشتراكية على يد جورباتشوف وخليفته يلتسين الذى أعلن تفكيك الاتحاد السوفييتى فى نوفمبر ١٩٩١ والتخلى عن دور الدولة الاقتصادى والاجتماعى (الاشتراكية) والعودة لآليات الاقتصاد الحر وسوق العرض والطلب؛ حيث أصبح من ينادى بالعدالة الاجتماعية متخلفا. وعلى هذا تمسك الرئيس حسنى مبارك بالأجندة الأمريكية ومن خلفه بعد يناير ٢٠١١، ومما زاد فى شدة التبعية لاقتصاديات الغرب الرأسمالي، استجابة حكومات مصر لشروط صندوق النقد الدولى التى تتلخص فى رفع الدعم عن السلع الأساسية فى مقابل الحصول على أى قرض مالى من الصندوق، وترك جماهير الشعب لآلية العرض والطلب وللعلاقات الحرة دون رقابة من الدولة، الأمر الذى جعل جماهير الشعب المغلوب على أمره يفقدون الأمل فى الحياة، ولا يجدون أملا إلا فى المغامرة بالهجرة خارج البلاد رغم مشاقها، أو ارتكاب أعمال العنف بصورة أو بأخرى ولسان حالهم يقول: يا روح م بعدك روح.
***
أما إذا أراد الحكم القائم الحصول على الرضا الشعبى والتأييد المطلق فليس أمامه من سبيل سوى استعادة دور الدولة فى الشئون الاقتصادية والاجتماعية. وليس فى هذا عودة للاشتراكية كما قد يظن البعض، ولكن يكون هذا بتحجيم دور رأس المال فى الحكم والسيطرة، وذلك من باب محاكاة النظام الرأسمالى القائم فى الغرب الأوربي-الأمريكي، ذلك أن رأس المال لا يعرف الدين أو الملة أو الأخلاق أو الوطن .. إنه لا يعرف إلا المكسب والربح حتى على أجساد «الغلابة» وحياتهم. ففى الغرب الرأسمالى إما أن يحكم الرأسماليون بأنفسهم أو أن يكون الجهاز الحاكم فى قبضتهم، ولكن وفى نفس الوقت، هناك حرية تكوين النقابات للدفاع عن مصالح العاملين لدى أصحاب رأس المال فى الشركات والمؤسسات حيث من حق النقابات التهديد بالإضراب فى حالة عدم الاستجابة لمطالب العاملين، وهذه المطالبلا تخرج عن تحديد مواعيد عمل مناسبة، وأجور تتناسب مع الأسعار، فيضطر أصحاب رأس المال للاستجابة للمطالب دون تدخل من الحكومة. لكن فى مصر ليس من حق النقابات فرض شروطها على أصحاب الأعمال أو القيام بإضراب أو حتى مجرد التهديد به.
ومن ناحية أخرى على الحكومة أن تعد مشروعات قوانين بشأن حماية الجماهير الغالبة من حيث ضبط الأسعار، وضبط الإيجارات، وإيقاف الاستيراد إلا لمستلزمات الإنتاج لحين توفيرها محليا، وتقوم بإرسالها إلى مجلس النواب لمناقشتها وإقرارها فإذا رفض المجلس الذى يسيطر عليه مناخ «الحرية الاقتصادية»، سوف ينكشف أمر النواب أمام الناخبين، وقد تقدم الحكومة على حل هذا المجلس الذى أخفق فى رعاية مصالح جماهير الناخبين، وفى هذا الخصوص ينبغى أن نعلم أن أى قانون يصدر فى الشأن العام سوف يكون له مستفيدون وضحايا فى الوقت نفسه. لكن إذا كان المستفيدون يمثلون الغالبية العظمى من الشعب يصبح هذا القانون مشروعا وإيجابيا. أما إذا كان المستفيدون قلة والضحايا كثرة غالبة، يصبح هذا القانون غير مشروع وسلبي. ومن شأن هذه المعادلة أن تحدد نوعية الحكم القائم وطبيعة الحاكم.
وهكذا ينتج عن الإصلاح الشامل بذلك المعنى وليس بالمعنى الذى يقصده صندوق النقد الدولي، وجود ضحايا، لكن إذا كان الضحايا قلة عددية فلا بأس لأن هذا أمر وارد. ومن المعروف أنه فى علاج الأمراض يصف الطبيب للمريض دواء للعلاج، وهذا الدواء تكون له آثار جانبية، فإذا لم يكن للدواء آثار جانبية فلا يعد دواء علاجيا .. وهكذا الحياة. وطالما استجاب الحكم فى مصر لروشتة صندوق النقد وأبدى ارتياحه لشهاداته التى يطلقها من آن لآخر بأن الاقتصاد المصرى يسير فى الطريق السليم، فقل على الجماهير السلام، ذلك أن شهادة الصندوق بهذا المعنى تعنى «أن الاقتصاد المصرى يسير فى طريق الهاوية والتبعية. ويظل غالبية المصريين فى حيرة من أمرهم .. غاضبون على الحكم الذى ضحى بهم لصالح صندوق النقد الدولى والأجندة الأمريكية المسيطرة منذ أربعين عاما على الأقل.
