صمتوا.. كى ينطقوك اليوم يا أرض الجزائر هذا مخاض الأرض لا تيأسى
بقلم – شيرين صبحى
“سلفك، حاول أن ينقل، أن يستدرجنى فأملى عليه مذكراتي، تسجيلا لتاريخ ثورة المليون ونصف المليون شهيد العظيمة، حتى لا يضيع برحيلنا، هذا التاريخ الجليل. فهمها كان، نحن بشر، والأعمار بيد الله، وكما يقول السيد الرئيس لو تدوم لى لن تصل إلى غيري.. أبدا، أبدا”.
استطاع الطاهر وطار، رائد الرواية العربية فى الجزائر، أن يرسم ملامح الشخصية الجزائرية أثناء ثورة التحرير وبعد الاستقلال، مستلهما الأحداث والشخصيات من تاريخ بلاده، لهذا كانت كتاباته دائما فى قلب الأحداث التى هزت الجزائر منذ الاستقلال.
ينتمى وطار إلى مدرسة “الكتابة الملتزمة”، التى تضطلع بتقديم رسالة، لهذا لم يتوان عن نقد الثورة الجزائرية فى أول عمل له وهو “اللاز”، وفيه يرسم أدق تفاصيل الثورة، فاللاز هو الشعب الجزائرى بكل فئاته، وفيها يجسد الصراع القائم بين الثورة والاستعمار الفرنسى من جهة، والثوار الشيوعيين وثوار جبهة التحرير الوطنى من جهة أخرى.
كثيرون حملوا السلاح لمقاومة المستعمر، على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، يجمعهم الحس الوطنى وحب بلادهم، ورغم هذا تصل خلافاتهم إلى حد التصفية الجسدية للمختلفين أيديولوجيا، حيث لم تستطع الثورة أن تؤجل الصراعات الأيديولوجية بين الثوار، وهو ما جعل الشيوعيين يواجهون خيارين قاسيين، إما التنكر لأفكارهم أو الذبح..!
يُذبح بطل الرواية “زيدان” على يد الثوار بعد أن يرفض الانفصال عن الحزب الشيوعى الجزائري. وكانت جبهة التحرير الوطنى اشترطت أن ينضم الأفراد إلى الثورة فرادى متجردين من انتمائهم السياسي، وهذا ما فعله زيدان، لكن انضمامه الفردى إلى الثورة لم يجعله يتخلى عن الانتماء السياسى للحزب الشيوعي، لهذا وقع الصدام بين زيدان ورفاقه الشيوعيين من جهة وقيادة الثورة من جهة ثانية، لذلك تم ذٌبح زيدان أمام عينى “اللاز” الذى وقف مذهولا لا يصدق ما شاهدته عيناه!
مقاومة الاستعمار بالرومانسية
اشتهرت الكاتبة الجزائرية آسيا جبار، بالطابع الرومانسى لكتاباتها، والتى كانت تكتب ضد الموت والنسيان، على أمل أن تترك أثرا ما، ظلا، نقشا فى الرمل المتحرك، فكانت مناضلة ضد الاستعمار، وضد القيود الذكورية التى يفرضها المجتمع العربى على المرأة، حتى أنها لقبت بـ”محامية النساء”.
كانت جبار لم تتجاوز العشرين من عمرها عندما نشرت أولى أعمالها بعنوان “العطش”، وهى الرواية التى شبهها بعض النقاد برواية “صباح الخير أيها الحزن” للكاتبة الفرنسية فرانسواز ساجان، لهذا وصفت بـ”فرنسواز ساجان المسلمة”.
والاسم الحقيقى لآسيا جبار هو فاطمة الزهراء الملحيان، لكنها اختارت اسما مستعارا لأنها نشأت فى بيئة تحتم على كل مناضل استخدام أكثر من اسم مستعار. وقد أطلق عليها البعض لاحقا، اسم “جميلة بوحريد الثقافة الجزائرية”، حيث تمثل لثقافة بلادها ما تمثله جميلة بوحريد للثورة التحريرية.
وتعتبر جبار التى ظلت لسنوات عديدة مرشحة لجائزة نوبل، أهم روائية جزائرية أو حتى عربية تكتب باللغة الفرنسية، وهى من جيل لا يفصل بين الكتابة والقضية الوطنية، إذ لم تتوقف عن الكتابة بهذا المنطق حتى بعد الاستقلال.
دافعت عن حق الشعب الجزائرى فى ثورته، وحرصت على مساندة المرأة الجزائرية ضد الظلم الذى وقع عليها بعد انتهاء الثورة، فلم يكن حظها بعد كل ما ساهمت به لنجاح تلك الثورة، إلا أن تم تقديم الشكر لها، ليطلب منها بعد ذلك التنحى جانبا والاكتفاء بدور المشاهدة!
