رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


جبهة التحرير الوطنى بين الكفاح المسلح والتفاوض

20-3-2017 | 13:54


بقلم- د. سامى صبرى عبد القوى

بعد عشرات السنين من الكفاح اندلعت خلالها أكثر من مائة وخمسين ثورة وانتفاضة شعبية ضد الاستعمار الفرنسى الغاشم، بلغت الحركة الوطنية الجزائرية مرحلة التحقيق والنضج، لتبدأ على إثر ذلك مرحلة جديدة من الكفاح المنتظم على مدار سبعة أعوام ونصف فى شكل ثورة تحرير مسلحة، لتصفية النظام الاستعماري، وتحقيق الاستقلال الوطنى بإحياء الدولة الجزائرية بإرثها الثقافى العربي، الذى حاول الاستعمار طمسه وفرنسته.

على إثر فشل حزب الشعب الجزائرى بزعامة مصالى الحاج، فى قيادة الحركة الوطنية بسسب ظهور اتجاهين تصارعا على الاستحواذ على السلطة وقيادة القاعدة النضالية الحائرة، تأسست اللجنة الثورية للوحدة والعمل فى مارس١٩٥٤، من قيادات هذا الحزب، تلبية للحاجة الماسة إلى توجيه الحركة الثورية الجديدة بعيدًا وتحويلها إلى قوة مستقلة عن الاتجاهين السياسيين المتصارعين، ولمنع الانقسام وهدر الطاقات فى الخصومات الحزبية.. وانبثقت عن هذه اللجنة، لجنة أخرى من تسعة أعضاء. وفى منتصف يونيه ١٩٥٤، اجتمع داخل الجزائر فى منزل عامل بسيط ستة من هؤلاء من خاملى الذكر ممن لا تعرفهم الجماهير بسبب انخراطهم فى العمل السري، هم: ابن بلعيد مصطفى، والعربى مهيدى، وبيطاط رابح، وبوضياف محمد، وديدوش مراد، وكريم بلقاسم، كانوا على صلة بثلاثة مناضلين آخرين فى القاهرة هم: آيت أحمد، وأحمد بن بيلاَّ، ومحمد خضير.. كانت مهمة هؤلاء تنفيذ قرار اتخذته اللجنة الثورية ببناء جبهة موحدة ترمى إلى تحطيم النظام الاستعمارى الفرنسى بالسلاح، وتحرير البلاد، بعد أن اعتبرت أن الكفاح السياسى وحده قد انتهى عهده، وأن الثورة الوطنية المسلحة أصبحت الحل الوحيد لتحطيم نظام لم يتورع حتى عن انتهاك القوانين التى سنّها هو بنفسه.

وقد تشعبت اللجنة الثورية وفق مبادئ الحرب الثورية الشعبية، التى تقوم على وحدة العمل السياسى والعسكري، وترتكز على تجنيد الجماهير، لأن الحرب الثورية تفترض معرفة عميقة بالجماهير الشعبية، التى تحمل الثورة إلى كل أنحاء الوطن.. وبعدة اجتماعات تم التوافق على تقسيم التراب الوطنى الجزائرى إلى خمس مناطق: الأولى منطقة الأوراس النمامشة، بقيادة بن بلعيد، الثانية منطقة شمال قسنطينة، بقيادة ديدوش، الثالثة منطقة القبائل، بقيادة بلقاسم، الرابعة منطقة الجزائر العاصمة وضواحيها، بقيادة بيطاط، الخامسة منطقة وهران، بقيادة بن مهيدي.

وكانت مناصب المسئولية تلك دليلًا على الوظائف الضرورية والصعبة، التى يجب القيام بها لمصلحة الثورة قبل أى اعتبار وفى حدود السرية ما أمكن.

وفى العاشر من أكتوبر ١٩٥٤، اجتمع رؤساء المناطق الخمس مع بوضياف، لوضع اللمسات الأخيرة وساعة الصفر لانطلاق الثورة المسلحة، وعقد اجتماع آخر فى ٢٥ أكتوبر من العام ذاته، وتم الاتفاق فى نهاية الأمر بعد التشاور مع قيادات الخارج على بدء الثورة المسلحة فى الأول من نوفمبر ١٩٥٤، باسم جبهة التحرير الوطنى الجزائرية، وجناحها العسكرى «جيش التحرير الوطني.

