رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الحلقة التاسعة قصة ١٨٠ يومًا خلف خطوط العدو «العثور على المجموعة التائهة وعودة الأمل»

22-3-2017 | 12:14


بقلم – لواء. نصر سالم

فى الحلقات السابقة تعرضت لأحداث مثيرة بدأت فى تلك الليلة التى سبقت الحرب قبل الدفع إلى عمق العدو خلف خطوطه، حيث اجتمعنا أنا وباقى ضباط سريتى فى خيمة معزولة فى الصحراء «فى منطقة الانتشار»، وبينما نحن نجهز أنفسنا ومجموعاتنا للدفع خلف خطوط العدو، أخذ الملازم فيصل يداعب زملاءه الضباط ببعض العبارات الساخرة فأعاتبه فى حدة بألا يردد مثل هذه الكلمات «أى الوقوع فى الأسر» فيرد علىّ ضاحكًا مالك أنت بنا إنك سوف تترقى استثنائيًا وتنال نجمة الشرف العسكرية، وهذا النقيب عبدالهادى يحادث خطيبته فى التليفون بعد فترة من الخصام بينهما بعبارات يملؤها الحب والشوق، لكنه ينهى المكالمة بقوله «مع السلامة ربما لا نرى بعضنا مرة أخرى» فينهال عليه زملاؤه باللوم على هذه النهاية الكئيبة، فيرد بعفويته المعهودة، والله لا أعلم كيف نطقتها.

وأعجب ما فى ذلك أن يحدث لكل واحد منا فى الحرب كل ما ذكرناه فى تلك الليلة فيقع فيصل فى الأسر وأنال النجمة العسكرية والترقية، ويفوز عبدالهادى بالشهادة، بعد أحداث عظيمة بدأت يوم السادس من أكتوبر ١٩٧٣ التى بدأنها بمسيرة حوالى ستين كيلو مترا فى ليلة لنصل إلى منطقة العمل فنفاجأ بمواقف غاية فى الخطورة والتعقيد، وبعد التغلب عليها نرسل أول بلاغ ليقادتنا عن العدو الذى اكتشفناه وكان لواء مدرع إسرائيلى، كان يستعد للتحرك إلى جبهة القتال فتقوم قواتنا الجوية بتدمير عدد كبير من دباباته وتمنعه من التحرك فى تلك الليلة.

ويعاود الكرة فى اليوم التالى بعد استعواض الدبابات التى دمرت، وبينما هو يستعد للتحرك، يلاحظ نصر قيام الدبابات بالاندفاع ونزول الحفر والاصطدام ببعضها البعض وانفجار البعض منها وهى تحاول الهرب من الطائرات القادمة لمهاجمتها، ويكتشف نصر بعد ذلك أن هذه الطائرات التى أرعبتهم إسرائيلية وليست مصرية.

تمر الأيام والمجموعة مستمرة فى استطلاع العدو والإبلاغ عنه، وطائراتنا تقوم بالتعامل معه وتدميره أولًا بأول على مسافة أكثر من مائة كيلو متر شرق القناة.

بينما أفراد المجموعة نصر والجندى وعادل لا يطعمون أكثر من ٢٥٠ جراما من الطعام ومثلها من الماء يوميًا حتى انتهى ما معهم من طعام وماء بعد ما يزيد على عشرين يومًا.. فتأمرهم القيادة بالتوجه إلى بئر على مسافة سبعين كيلو مترًا. تقطعها المجموعة فى ثلاث ليال وسط العديد من المواقف الصعبة والمؤلمة من جوع وعطش وجفاف لألسنتهم فلا يستطيعون الكلام.. وبينما هم يتحملون كل ذلك على أمل الحصول على الماء فإذا بهم يصلون فى النهاية إلى البئر ويكتشفون استحالة اسخراج الماء منها.

ويحاولون إقناع القيادة بسرعة إرسال المياه والطعام لهم فتطلب منهم القيادة البحث عن إحدى المجموعات التى ضلت طريقها خارج الخريطة وإنقاذها لأنها تمر بظروف أصعب مما هم فيه، فنقوم بالبحث فى المنطقة المحيطة بنا لمدة يومين نصل إلى حالة من اليأس وتوقع الوقوع فى الأسر.