بعد استقلال الجزائر مباشرة، نشرت روايتها “أبناء العالم الجديد “ لتطرح التساؤل عما فعلته الثورة بأبنائها، ومصير تلك الثورة والشعب الذى ثار . تدور الأحداث خلال السنوات الأولى للثورة، فى مدينة صغيرة قريبة من العاصمة، وهناك يعيش الناس الحرب يوما بيوم، ويواجهون مصيرا يشبه مصير كل السكان المحليين الآخرين، فالرجال فى الجبال يقاومون المحتل، والنساء والشيوخ والأطفال يسعون طوال الوقت للهروب من مكان إلى آخر، حتى لا يقضوا نحبهم فى بيوتهم المدمرة التى يقذفها المحتل كل يوم ردا على العمليات الفدائية، لنشاهد كيف يدفع الضعفاء الثمن.
جيل الأحلام الجماعية
عندما نشرت الأديبة أحلام مستغانمى روايتها “ذاكرة الجسد”، لتصبح أول كاتبة جزائرية تكتب بالعربية، وفازت عنها بجائزة نجيب محفوظ عام ١٩٩٧، ليصفها شيخ الروائيين الحائز على جائزة نوبل بقوله: «أحلام نور يلمع وسط هذا الظلام الكثيف، كاتبة حطمت المنفى اللغوى الذى دفع إليه الاستعمار الفرنسى مثقفى الجزائر”. أما الرئيس الأسبق أحمد بن بيلا فقال عنها “أحلام مستغانمى شمس جزائرية أضاءت الأدب العربي”.
بطل الرواية يدعى خالد، يحمل جسده ذاكرة حية للثورة، حيث بترت ذراعه فى زمن المقاومة، فنعود من خلاله إلى ماضى الجزائر، فالبطل تحيطه الذاكرة من كل جانب، ذاكرة مختنقة بالماضى وأبطاله، فلا يستطيع التخلص منها سوى بالكتابة، ليسجل زمن الفجائع الذى عاشه الجزائريون.
وفى “عابر سرير” نتعرف على البطل زيان، الرسام المثقف، وهو أيضا رمز من رموز الثورة التى تظل تضيء ذاكرته.. “عليك أن تتدرب على الكلام بالمفرد، والتفكير بالمفرد، أنت الذى قضيت عمرا تتحدث بصيغة الجمع، لا لأهميتك ولا لأهمية كرسى تجلس عليه، ولكن الأنا لم تكن موجودة على أيام جيلك، وكان جيل الأحلام الجماعية، والموت من أجل هدف واحد”.
تعود مستغانمى إلى حادث اغتيال بوضياف، وتذكر دور البطل مصطفى بن بولعيد شعلة الثورة الجزائرية، ومقتل ابنه عبد الوهاب.. “فلم ينج من هذه اللعنة حتى من مات من جيلنا شهيدا ميتة الأبطال. أورث نحس جيله إلى ذريته. كالشهيد البطل مصطفى بن بولعيد الذى اغتيل ابنه عبدالوهاب وهو فى الخمسين من عمره فى ٢٢ آذار ١٩٩٥ م، نهار اغتيل أبوه على أيدى الفرنسيين قبل ٣٩ سنة، بعد أن نصب له المجرمون حاجزا، وهو فى طريقه إلى بلدته باتنة ليشارك ككل سنة فى التأبين الذى يقام فى ذكرى استشهاد أبيه”.
إنه القدر!
“قتل خمسة فى آيت-فراح، إنه القدر، واحد فقط حاول الهرب، ويبدو أنه قد دافع عن نفسه قبل أن يسقط، ويبدو أن هذا الشاب قدّم نفسه ضحية كى يحاول حماية هاربين آخرين.. وفى تامزاريت قتل سبعة، كما أن شابا كان مقبوضًا عليه وترك مطلق السراح فى المعسكر، فضربوه بالرصاص، بينما كان يجرى لالتقاط بالونة قذفها أحدهم بقدمه وأمره أن يعيدها إليه”.
كتب مولود فرعون يوميات الثورة التى كان يسجلها يومًا بيوم، ويصف أحداثها الصغيرة والكبيرة، فى كتابه “معركة الجزائر”، الذى نشره عام ١٩٦٢ فى صحيفة “المساء “ المصرية. لكنه لم يستطع تذوق لحظة الانتصار، حيث اغتيل قبل أيام من انتهاء الاحتلال الذى جثم على صدر بلاده ١٣٠ عاما، وذلك أثناء تواجده فى إحدى المؤسسات التربوية مع خمسة مثقفين آخرين.