كان الاستعداد للالتحاق بالثورة متوفرًا لدى القاعدة العريضة من المناضلين، وحتى لا يكون الالتحاق بها على نحو عفوي، فقد سُطِّر برنامج عمل لذلك يقوم على: توزيع المهام بين أعضاء اللجنة التنفيذية تأكيدا لمبدأ العمل الجماعى والقيادة الجماعية، وهيكلة وتنظيم الأعضاء السابقين فى المنظمة الخاصة ضمن جيش جبهة التحرير الوطني. وكان التجنيد يتم وفقا لشروط ومعطيات يجب أن تتوفر فى المناضلين، أهمها وعى المناضل بالهدف الذى يحارب من أجله، وأن الطريق إمّا نصر أو شهادة. وقد واجهت الجبهة مشاكل جمة كان منها عدم توفر السلاح الكافى للمجّندين، حيث إن هؤلاء الجزائريين لم تكن لديهم إلا وسائل ضعيفة منها بعض الأسلحة الأوتوماتيكية وبنادق الصيد، التى كانت تمتلكها الكثير من الأسر، ولاسيما قبائل الشاوية فى منطقة الأوراس. وكان يشترط فى من يريد الالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطنى أن يقوم بشراء سلاحه أو الحصول عليه مباشرة من العدو عن طريق عملية فدائية يتسّلح من خلالها ويسمى هذا بالتسليح الذاتي، وقد بلغت نسبة السلاح المستعمل من قبل جيش التحرير الذى أخذ من العدو ٧٥٪، والنسبة المتبقية من فئات الشعب، ومن هنا تتضح قوّة إرادة المناضلين فى تسليح أنفسهم من عدوّهم، وهى عملية مزدوجة: قتل الجندى الفرنسى ثم أخذ سلاحه لقتل الجنود الفرنسيين بالسلاح ذاته. وعلى الرغم من هذه المصاعب فإن عدد المقبلين على التجنيد فاق كل تصوّر ممّا أكد وضوح الغاية التى أعلنت من أجلها الثورة المسّلحة أمام الجميع فى ذلك الحين.

وبعد أن عد الثوار عدتهم بدأت الثورة المسلحة كما اتفق مسبقًا فى منتصف ليل الأول من نوفمبر ١٩٥٤، وقد حدّد التوقيت بطريقة مدروسة وبتخطيط محكم، لعدة اعتبارات منها: أنه يصادف عيد القديسين، وبالتالى فإن أغلب قوات الاحتلال ستكون فى عطلة دينية ملؤها الّلهو والمرح وهذا ما يسهل المهمة. أمّا عن منتصف الليل فقد أُختير بدّقة لأن الجنود الفرنسيين ورؤسائهم سيكونون فى حالة استرخاء. وعند بدء العمليات العسكرية، شن الثوار الجزائريون نحو أكثر من ثلاثين هجومًا فى أنحاء متفرقة من الجزائر على أهم المعسكرات الفرنسية، بالتركيز على الثكنات العسكرية للحصول على الأسلحة، وهوجمت مرافق وسائل الاتصال والمواصلات، والشركات الفرنسية الاحتكارية، والمرافق العامة والأجهزة القمعية مثل الشرطة والدرك ومراكز الاستنطاق(٨). وقد قدر عدد الذين اشتركوا فعليا فى هذه العمليات نحو ثلاثة آلاف مقاتل جزائري، وكان الهدف الأساسى للثوار فى سلوك هذا المنحى هو تشتيت جهد القوات الفرنسية المحتلة، وبالتالى ضعف الرد عليهم عسكريًا من قبل تلك القوات، وهى دراية لم تأت عفويًا بقدر ما هى استقراء دقيق لماضى الأيام من القتال المرير ضد الفرنسيين.

