بقلم – السيد عبد الفتاح
لا يغير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أساليبه، فهو يعتبرها «وصفة مجربة وناجحة» يلجأ إليها دائماً ليحقق من خلالها أهدافه الشخصية وأحلامه العبثية. هذا هو ما يفسر حملات التصعيد المدروسة والمخططة التي يشنها أردوغان ضد الدول الأوربية بداية من ألمانيا ثم هولندا والحبل على الجرار لضم مزيد من الدول الأوربية إلى مرمى أهداف أردوغان.
يخطئ من يعتقد أن التصعيد الأخير والمتواصل بين أنقرة أردوغان والعواصم الأوربية، يعود إلى «وطنية جارفة» من جانب أردوغان، أو حرص منه على هيبة وكرامة بلاده، فهذا أمر لا يحتل مساحة تذكر في تفكير الرئيس التركي الحالم بـ»ثوب السلطان». والأدلة والشواهد على ذلك كثيرة نكتفي منها بأزمته مع إسرائيل التي «أهانت» تركيا والأتراك في حادثة السفينة «مرمرة» والتي استغلها أردوغان في التصعيد وادعاء البطولة وظل يرعد ويزمجر ويجلجل في دغدغة مشاعر المواطنين الأتراك والمسلمين البؤساء، لكنه في النهاية تراجع صاغرا وأحنى رأسه للتصالح مع إسرائيل مقابل «الدولارات».
إن قراءة بسيطة للمعركة التي افتعلها أردوغان مع أوربا، تؤكد أنه يواصل تكرار نفس تكتيكاته وأساليبه المعروفة كلما اقترب من تحقيق هدف من أهدافه، فنحن على أعتاب استفتاء تاريخي تشهده تركيا على تغيير نظام الحكم إلى الرئاسي بدلا من البرلماني، وذلك منتصف شهر أبريل المقبل. وبالتالي فإن أردوغان أشعل هذه المعركة وسيظل ينفخ ويسكب فيها مزيداً من البنزين لتزداد اشتعالاً وعينه على يوم الاستفتاء الذي يأمل أن يحقق به واحدا من أهم أحلامه، وأعتقد أن حظوظه في تحقيقه كبيرة.
الحفلة التنكرية الأوربية
في الساعات الأخيرة ـ قبل صدور المجلة ـ واصل أردوغان قصف أوربا في تصريحاته، وجدد اتهاماته للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بـ»ممارسة النازية»، زاعمًا أن الدول الأوربية حاولت تشويه صورة تركيا بادعاءات «التجسس»على أراضيها.
وعلَّق أردوغان على الأزمة السياسية المتصاعدة بين بلاده وألمانيا وهولندا خلال خطاب تليفزيوني قائلًا: «إن الحفلة التنكرية الأوربية انتهت، فعندما نصفهم بالنازيين ينزعجون، ويتضامنون مع بعضهم البعض وخصوصًا ميركل، أنت أيضًا تتبعين ممارسات نازية الآن».
واتهم أردوغان الدول الأوربية بدعم الإرهاب ومساندة الإرهابيين، قائلًا: «هذا هو الحال في دول الاتحاد الأوربي في الأيام الأخيرة. ظهر أن صفحة جديدة فتحت في مواجهة بلادنا. لقد كشفت الأقنعة عن هؤلاء الذين يحاولون إضعافنا من خلال عملاء اشتروا ضمائرهم بدولارٍ واحدٍ، وتنظيماتهم الإرهابية التي يدعمونها. لقد انتهت الحفلة التنكرية».
وهدد أردوغان بفرض المزيد من الإجراءات التصعيدية ضد هولندا، قائلًا: «هناك من يرفضون دخول جريدة «ديلي صباح»التركية إلى البرلمان الأوربي. ويقدمون مذكرة بذلك. هم يرفضون مشاركة صحيفة وطنية محلية تركية، ونحن أيضًا سنفعل مثلما يفعلون. سترون ذلك بأعينكم».
وأشار أردوغان إلى أن السلطات الهولندية تهدد بتقليل عدد الجالية التركية على أراضيها، قائلًا: «أقول لإخوتي المقيمين في هولندا. إني أقول في تركيا للمواطنين «أنجبوا ثلاثة أطفال»، لكن أقول لكم «أنجبوا خمسة أطفال». بالتأكيد لقد انزعجوا من ذلك».
