جميلة بوحريد.. رمز الكفاح الجزائري
هى المرأة التى صفق لها العالم طويلا محبة واعتزازًا وتقديرًا ..هى المرأة التى سيستيقظ الشهداء من مقابرهم إذا ماتكلمت أما التاريخ فسيركع تحت قدميها إجلالًا وإنصاتًا فهى الشخصية التى اختارها التاريخ لتكون بين أبرز خمس شخصيات سياسية طبعت القرن العشرين.. هى ليست اسم رنان فى التاريخ العربى الجزائرى فقط إنها رمز مضىء من رموز الكرامة العربية والحرية الإنسانية، إنها قصيدة فى تراب الوجدان الجزائرى والعربى والإنسانى إنها شجرة مثمرة وخالدة فى تربة الروح وفى ماء الحلم ودم التحرر القومى والوطنى والإنسانى..
ولدت جميلة بوحريد سنة ١٩٣٥ فى حى القصبة الجزائر العاصمة وكانت الوحيدة بين أفراد أسرتها فقد أنجبت والدتها ٧ شبان، وقد تلقت تعليمها فى مدرسة فرنسية، وكان لوالدتها التأثير الأكبر فى حبها للوطن فقد كانت أول من زرع فيها حب الوطن وكانت تذكرها دائمًا بأنها جزائرية لا فرنسية رغم صغر سنها آنذاك واصلت جميلة تعليمها ثم التحقت بمعهد للخياطة، فقد كانت تهوى تصميم الأزياء إلى أن اندلعت الثورة الجزائرية عام ١٩٥٤، حيث انضمت لحركة المقاومة السرية عن طريق شقيقها، وكانت آنذاك فتاة باهرة الجمال وجريئة للغاية.. وقد عملت خلال أعوام انطلاقة الثورة كمسؤولة ارتباط مع القائد سعدى ياصف.. كما أنها تولت لبعض الوقت مسؤولية العمليات المسلحة فى العاصمة الجزائر، وكانت أول المتطوعات لزرع القنابل فى طريق الاستعمار الفرنسى ونظرًا لبطولاتها أصبحت المطاردة رقم ١..
وقد كانت جميلة بوحريد واحدة من الآلاف المؤلفة من المناضلين الذين كتب عليهم سوء الحظ أن يسقطوا فى قبضة العدو فقد ألقى القبض عليها أثناء غارة شنتها القوات الفرنسية الخاصة، واتهمت بزرع الكثير من المتفجرات والعبوات الناسفة فى العاصمة مما أودى بحياة الكثير من الفرنسيين وبعد عمليات تعذيب يصعب تصورها..
قصة المناضلة جميلة بوحريد واحدة من مليون قصة لشهداء ثورة الجزائر وهى قصة لاتقل فى بطولاتها عما قدمه المليون شهيد لكنه بما احتوته من مآس وصمود ترتفع إلى مستوى الرمز لتعبر عن كفاح الجزائر وتصبح مثلًا على التضحية من أجل الاستقلال، وكان دور جميلة يتمثل فى كونها حلقة الوصل بين قائد الجبل فى جبهة التحرير الجزائرية ومندوب القيادة فى المدينة (ياسف السعدى).
وفى أحد الأيام كانت جميلة متوجهة (لياسف السعدى) برسالة جديدة لكنها أحست أن ثمة من يراقبها فحاولت الهرب غير أن جنود الاحتلال طاردوها وأطلقوا عليها الرصاصات، التى استقرت إحداها فى كتفها اليسرى وحاولت المناضلة الاستمرار فى الانفلات غير أن ابنة الثانية والعشرين سقطت بجسدها النحيل الجريح وأفاقت فى المستشفى العسكرى، حيث كانت محاولة الاستجواب الأولى لإجبارها على الإفصاح عن مكان (ياسف السعدى ) غير أنها تمسكت بموقفها فأدخلها جنود الاحتلال فى نوبة تعذيب استمرت سبعة عشر يومًا متواصلة وصلت إلى حد أن أوصل جنود الاحتلال التيار الكهربائى بجميع أنحاء جسدها، حيث لم يحتمل الجسد النحيل المزيد وأصيب بنزيف استمر خمسة عشر يومًا.. لكن لسان جميلة بوحريد وجسدها كان أقوى من كل محاولات معذبيها.. وكانت تغيب عن الوعى وحين تفيق تقول «الجزائر أمنا»..