ومن أديب اغتيل زمن الثورة، إلى أديب لامع يحيا بين ظهرانينا، يطارده هاجس الوطن ليردد دائما “أنا مريض بوطني”، إنه واسينى الأعرج، الذى يحتفى فى روايته “كتاب الأمير.. مسالك أبواب الحديد”، بالأمير عبد القادر، المناضل الذى حاول إيقاظ القومية الجزائرية من خلال بناء جيش وطنى لمحاربة المستعمر، وتأسيس دولة وطنية حرة.
أما الشخصية الموازية فى الرواية فهو قس الجزائر الأول “مونسينيور ديبوشي “ الذى ظل يدافع عن الأمير عبد القادر، وكرس حياته كلها لمحاولة تبرئته وإخراجه من سجنه فى فرنسا.. وكان القس ديبوشى عُين فى منصبه سنة ١٨٣٨ وظل فى الجزائر حتى استقالته سنة ١٨٤٦.
مسعورو النياب
الكتابة والتغنى بالثورة الجزائرية لم تقتصر على الجزائريين وحدهم، فقد كتب الشاعر السورى سليمان العيسى ما يقرب من سبع وثلاثين قصيدة، حتى أنه أطلق عليه شاعر الثورة الجزائرية، وهو الذى عاش مشاعر الثوار يوما بيوم، فيقول فى أحد حواراته: “عندما قامت الثورة الجزائرية ثورة التحرير الكبرى، كنا نتابعها يوما بيوم ومعركة بمعركة ونعد نفسنا من الثوار.. وإن لم نشترك فى الثورة أو نكون فى جبال الأوراس. كنا نحلم أن نكون فى الجبال مع المقاتلين لكن لم يتح لنا أن نحمل السلاح فوجدنا أننا نستطيع أن نساهم فى هذه الثورة بأن ننقل لعنة المنفى إلى أصلها.. إلى اللغة الأم، ففكرنا قليلا ووجدنا أن أحسن خدمة يمكن تقديمها لهذه أن نطلع الإخوة العرب على ما يقوله إخواننا فى الجزائر دفاعا عن الأرض والقضية والحرية”.
فى قصيدته “ميلاد شعب” يقول العيسى : “لكأنى أبصر الغصب مسعور النياب، ينشر الموت على شعبى فى كل الدروب، جثث تنهال، أطفال على أشلاء شيب، وعذارى فى حراب الجند أوصال جيوب، قطعت بين ارتعاشات شهيق ونحيب، أيها السفاح ضاق الغدر بالجرم الرهيب، لحظة وانقض بركان من النيران فاجر، صمتوا، كى ينطقوك اليوم يا أرض الجزائر، وتكلمت، فهز الدهر أصوات الرفاق، ضربوا فوق الذرى السمراء وعدا للتلاقي، أيها المجد، لقد عدنا، فهييء للسباق، لم يعد فى وطنى فى ساحات الفتح عبيد، فى ذرى الأطلس فجر راح ينشق جديد”.
بينما كتب شاعر العراق بدر شاكر السياب، عن بطولات وهران، التى بعثت تلك المدينة للحياة من ركام الموت والاستسلام للمحتل، فيقول: “هذا مخاض الأرض لا تيأسي، بشراك يا أجداث حان النشور، بشراك فى وهران أصداء صور، سيزيف ألقى عنه عبء الدهور، واستقبل الشمس على الأطلس”.
كذلك كتبت الروائية السورية غادة السمان فى مجموعتها الأولى “عيناك قدري”، عن الممارسات الوحشية للمستعمر الفرنسي، فى قصتى “برارى شقائق النعمان”، و”مغارة النسور”، وفى الأخيرة تروى قصة مناضلة جزائرية تدعى “بسمة”، تعمل لدى ضابط فرنسي، لتراقبه وتنقل المعلومات إلى الثوار، لتطلعنا على وحشية هؤلاء الغاشمين التى تصل إلى قطع الآذان من أجل الحصول على المكافأة التى تقدمها سلطات الاحتلال.. تقول البطلة: “ثلاثة أعوام وأنا أشهد قراصنة فرنسيين يقبضون ثمن صناديق معبأة بالقطع الغضروفية”. لكنها مع كل هذه الوحشية التى تشهد عليها طوال الوقت، تؤمن أن المستعمر سيدفع ثمنها يوما “وأرى اللهيب والعواصف تهز برج إيفل، وأرى الثلوج حمراء دامية التهطال”.