خلال الفترة من٢٠أغسطس إلى ٤ سبتمبر ١٩٥٦، عقدت جبهة التحرير مؤتمر «الصومام» لإعادة التنظيم الميدانى للهيئات القيادية الثورية السياسية منها والعسكرية، حيث أخرج المؤتمر الأداء الثورى من مرحلة المبادرة الفردية إلى مرحلة العمل الجماعى الموجه، وألغى ميزة الاستقلال الذاتى التى تمتعت ﺑﻬا المناطق التاريخية الخمس وقيادة الوفد الخارجي، عندما أخضع كل الأطراف إلى قيادة وطنية مركزية اتخذت من العاصمة مقرًا لها.. كما ركز المؤتمر على إحداث تغيير كبير فى التنظيم العسكرى لجيش التحرير الوطنى، الذى تم تحويله إلى جيش نظامى دون أى تغيير فى تركيبته الاجتماعية أو فى شروط الانخراط فيه.. وقد أقر المؤتمر تأسيس هيئتين قياديتين للثورة تكون إحداهما ذات سلطة تشريعية والأخرى تنفيذية خاضعة لها، وبناءً عليه تأسس اﻟﻤﺠلس الوطنى للثورة الجزائرية «برلمان الثورة» كهيئة تشريعية، حيث أوكلت إليه عدة مهام، منها الإشراف على الأداء السياسى والعسكرى للثورة، وأصبح خلال الفترة الممتدة من ١٩٥٦ إلى ١٩٦٢، الهيئة التى تمثل «القيادة العليا لجبهة التحرير الوطنى وصاحب الحق الوحيد فى تقرير السلم أو مواصلة الحرب، كما تأسست لجنة التنسيق والتنفيذ، حيث كان يتم تعيين أعضائها من طرف المجلس الوطنى للثورة، وكانت لجنة تمثل مكتبًا سياسيًا أحيانا وجهازًا للحرب أحيانًا أخرى. وقد نجح فى مجمله فى توحيد وتأسيس القيادة الثورية لجبهة التحرير الوطني، إضافة إلى نجاحه فى إقامة إدارة جزائرية موازية للإدارة الاستعمارية. وكان هذا معناه تهيئة جبهة التحرير لأى عمل تفاوضى مع الإدارة الاستعمارية، باعتبارها ممثلة للثورة الجزائرية دون منازع.

وقد اقتضت الظروف الصعبة جيش التحرير الوطنى إلى أن يحصر نشاطه المسلح فى منطقة القبائل، الواقعة شمال قسنطينة وجبال الأوراس المنيعة المحصنة التى يصعب السيطرة عليها بسهولة، وهاتان المنطقتان كانتا مهد جميع الثورات الجزائرية ضد الفرنسيين. غير أن استراتيجية جيش التحرير قد شهدت وجهًا تجديديًا آخر تمثل بامتداد الثورة المسلحة إلى مدن أخرى مهمة مثل وهران حتى وصلت إلى الصحراء الغربية سنة ١٩٥٧.وقد أدت النجاحات العسكرية اللافتة للنظر التى حققها الثوار الجزائريين إلى اتساع رقعة المقاومة الجزائرية وشراستها ضد القوات الفرنسية، مما ممااجبرحكومة غايموليه عام ١٩٥٧، على إرسال تعزيزات من الاحتياط الفرنسى والقوات المظلية المتمرسة فى حروب الصحراء والقتال الجبلي، مما شكل عبئًا مضافًا على المقاومة الجزائرية, حيث بدأت بتتبع منابع القيادة الجزائرية للمقاومة والدخول فى اشتباكات نوعية عسكرية فى غاية الصعوبة والشراسة، وهو الأمر الذى زادت حدته فى عام ١٩٦٠ أثناء تنفيذ عملية (مارشال)، غير أن جيش جبهة التحرير تمكن من أن يخرج من هذه المحنة منتصرًا، مما أثار حفيظة القوات الفرنسية التى أخذت تميل إلى البطش والعنف بحق العُزّل من أبناء الشعب الجزائري.

الجبهة وبدء مرحلة التفاوض:

دفع تركيز السلطات الاستعمارية ضرباتها على العناصر القيادية بأعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ، إلى الخروج بها من العاصمة إلى الولاية الرابعة خلال شهر فبراير ١٩٥٧، ثم خارج البلاد، وهكذا كان مصير اللجنة الأولى. وعلى إثر انعقاد المجلس الوطنى للثورة، تمت نصيب لجنة التنسيق والتنفيذ الثانية التى استقر بها المقام فى القاهرة، حيث بدأ نشاطها يتجه نحو العمل السياسي. وقد قرر أعضاء اللجنة في١٩سبتمبر١٩٥٨تحويلها إلى»الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية»، برئاسة فرحات عباس ونائبين لهما: أحمد بن بيلاّ َوكريم بلقاسم. وأخذ الإعلان عنها بعدًا واسعًا على المستويين العربى والدولي، حيث سارعت العديد من البلدان العربية إلى الاعتراف بها منذ اليوم الأول، لا سيما الجمهورية العربية المتحدة، ثم العراق وليبيا، لتتوالى الاعترافات بها لاحقًا على المستوى الدولي. وقد أكد إعلان هذه الحكومة على تقدم الثورة نحو تحقيق الاستقلال، وذلك بتعزيز العمل العسكرى بمجهود سياسي، حتى يمكن للثورة أن تصل إلى تحقيق أهدافها.