فنقرر تفجير ما معنا من قنابل فى أنفسنا وفى العدو فى حالة وصوله إلينا. ولكن الله يقدر لنا معرفة مكان المجموعة التائهة.. ونبدأ مرحلة أخرى من الإرادة والتحدى

كانت الساعة الرابعة مساءً – أى قبل الغروب بساعتين – هى موعد تحقيق الاتصال مع القيادة، ففتحنا الجهاز اللاسلكى المعد لذلك من قبل ونادينا على المحطة الرئيسية ( القيادة ) وبعد إبلاغهم عن الموقف لدينا وطبيعة نشاط العدو فى المنطقة أرسلت إلينا القيادة إشارة مشفرة بتردد الجهاز اللاسلكى للمجموعة الضالة موضحين لنا أنه فى وضع الاستقبال الآن فى انتظار ندائنا عليهم وعلى الفور غيرنا تردد الجهاز إلى التردد الذى تنتظرنا عليه المجموعة الأخرى وناديت عليهم فجاء الرد على الفور، فسألت الملازم محمد قائد المجموعة أن يصف لى المكان الموجود فيه وهل يرى أى طرق قريبة منه فأجاب بنعم وأن هناك طريقا أسفلتيا يبعد عنه حوالى ٢: ٣ كم
وأن كثافة الحركة ضعيفة وأخذت أسأله بعض الأسئلة حتى تبين لى من وصفه لبعض العربات التى يشاهدها على الطريق وأشاهدها أنا قبله بوقت قصير أو العكس أنه بنسبة كبيرة موجود فوق هذا الجبل الصغير والواقع غرب الطريق الأسفلتى وهذا الجبل موقع على الخريطة على مساحة من ١٠:١٥ كم٢ وهكذا يصغرون اسمه إلى جبيل لأن جبال سيناء تصل مساحة بعضها إلى مئات الكيلو مترات المربعة ولتأكيد مكانه طلبت منه أن يأمر أحد رجاله بالصعود فوق قمة الجبيل والوقوف على خط السماء أى تلاقى الجبل مع السماء كى أتمكن من رؤيته وتأكيد وتحديد مكانه وفعلًا صعد أحد الأفراد فوق الجبيل وبدأت أطلب منه التحرك للأمام ثم الخلف ثم الجلوس والوقوف حتى تأكدت أنه هو المقصود فحددت مكانه على الخريطة ورصدت زاوية التحرك إليه وبعد أن حددت له زاوية قترابى إليه وأن ينتظرنى فى مكان ظاهر ليكون نقطة التقابل اعتبارًا
من آخر ضوء اليوم وقدرت المسافة بينه وبيننا بثلاثة كيلو مترات وأنهينا المكالمة على ذلك فى الوقت الذى كان المقدم صلاح شخصيًا على وضع الاستقبال معنا فى المحطة الرئيسية فبارك اتفاقنا وصدق لنا عليه.. حزمنا أمتعتنا ونحن جلوس على الأرض أو شبه رقود وأخذنا نخفى
أى آثار لوجودنا فى المكان وشرعت فى النهوض... فإذا بى أشعر كأن سكينا حادًا يمر فوق جلد بطنى من اليمن إلى اليسار أو العكس بأقصى سرعة فأصرخ من شدة الألم وأسقط على الأرض وينتبه إلى عادل والجندى رغم محاولتى أن أكتم الصرخة ويحاولان النهوض لمساعدتى فيلاقيان نفس ما لقيت ويتمدد ثلاثتا على الأرض نتساءل ما هذا الذى حدث لنا؟

ولم أجد تفسيرا لذلك إلا أن جلد البطن انكمش وانقبض من طول فترة خواء بطوننا من أى طعام وعندما حاولت الوقوف تم شده بطريقة مفاجئة وهو بحالة أقرب إلى الجفاف والانقباض فكان إحساسنا أنه يتمزق وغير قابل للتمدد مرة أخرى فأخذ كل منه يجرى عملية تدليك بكفه لعضلات بطنه وحاولنا فرد قامتنا فلم تكتمل لآخرها ولكننا بدأنا السير ونحن فى وضع الانحناء أقرب إلى المشى على الأربع فى اتجاه الجبيل وبعد انتهاء مسافة الثلاثة كيلو مترات التى قدرتها والصعود على قمة الجبيل كما خيل لنا اكتشفنا أن هذه القمة هى لإحدى السلاسل الجبلية المكون منها الجبيل وأن هناك واديا أمامنا يجب أن نهبط إليه ثم نصعد قمة السلسلة الثانية حيث تتواجد مجموعة محمد.. وبعد الجلوس والحصول على قدر من الراحة.. أخذت أحفز كل من عادل والجندى بأنه لا يتبقى إلا القليل وعلينا التحلى بالصبر والجلد حتى نصل إلى المجموعة الأخرى وننقذها قبل فوات الأوان، فيرد على بشىء من الحسرة والألم.