الدنمارك تنضم إلى القائمة
انضمت الدنمارك إلى جانب الدول الأوربية التي تشهد تصعيداً تجاه تركيا، حيث استدعى وزير الخارجية الدنماركية، للاحتجاج على أنشطته الاستخباراتية على أراضيها. وليؤكِّد له على أن خطوة إرسال شكاوى للمسئولين في الحكومة التركية ضد المواطنين الدنماركيين من الأصول التركية، لانتقادهم أردوغان، لا يمكن الموافقة عليها بأي حالٍ من الأحوال. وطلب الوزير من السفير التركي إيضاح المعلومات التي وصلت إليه حول نقله معلومات عن المواطنين الأتراك الحاصلين على الجنسية الدنماركية وإرسالها للحكومة التركية في أنقرة.
خناجر أردوغان في ظهر أوربا
لم يخطئ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عندما علق على إسقاط تركيا للطائرة المقاتلة الروسية قبل شهور، ووصفها بأنها «طعنة غدر في الظهر». فهذا هو دأب أردوغان في التعامل مع حلفائه. ولعل هذا هو ما يقلق العواصم الأوربية، خاصة مع حرص أردوغان على ترديد تصريحات تكشف عن نواياه الخبيثة نحو أوربا حسبما يرى قادتها. ومنها التهديد بإغراق أوربا بأمواج من اللاجئين. وكذلك ممارسات سفرائه وسياسييه في بعض الدول الأوربية والتي تنطوي على أنشطة مخابراتية، واستغلال المواطنين الأوربيين من أصول تركية في الضغط على الأنظمة الأوربية وتصدير المشاكل لها، في محاولة منه لدفع هذه الدول إلى مزيد من التراجع والمرونة مع أردوغان وطلباته.
كما أن أردوغان دأب على تأجيج المشاعر القومية والنزعات العصبية لدى الأتراك سواء في تركيا نفسها أو هؤلاء الأتراك المنتشرين في الدول الأوربية، ودائماً ما يصور الأمور والمشكلات التي تنشب بينه وبين الدول الأوربية، على أنها تكشف خبث نوايا ومواقف أوربا تجاه الأمة التركية، وأنها تستهدف بمخططات خبيثة الإضرار بالأمة التركية العريقة، وبعرقلة نهضة تركيا الحديثة. بل إنه لم يتردد في أن يصور الأمر وكأنه صراع ديني مذهبي بين» الهلال والصليب»، وأن أوربا المسيحية تحارب تركيا الإسلامية، وتواصل حروبها الصليبية ضد المسلمين وفي المقدمة منهم تركيا باعتبارها قائدة العالم الإسلامي كما يزعم أردوغان.
أوربا فهمت «ملاعيب أردوغان»
إن التحركات وردود الفعل الأوربية الأخيرة، كشفت أن أوربا وقادتها قد فهموا «ملاعيب أردوغان» ومخططاته على حقيقتها، وأن أوربا «فقدت الأمل تماماً» في أردوغان الذي كانت تنظر إليه في فترة من الفترات باعتباره «وجه مثالي» للسياسي والحاكم الإسلامي الديمقراطي، لكنها اكتشفت الحقيقة المرة مؤخراً.
وقد ذهب كثير من الخبراء والمتخصصين في الشئون التركية، ومنهم الدكتور محمد نور الدين، إلى أن توتر العلاقات الأخير بين الجانبين، يعود لإدراك أوربا أن تركيا أردوغان تنظر إلى الساحة الأوربية وكأنها ساحة تركية، وبالتالي تنظم اجتماعات ولقاءات ومهرجانات للمواطنين الأتراك المقيمين على أراضيها والمؤيدين لأردوغان ، كما لو أنها جزء من الأراضي التركية. ويحاول أردوغان تبرير هذا من خلال إيفاده مسئولين رسميين يتمتعون بالحصانة إلى هذه الدول، لكن هذا لم ينطل على القادة الأوربيين، خاصة وأن تنظيم هذه الفعاليات والخطابات في هذه المرحلة وفي ضوء الخطاب الديني والقومي المتطرف ـ حسب رؤية قادة أوربا ـ سوف يشجع التيارات المتطرفة في أوربا، كما سيخلق أسباباً للتوتر الاجتماعي داخل دول أوربية مثل ألمانيا وهولندا والدنمارك وغيرها. ويضاف ذلك إلى العلاقات المتوترة أصلاً بين تركيا والاتحاد الأوربي بسبب أوضاع الحريات وحقوق الإنسان وعلى رأسها المسألة الكردية في تركيا، وكذلك الخلاف بين الطرفين في النظر والموقف من الأزمة السورية .