كان تشكيل هذه الحكومة المؤقتة فى هذا التوقتت تحديدًا، ردًا عمليًا علنيًا على التحدى الصارخ الذى ألقت به الحكومة الفرنسية فى وجه الشعب الجزائري، عندما أعلنت سياسة الاندماج التام، وأخذت تعمل على تنفيذها بواسطة إرغام الجزائريين على المشاركة فى الاستفتاء الذى كان من المقرر له أن يجرى يوم٢٨سبتمبر١٩٥٨، حول الدستور الفرنسى الجديد.

وبعد تأسيس الحكومة المؤقتة بشهر واحد فقط أعلن فرحات عباس قبول مبدأ التحاور مع فرنسا بدون شروط مسبقة، لإعطاء الدليل لباريس والعالم بأن هدف جبهة التحرير الوطنى هو تحرير الجزائر، وأن الكفاح المسلح الذى تخوضه ما هو إلا وسيلة لتحقيق الاستقلال. وعلى الرغم من ذلك فقد ناورت الحكومة الفرنسية، مستعملة كل الوسائل الممكنة للقضاء على الثورة الجزائرية، مع استمرارها فى سياسة عدم الاعتراف بجبهة التحرير الوطنى والتفاوض معها، باحثة عن مفاوضين جزائريين لا ينتمون للجبهة.

وفى يناير١٩٦٠عُدلت الحكومة المؤقتة، وأسندت رئاستها مرة ثانية لفرحات عباس، وذلك لقدرته الكبيرة على التفاوض. وقد حدد المجلس الوطنى للثورة المعالم الرئيسية للسياسة الجديدة التى يتعين على الحكومة المؤقتة أن تنتهجها فى المستقبل، كان من أبرزها تطبيق حق تقرير المصير، عن طريق استفتاء يجرى تحت إشراف الأمم المتحدة أو التفاوض مع فرنسا إذااقتضت الضرورة ذلك. وعقب ذلك طالبت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية فى ٢٧ من الشهر ذاته الحكومة الفرنسية بإزالة جميع العراقيل أمام الشروع فى المفاوضات. وخلال تلك الفترة كشف الرئيس الفرنسى شارل ديجول عن اعتقاده بأن الجزائريين يبدون مؤيدين لجزائر جزائرية مرتبطة بفرنسا، لكن بعد الخسائر الفادحة التى تكبدتها فرنسا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، واستمرارية الثورة، اضطرت مجبرة بقبول مبدأ التفاوض مع جبهة التحرير الوطني، بعد مضى أكثر من عام ونصف من إعلان فرحات عباس عن قبول مبدأ التفاوض. وقد تم أول لقاء بين وفد الحكومة المؤقتة، والحكومة الفرنسية بمولان Melun فى ٢٠ يونيو ١٩٦٠، غير أن المفاوضات بينهما باءت بالفشل، بسبب تعنت الحكومة الفرنسية، معتقدة بأن قوتها العسكرية لا زالت قادرة على سحق الثورة الجزائرية ومن ثم لن تقبل بالرضوخ لجبهة التحرير الوطني.

وفى ٤ نوفمبر ١٩٦٠، جدد ديجول فكرة استئناف المفاوضات «بدءًا من انتهاء المعارك» طارحًا نفس الفكرة القائمة على جزائر جزائرية تابعة لفرنسا، إلا أن الحكومة المؤقتة نظرت إلى طرح ديجول بأنه مجرد نداء موجه إلى «القوة الثالثة» أى إلى الرأى العام الجزائرى المعتدل، ومن ثم لم ترد عليه وتجاهلته تمامًا. وقد قرر ديجول عقب ذلك الذهاب إلى الجزائر، لتقدير قوة المعارضة وتقييم مدى شعبيته لدى الجزائريين. وقد إثار ذلك صخب الجزائريين، فقاموا بمظاهرات شعبية يومى ١٠ و١١ ديسمبر ١٩٦٠، رفعوا خلالها شعارات «تحيا الحكومة المؤقتة»و«الجزائر مسلمة» وحاملة العلم الجزائري، لكن الجيش الفرنسى أطلق النار على المدنيين العُزّل وقتل العشرات من المتظاهرين. وقد استغل فرحات عباس هذا الحادث الذى كان له تأثير عالمى كبير، ووجه رسائل إلى معظم الشخصيات الدولية والمنظمات الدولية الفاعلة فى السياسة العالمية، طالبًا منهم التدخل بقوة لوضع حد «للإبادة» التى يتعرض لها الشعب الجزائرى من قبل الجيش الفرنسي، كنوع من الضغط على باريس. وفى الوقت ذاته فقد أعطت هذه المظاهرات والشعارات التى حملتها، دعمًا قويًا لفرحات عباس، لكى يتفاوض من مركز قوة، كرسته الانتصارات العديدة والمتوالية لجيش التحرير الوطنى على القوات الفرنسية.