على أن البحث عن الرضا الشعبى على الحكم فى مصر ليس بدعة، أو أمرا مستحيلا ومن باب السباحة ضد التيار، فهناك فى تاريخ مصر الحديثة حكام أخذوا جانب الجماهير وتكفلوا بمشكلاتهم فاكتسبوا رضا الشعب وتأييده. وفى مقدمة هؤلاء الحكام يأتى محمد على باشا مؤسس مصر الحديثة الذى أنشأ المدرسة الحديثة فى التعليم وجعلها بالمجان ومن ينهى دراسته يحصل على الوظيفة المناسبة فى الدواوين، والبعثات الدراسية كانت تمنح للنابهين من المتعلمين وليس لأبناء طبقة عليا فى المجتمع. ثم ابنه محمد سعيد باشا الذى ألغى ضريبة الجزية على أهل الذمة (الأقباط) وبدأت مواطنتهم تتكامل، يليه الخديو إسماعيل الذى توسع فى التعليم للجميع ومن ثم الوظائف.
ولكن ومع الاحتلال البريطانى لمصر (سبتمبر ١٨٨٢)، بدأت صيغة الحكم فى مصر تتغير من الدولة الكفيلة إلى الدولة الطاغية التابعة لأجندة الغرب الرأسمالي، وذلك حين قررت سلطات الاحتلال فرض الرسوم المالية على الملتحقين بالتعليم وكان مجانيا منذ زمن محمد علي، فأصبح التعليم من حق القادر ماليا وليذهب غير القادرين إلى العمل فى الورش الصناعية فى المدن أو فى الزراعة فى الريف. كما بدأت الحكومات تتشكل من كبار أصحاب رأس المال الزراعى أو الصناعى أو التجارى الذين لا هم لهم إلا الحفاظ على مصالحهم وليذهب جماهير الشعب إلى الجحيم.
وعلى هذا بدأت سلسلة مظاهرات وإضرابات العمال ابتداءً من عام ١٨٩٩ للمطالبة بحقوقهم. ووقفت الحكومات المتوالية ضدهم واعتبرت نشاطهم غير مشروع قانونا، وأكثر من هذا أن لجنة وضع دستور ١٩٢٣ رفضت أن يتضمن الدستور نصا يسمح بحق العمال فى تكوين نقابات أسوة ببلاد الغرب الأوربي-الأمريكي. وعلى هذا اعتبرت الحكومات المتوالية نشاط العمال غير قانونى وكان السجن مصيرهم. ولما تولى حزب الوفد «الشعبي» الحكم (فبراير ١٩٤٢- اكتوبر ١٩٤٤) اعترف بحق العمال فى تكوين النقابات ولكن تكوين نقابة المصنع فقط وعدم تكوين النقابة العامة لعمال صناعة معينة (مثلا النقابة لعمال الغزل والنسيج التى تضم نقابات عمال هذه الصناعة فى مختلف المصانع) وذلك خشية قوة العمال توحدهم ضد السلطة الحاكمة، أو تكوين الاتحاد العام لنقابات العمال، ذلك أن قوام حزب الوفد وغيره من الأحزاب التى شهدتها مصر آنذاك من أصحاب رأس المال الذين لا يهتمون إلا بمصالحهم على حساب مصلحة الجماهير الغالبة. وكل الحكومات التى تولت الحكم زمن الاحتلال لم يصدر عنها أى قانون لصالح الجماهير بل على العكس. ويكفى أن نذكر على سبيل المثال: أن مجلس النواب فى عام ١٩٣٣ رفض مشروع قانون بزيادة ميزانية التعليم الإلزامى (محو الأمية) لأولاد الفلاحين بدعوى «أن تعليم أولاد الفلاحين يعد طفرة كبرى ويغير من طبيعتهم الخشنة ويجعلهم يستنكفون مهنة آبائهم»؛ وأن حكومة الوفد فى مايو ١٩٤٤ أصدرت قانونا يلزم أصحاب العمل بتحرير عقد عمل فردى لكل عامل لضمان حقوقه عند الاستغناء؛ ولكن استثنت منه عمال الخدمات وعمال المحلات وعمال المراكب وعمال الزراعة، كما أن هذه الحكومة رفضت مشروع قدمه وزير الشؤون الاجتماعية (الدكتور أحمد حسين) فى يوليو ١٩٥١ بتطوير الريف المصرى على حساب الملاك من حيث مد القرية المصرية بشبكة مياه نقية، وكهرباء، ووحدة صحية، ونادٍ للشباب، وإذا رفض الملاك إقامة هذه المشروعات على حسابهم تتكفل الحكومة بها على أن تستعيد النفقات عن طريق فرض ضريبة تصاعدية على الملاك. وفى جلسة مجلس الوزراء قال عبد اللطيف محمود وزير الزراعة لأحمد حسين صاحب المشروع: «يا باشا أنت بهذا المشروع تبقى وزير أحمر أى شيوعي» فرد أحمد حسين قائلا: مفيش أحمر منك وقدم استقالته. وهى ذات الحكومة التى قدم لها طه حسين وزير المعارف مشروعه بمجانية التعليم فى كل مراحله. لكن الحكومة اكتفت بتحقيق المجانية فى التعليم الابتدائى فقط.