بعدها انتقلت جميلة لسجن (باربدوس) أشهر مؤسسات التعذيب فى العصر الحديث، حيث بدأت نوبات أخرى من التعذيب استمرت إحدى جلساتها إلى ثمانية عشر يومًا متواصلة حتى أغشى عليها وأصيبت بالهذيان تم بعدها السماح لها بوجود تحقيق رسمى، حيث حضر هذا التحقيق المحامى الفرنسى (مسيو قرجيه)، الذى قال لجميلة بمجرد توليه الدفاع عنها (لست وحدك فكل شرفاء العالم معك) ورغم أن القاضى المشرف على التحقيق رفض منحه ساعة واحدة للجلوس معها للاطلاع على ملابسات القضية، ولم يستجب إلا بعد أن هدد بالانسحاب من القضية، وأيدت (جميلة ) التهديد بأنها لن تجيب عن أية أسئلة فى غير وجود محاميها، واستمر التحقيق معها قرابة الشهر وقع خلالها حادث إلقاء مفرقعات بأحد المحال التجارية..
المحكمة المتواطئة
بدأت المحكمة يوم ١١ يوليو بعد انتهاء التحقيق وبعد أن رفض عديد من المحامين الفرنسيين الاشتراك فى الدفاع عن جميلة بوحريد لرفض المحكمة اطلاعهم على ملف القضية ولرفضها أيضًا استبعاد التحقيقات، التى أخذت خلال جلسات التعذيب.. وكانت جلسة المحاكمة الأولى مجرد سجال عقيم بين المحكمة و(جميلة بوعزة) زميلة (جميلة بوحريد) فى الاتهام واعترفت فيها (بوعزة) بأن (بوحريد) هى التى حرضتها على إلقاء المتفجرات وكانت تتحدث بصوت عال وبشكل غير طبيعى الأمر الذى دعا (مسيو فرجيه) لتقديم طلب للمحكمة لعرض (بوعزة) على طبيب أمراض عقلية فرفضت المحكمة طلبه ورغم ذلك استمر فى الدفاع عن (جميلة بوحريد) وزملائها غير أن تشدد المحكمة وانحيازها الواضح دفعه لإبلاغ المحكمة بأنه احترامه للعدالة واحترامه لنفسه يضطرانه إلى الانسحاب وإلى إبلاغ نقيبهم فى باريس..
وفى اليوم الثالث تم استجواب المتهمين الأربعة (جميلة بوحريد) و(جميلة بوعزة) و(طالب) و(حافيد) وكذا الاستماع إلى الشهود وإلى ثلاثة من الأطباء العقليين بشأن الحالة العقلية (لبوعزة)، الذين رفضوا الإفصاح عن حالتها بحجة سر المهنة.. وكانت اعترافات (جميلة بوعزة) ١٩ سنة تقول: إنه بناء على إشارة من جميلة بوحريد وضعت عزة قنبلة فى سلة المهملات يوم ٩ نوفمبر ١٩٥٦ وفى يوم ٢٦ يناير ١٩٥٧ وضعت قنبلة ثانية انفجرت فى مقهى آخر نتج عنه قتل شخصين.. وأيضًا تم تضمين ملف القضية صورة من تحقيق ادعت المحكمة أن (جميلة بوحريد) قد أدلت به غير أنها أنكرت ذلك وانتهت المحكمة إلى توجيه التهم التالية لجميلة بوحريد (إحراز مفرقعات والشروع فى قتل والاشتراك فى حوادث قتل وفى حوادث شروع فى قتل وتدمير مبان بالمفرقعات والاشتراك فى حوادث مماثلة والانضمام إلى جماعة من القتلة) وخمس من هذه التهم عقوبتها الإعدام..