وفى ١٦ يناير ١٩٦١، أعلنت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية استعدادها للدخول فى مفاوضات مع الحكومة الفرنسية، شريطة تطبيق مبادئ بيان أول نوفمبر ١٩٥٤، وعدم الخروج عنها، التى تلخصت في: تحقيق استقلال الجزائر، وبناء دولة جزائرية ذات سيادة قائمة على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ويبدو أن فرنسا قد أبدت مرونة تجاه ذلك، فقد استؤنفت المفاوضاتفى ٢٠ فبراير ١٩٦١ فى « لوسرن Lucerne» بسويسرا، ومثَّل الحكومة المؤقتة الطيب بولحروف، وأحمد بومنجل، ومن الجانب الفرنسي» جورج بومبيدو ممثل الرئيس ديجول إضافة إلى «برونو دى لوس» مدير الشئون السياسية بوزارة الخارجية الفرنسية و»لويس جوكس» وزير الدولة المكلف بالجزائر.

وقدأعد الجزائريون ملفات المفاوضات بدقة بالغة، حيث تناولت: شروط إجراء الاستفتاء، والضمانات التى ستقدم للأوروبيين فى الجزائر بعد استقلالها، ووجود الجيش الفرنسى فى الجزائر، وفى القاعدة البحرية فى ميناء المرسى الكبيربوهران، والتعاون بين الدولتين، ومشكلة الصحراء. أما بومبيدو فقد أثار عدة نقاط تمثلت في: المؤسسات المؤقتة، وضمانات تقرير المصير، وجنسية الأقلية الأوروبية، ومفهوم وشكل السلطة التنفيذية المؤقتة، وضمانات تمثيل الأقليات.

كانت مواقف الطرفين متباعدة جدًا، فقد رد بومبيدو على ممثلى الحكومة المؤقتة، بأن قضية الصحراء لا نقاش فيها، معتبرًا أن الصحراء بحر له سواحل تسكنها شعوب ساحلية والجزائر واحدة من تلك الشعوب، وعلى فرنسا أن تستشير الجميع، أما مسألة الجيش الفرنسى فقد نحاها جانبًا، وعدَّ المرسى الكبير ملكًا من الأملاك الفرنسية باعتباره كجبل طارق الخاضع للسيادة البريطانية «فى التراب الأسباني». ولم يتطرق بومبيدو إلى وقف إطلاق النار، قائلًا «إنه عندما يتم التفاوض على الهدنة سيصدر بيان من الحكومة الفرنسية، يعقبه بيان من الحكومة المؤقتة تدين فيه الإرهاب وكل عملية من أعمال العنف». وقد رفضت الحكومة المؤقتة خلال المفاوضات الفصل بين وقف إطلاق النار وضمانات تقرير المصير، كما رفضت الهدنة التى اعتبرتها مجرد وقف للعمليات العسكرية بين الطرفين، فى حين أن وقف إطلاق النار كنتيجة للمفاوضات يحل المسائل السياسية والعسكرية، ورفضت كذلك فكرة «التيارات» التى اعتبرتها وسيلة لتفرقة الصفوف، ناهيك عن رفضها تجزئة التراب الوطني. ومن ثم لم تكن مفاوضات لوسرن سوى بداية لطرح المشاكل، وكان لها الفضل فى إبراز النقاط التى كانت محل الخلاف على نحو كبير من الوضوح.

صفوة القول، جاءت اتفاقيات إيفيان بعد رحلة نضال مريرة خاضها الشعب الجزائرى ببسالة، منذ أن وطأت أقدام الفرنسيين الجزائر فى عام ١٨٣٠، لتتوج بإعلان استقلالها رسميًا عن فرنسا فى ٥ يوليو ١٩٦٢.