- من ينقذ من؟ إننا نحن الذين نحتاج إلى إنقاذ.

- لا تنسيا أنهم بلا ماء ولابد أن نسقيهم قبل أن يموتوا من العطش.

- أى ماء هذا؟ إن الموت عطشًا أفضل منه.

- لا داعى لليأس.. إن الله لن يضيعنا.

فنأخذ فى النزول إلى الوادى بجهد أقل، ثم نشحذ كل الهمم لصعود السلسلة الجبلية.. مقنعى أنفسنا أنهم خلفها مباشرة.. وبعد جهد جهيد صعدنا إلى القمة ومرة ثانية أصابنا الإحباط فلم يكن هناك أحد فوقها.. ولكننا بعد فترة استطعنا أن نميز ضوءا فى الاتجاه الذى نقصده وهو يعطى إشارة لنا.. ولكنه على السلسلة الثالثة التى يفصلنا عنها وادى لا يقل عرضه عن كيلومتر ثم مسافة رأسية أخرى للصعود إلى قمتها وبعد فترة من الراحة لالتقاط الأنفاس، هبطنا من فوق السلسلة الثانية وبصعوبة بالغة تحركنا قليلًا إلى منتصف الوادى.. فاستلقى عادل والجندى تحت إحدى الشجيرات. فاقدين أى شىء حتى الحياة. ويقولان لى.. اتركنا ها هنا.. وقبل أن تتحرك أطلق علينا رصاصتين كى لا نتعذب كثيرًا ولا يستفيد العدو منا لو وقعنا فى الأسر.. فأربت على رأسيهما بكل حب وأنا أقول لهما.. هل يستطيع أحدكما أن يفعلها.. وهل نموت كفارًا بعد كل الذى فعلناه.. وأترك كل أمتعتى معهما، حتى بندقيتى.. فلم أعد أقوى على حملها، فضلًا عن استخدامها.. وأبقيت معى البوصلة كى أستدل بها على الاتجاه، وزمزمية المياه التى تحتوى على ما يتبقى من ربعها بعد أن أفرغت فى فم كل منهما بعض القطرات منها.. وأصبحت كل مهمتى فى الحياة هى اللحاق بمجموعة محمد كى أسقى كل منهما شربة ماء قبل أن يفارق الحياة. ووعدتهما.. قائلًا “ لو وهبنا الله الحياة حتما سنلتقى إن شاء الله “ وأخذت فى تسلق الجزء المتبقى من الجبيل ( جبيل حسن ) حتى وصلت قرب منتهاه ولم يتبق بينى وبين الضوء إلا أمتار معدودة.. فسقطت فوق صخرة قريبة وتشبثت بها خوفا من السقوط فى جرف سحيق كان بجوار النقب ( الطريق ) الذى أسير عليه. رافعا يدى بزمزامية الماء نحو الضوء وأنا أنادى من يعطى هذه الإشارة الضوئية أن تعالى خذ الماء فلم أعد أستطيع الصعود ويهبط إلى شخص لا أتبين ملامحه.. وينادينى “ حضرة الضابط نصر “ ويضع وجهى بين كفيه ويحركهما - لإفاقتى – فأحسهما تكادان تهشمان عظام وجهى من فرط وهنى – وقوته – فأشعر بحالة من الاستغراب من قوته البدنية مقارنة بحالنا – هل هؤلاء الذين لا يجدون شرابا ولا ماء منذ أكثر من أسبوعين أو ثلاثة؟

- وأهتف فيه باستغراب: من أنت؟

- أنا الرقيب حلمى قائد ثان مجموعة الضابط محمد.