وعندما قرأت المحكمة المتواطئة الحكم بالإعدام على (جميلة بوحريد) انطلقت فجأة جميلة فى الضحك فى قوة وعصبية جعلت القاضى يصرخ بها (لا تضحكى فى الموقف الجد ).. غير أنها قالت فى قوة وثبات جملتها الشهيرة (أيها السادة إننى أعلم أنكم ستحكمون على بالإعدام لأن أولئك الذين تخدمونهم يتشوقون لرؤية الدماء ومع ذلك فأنا بريئة ولقد استندتم فى محاولتكم إدانتى إلى أقوال فتاة مريضة رفضتم عرضها على طبيب الأمراض العقلية بسبب مفهوم.. وإلى محضر تحقيق وضعه البوليس ورجال المظلات وأخفيتم أصله الحقيقى إلى اليوم والحقيقة أننى أحب بلدى وأريد له الحرية، ولهذا أؤيد كفاح جبهة التحرير الوطنى.. إنكم ستحكمون على بالإعدام لهذا السبب وحده بعد أن عذبتمونى ولهذا السبب قتلتم إخوتى (بن مهيرى) و(بومنجل) و(زضور) ولكنكم إذا تقتلونا لا تنسوا أنكم بهذا تقتلون تقاليد الحرية الفرنسية ولا تنسوا أنكم بهذا تلطخون شرف بلادكم وتعرضون مستقبلها للخطر ولا تنسوا أنكم لن تنجحوا أبدًا فى منع الجزائر من الحصول على استقلالها..
وقد خرجت صرخة جميلة من قاعة المحكمة إلى أرجاء العالم فقد ثار العالم من أجل أجمل جميلة ولم تكن الدول العربية وحدها هى التى شاركت فى إبعاد هذا المصير المؤلم عن جميلة فقد انهالت على (داج همرشولد) السكرتير العام للأمم المتحدة وقتها البطاقات من كل مكان فى العالم تقول (انقذ جميلة ).. (انقذ جميلة )..
وتمر أيام قليلة ويتقهقر الاستعمار الفرنسى ويعلن السفاح (لاكوست) أنه طلب من رئيس جمهورية فرنسا وقتئذ العفو عن جميلة ثم يتبجح ويقول (ما من امرأة أعدمت على أرض فرنسية منذ خمسين عامًا ).. وكانت جميلة رغم ذلك على بضع خطوات من حتفها وقد تعمدوا إخفاء موعد إعدامها عن الإعلام وتواطأت معهم وكالات الأنباء الاستعمارية لكن إرادة الشعوب كانت هى الأقوى والأبقى فوق إرادة الظلم والاستعمار.. ولم يتم إعدام جميلة بوحريد، كما حكمت المحكمة الظالمة.. ولكن عدل إلى السجن مدى الحياة..
وعلى الصعيد السياسى وبعد خسائر بشرية باهظة للجانبين تم فى مايو ١٩٦٢ توقيع اتفاقيات إيفيان وإعلان استقلال الجزائر.. ومع تقدم سير المفاوضات بإطلاق سراح الأسرى الجزائريين تدريجيًا.. وعندما أطلق سراح جميلة تزوجت بعد أشهر من محاميها..
بعد الاستقلال تولت جميلة رئاسة إتحاد المرأة الجزائرى لكنها اضطرت للنضال فى سبيل كل قرار وإجراء تتخذه بسبب خلافها مع الرئيس آنذاك أحمد بن بله.. وقبل مرور عامين قررت أنها لم تعد قادرة على احتمال المزيد.. فاستقالت وأخلت الساحة السياسية.. وهى لا تزال تعيش فى العاصمة الفرنسية حتى الآن متوارية عن الأنظار.. لكن المرات القليلة التى ظهرت فيها أمام الناس أثبتت أن العالم مازال يعتبرها رمزًا للتحرر الوطنى..