ثم جاء جمال عبد الناصر (١٩٥٢-١٩٧٠) ووضع حدا لهذه الدوامة واستعاد دور الدولة الكفيلة فى رعاية مصالح الشعب وتبنى مطالبه، وأتذكر قوله فى أحد خطاباته الجماهيرية: إن كل ما نريده .. نشغل الولد ونجوز البنت.. فاستحق لقب «حبيب الملايين». ولما تخلى السادات عن مبدأ القضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم، واستجاب لمطالب صندوق النقد بإلغاء الدعم عن السلع الاستهلاكية الأساسية وقعت انتفاضة ١٨-١٩ يناير١٩٧٧ وخرجت الجماهير تهتف: أين الفطور يا ساكن القصور .. أين الفطور يا بطل العبور .. فتراجعت حكومته عن رفع الدعم ولكن الحكومات المتوالية تعلمت درسا جديدا وهو ألا تعلن مسبقا عن زيادة أسعار سلعة ما، وأصبح المواطن يفاجأ بزيادة السعر كلما ذهب إلى السوق لشراء احتياجاته، ومن ثم بدأ الغضب مستترا ثم انفجر علنا فى يناير ٢٠١١ وفى ٣٠ يونيه ٢٠١٣، وانحاز الفريق عبد الفتاح السيسى وزير الدفاع لثورة الشعب وطلب من الرئيس محمد مرسى فى ٣ يوليه التخلى عن الحكم، وقد كان. وهنا شعرت الجماهير بأنها أمام ناصر مرة أخرى فرفعت صورته بجانب صورة عبد الناصر. وقد لمست الجماهير ناصرية السيسى عندما أقدم وهو وزير الدفاع وليس المالية أو التضامن الاجتماعي، على تسديد ديون السجينات الغارمات من موازنة القوات المسلحة فتم الإفراج عنهن من السجن الذى وجدن أنفسهن فيه لا لشيء إلا أنهن أردن تجهيز بناتهن وسترهن بالزواج فقمن بالتوقيع على إيصالات أمانة، ولكن عجزن عن تسديد الديون فكان السجن، وذلك تطبيقا لقاعدة: يا الدفع يا الحبس. وقد كانت هذه اللفتة الكريمة منه وهو وزير دفاع وراء تشجيعه على أن يرشح نفسه للرئاسة وقد كان. ولكن عندما أصبح رئيسا للجمهورية وجد نفسه محاصرا بالأجندة الأمريكية وبحكومة من أصحاب المال أو من الذين فى خدمتهم، وأغلبهم من خريجى جامعات أمريكية أنصار فلسفة الاقتصاد الحر الذى تحول فى بلدنا إلى النهب الحر. ووجد الرئيس السيسى نفسه لا يملك إلا توجيه الحكومة أو الوزراء بمراعاة البعد الاجتماعى فى قراراتهم وسياساتهم. ولم يحدث تغيير جوهرى لاحتواء الجماهير حتى ترضى عن الحكم، فى الوقت الذى لا يجد جماهير الشعب الغالبة بارقة أمل تدعوهم للرضا عن الحكم وتأييده، ذلك أن أصحاب المال لا يهتمون إلا بمصالحهم التى تتناقض مع مصلحة الجماهير.
وفى هذه الظروف القاسية يتذكر عامة الناس الذين أصبحوا زاهدين فى الحياة موال بيرم التونسى القائل: إيه مراد ابن آدم .. قلتله لقمة.. وإيه يستر جتته قلت له هدمه .. وإيه يموته قلتله زقة .. حد فيها مخلد .. قلتله لأ.