- وأين محمد وباقى المجموعة، خذ هذا الماء واشرب وأعطهم ليشربوا.

- نحن بخير والمجموعة أسفل الجبل فى مكان آمن ومعنا طعام وماء.. خذ هذه بطيخة.. كلها لترد بها رمقك.

• وأمسك ذلك الشىء الغريب الذى لا يزيد حجمه عن حجم البرتقالة وأنا أقول له: هذه ثمرة حنظل.. لا تأكلوها وإلا قتلتكم.

- يا افندم هذا بطيخ ونحن نأكل منه منذ عشرة أيام.

وأحاول كسر البطيخة فلم أقو على ذلك فأعيدها له فيضربها فى الصخرة
ويعطينيها قطعتين وأضع أول قطعة بطيخ فى فمى فأشعر بها تجرى فى دماء وجهى..
وأحس عيناى تبصران بعد أن كانت عليهما غشاوة – وأذناى أسمع فيهما صوت فرقعة بعد تناول القطعة الثانية.. لأجدنى أسمع صوت الريح حولى وكأنى كنت قبلها أصم ويسألنى حلمى
أين باقى المجموعة؟ فأعطيه البوصلة التى فى يدى وأقول له اضبطها على الزاوية العكسية وتحرك فى اتجاه الوادى سوف تجدهم بعد أقل من كيلو متر وأنا سأنتظركم هنا فى نفس المكان ويتحرك حلمى بعيدًا عنى.. فأناديه:

- خذ نصف البطيخة هذه وأطعمها لهما كى يستطيعا أن يتحركا.

- لقد أحضرت لكل واحد منهما بطيخة، أكمل أنت بطيختك بالهنا والشفا .

وأكمل تناول البطيخة فأجهز على الجزء الأحمر حتى آخره وقليلا ما كنت أفصل
بعد حبات اللبوأضعها على الصخرة التى أجلس عليها.. ثم أخذت أنحت الجزء
الأبيض من البطيخة تاركًا القشرة الخضراء الصلبة.. وبعد دقائق معدودة وجدتنى أجمع القشرة الخضراء التى تركتها، وآكلها عن آخرها.. ثم بعد دقائق أخرى أبحث عن كل حبة لب
أخرجتها وألقيتها بكل سعادة وأضعها فى فمى.. لقد عادت لنا الحياة وبعد فترة قاربت الساعة
أو يزيد – سمعت صوت اقتراب حلمى وعادل والجندى إنهم يتبادلون الحديث..
ووصلوا إلى لأعانقهم قائلًا “ ألم أقل لكما إن الله لن يضيعنا “ وصعدنا معًا ما تبقى من الجبيل.. لنبصر على الناحية الأخرى منه وفى واد سحيق أسفله، نارًا مشتعلة وحولها عدد من الأفراد.. يخبرنى حلمى أنهم باقى المجموعة ومعهم أحد البدو الذين التقوه منذ عشرة أيام فى أحد حقول البطيخ الموجود فى الوادى. ويقوم بإحضار الطعام والماء لهم وطمأننى أن العدو لا تشغله
مثل هذه النار لأن جميع البدو يفعلون ذلك فى كل مكان.

وهبطنا جميعًا على الدرب المؤدى إلى حيث النار المشتعلة ونحن نسابق الريح من فرط الفرحة واستعادة الأمل.. وبالأحضان استقبلنا الضابط محمد ومعه فرد الإشارة بمجموعته – عبدالسلام، وذلك الأعرابى الكريم / سليم، الذى أخذ يعد لنا الطعام – فيخرج بعضًا من الدقيق ويعجنه بالماء ويضعه فى النار ليصنع لنا ذلك الخبز المسمى ( قرص الملا ) ثم يشوى بعض ثمرات
البطيخ فى هذه النار وبعد إنضاجها يضعها فى حلة من الألومنيوم قد أنضج فيها بصلا وصلصة. ويقدم لنا طبقًا أشبه بالمسقعة ولكنه من البطيخ. ونلتهمه قبل أن يرفعه من فوق النار فما أحسب أنى تناولت فى حياتى طعامًا أشهى من ذلك، لا أنا ولا كل من معى

وإلى اللقاء فى الحلقة القادمة