أردوغان يراهن على القوميين الأتراك
يعود أردوغان مجدداً للعب على الوتر القومي لدى المواطنين الأتراك، ويدغدغ مشاعرهم القومية ويؤججها من خلال افتعال أزمات ومعارك وهمية ليس فقط على الصعيد الداخلي في تركيا وخاصة تجاه الأكراد، وإنما أيضاً على الصعيد الخارجي تجاه الدول الأوربية.
وكما فعل قبل الانتخابات البرلمانية في المرتين الأخيرتين، وعقب الانقلاب العسكري الفاشل، فإن أردوغان يراهن هذه المرة أيضاً على القوميين الأتراك المتطرفين ليحقق من خلالهم حلمه بتحويل النظام السياسي التركي إلى الرئاسي. وما يدفعه للمضي قدماً في هذا الطريق، هو ما حققه من نجاح في المرات الثلاث السابقة سواء في الانتخابات البرلمانية أو الانقلاب العسكري. ولهذا فإنه يطمح هذه المرة إلى الوصول لـ»عرش السلطان» من خلال هؤلاء القوميين المتطرفين .
لكن أردوغان هذه المرة يوجه نيران مدفعيته تجاه دول أوربا، ويفتعل معها معركة وهمية يواصل فيها تصريحاته اليومية واتهاماته لقادة أوربا، ليدفع المواطن التركي أكثر إلى التمسك بالقومية والاستجابة لدعوة أردوغان للنظام الرئاسي الذي يزعم أنه يحقق الأمن والاستقرار ويعيد تركيا قوية كما كانت، ويجعلها قادرة على الوقوف والصمود في مواجهة ما يزعم أنه مخططات أوربية لتركيع تركيا.
بل إن الرئيس التركي أردوغان بهذه المعركة الوهمية، يؤجج غضب القوميين الأوربيين المتطرفين، ما يجعلهم يردون عليه بما يمثل ضغطا على حكوماتهم، وهو ما قد يشهد مصادمات أو إجراءات ضد تركيا والمواطنين الأتراك، لاشك سوف يستغلها أردوغان خير استغلال.
فهو إذن يصطاد في مياه اليمين القومي في تركيا وأوربا، ويعزف على وتر القومية، وكلما ازدادت ردود الفعل من جانب الدول الأوربية رسميا وشعبياً استفاد أردوغان أكثر وأكثر.
وفي هذا الإطار فإن أردوغان سوف يستفيد كثيراً من التظاهرات العديدة التي ينظمها عشرات آلاف من الأكراد المقيمين في ألمانيا، ضد ممارسات أردوغان وضد الاستفتاء المقرر تنظيمه منتصف الشهر القادم. ومنها تظاهر نحو ٣٠ ألف كردي في مدينة فرانكفورت الألمانية مؤخراً، احتجاجاً على الممارسات التركية تجاه أكراد تركيا، وعلى الاستفتاء المنتظر. وهو ما سارعت الرئاسة التركية إلى استغلاله ليخرج إبراهيم كالين، المتحدث باسم الرئاسة ويصرح قائلاً:»ندين السلطات الألمانية بشدة لسماحها بتظاهرات أنصار حزب العمال الكردستاني الإرهابي، إن ألمانيا تعامل الإرهابيين كناشطين شرعيين في الوقت الذي تصف اجتماع ساسة أتراك بمواطنين في ألمانيا بأنه خطير «. في إشارة إلى عدم السماح لسياسيين أتراك بعقد تجمعات في المدن الألمانية للترويج للاستفتاء.
طلاق أوربي تركي
إن التصعيد الأخير كما يشير إلى أنه نتاج رصيد كبير من التناقضات بين أوربا وتركيا أردوغان، وأنه لم يعد في وسع أوربا «تحمل» تركيا في ظل نظام أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، وفشل سياساتها في احتواء أردوغان وتطويعه. فإنه من جانب آخر يشير إلى أن الشرخ يزداد في جدار العلاقات التاريخية بين أنقرة والعواصم الأوربية، وأن المرحلة القادمة لن تحمل إلا التصادمات واتساع الهوة بين الجانبين اللذين سيتخذ كل واحد منهما طرفاً معاكساً للآخر. وبالتالي فإن الأمور مرشحة لمزيد من التصعيد والتوتر بين الطرفين.