فى إطار تصعيد المواقف مع القاهرة إيقاف استيراد السودان للمنتجات الزراعية المصرية
بقلم – أ.د نادر نور الدين
على الرغم من حرص مصر البالغ على الحفاظ على العلاقات المصرية السودانية، إلا أن السودان الشقيق وخلال السنوات الثلاث الماضية يعمل على تصعيد المواقف مع مصر بلا مبرر منذ تأييده المطلق لإثيوبيا فى بناء سد النهضة وتبنيه للمواقف الإثيوبية كاملة، ثم إثارته لموضوع تبعية مثلث حلايب وشلاتين من وقت للآخر خاصة عندما تبدأ إثيوبيا فى كسر أصول الاتفاقيات بشأن سد النهضة والتعاون مع المكاتب الثقافية أو تبدأ فى التخزين دون الرجوع إلى شركائها فى النهر، فيقوم السودان بالواجب اللازم نحو أخذ مصر بعيدا عن الموضوع.
آخر المشاكل التى يتعمد السودان إثارتها حاليا الإعلان عن حظر استيراد الخضروات والفاكهة من مصر والتى أتبعها بقرار حظر جديد للمعلبات والأغذية المحفوظة. ففى خطاب الرئيس السيسى الشهر الماضى أخبرنا الرئيس بأنه سأل الرئيس السودانى عن أسباب إيقاف السودان لاستيراد الخضروات والفاكهة من مصر، فرد البشير بأن السبب هو ما يكتب ويتردد فى وسائل الإعلام المصرية عن استخدام مياه الصرف الصحى فى الرى فى مصر وبما يعنى أن الرئيس السودانى ليس لديه أسبابا علمية ومعملية مقنعة لإيقاف استيراد الغذاء من مصر ولا توجد دولة فى العالم تأخذ مثل هذا القرار الخطير دون تحاليل معملية موثقة تخطر بها الطرف الآخر، وتوضح نوع الميكروب الملوث ومصدره والسلعة التى وجدت فيه، أو تطلب فيه من مصر إيضاحات حول ما يثار فى وسائل الإعلام المصرية عن سلامة الغذاء فى مصر، خاصة أن مصر تصدر منتجاتها الزراعية لجميع دول الاتحاد الأوروبى المعروف عنها التشدد الكامل فى الكشف عن سلامة الغذاء، بالإضافة إلى التصدير إلى اليابان وكوريا وروسيا والصين والهند وجميع دول الخليج، ولكن الأمر يبدو عند الأشقاء فى السودان بلا مرجعية علمية ويسير فى اتجاه نفهمه جيدا فى مصر.
السبب فى إثارة السودان لموضوع حظر الخضروات والفاكهة من مصر يعود إلى تفشى مرض الكوليرا فى السودان الشقيق، وأطلقوا عليه تحايلا (الإسهال الزائد) خلال الشهرين الماضيين ولم تجد الحكومة السودانية مبررا لمخاطبة الشعب السودانى إلا بالادعاء بأن سبب المرض جاء من الخارج وليس نتيجة لتقصير من الحكومة السودانية ولم يجدوا إلا مصر ليحملوها السبب دون بينة ولا علم وبادعاء الرئيس السودانى وجهاز الإعلام بأن السبب يعود إلى الخضروات المصرية المستوردة والتى تروى بمياه غير نقية وهذا غير صحيح جملة وتفصيلا. فكل أهالينا فى السودان وطبقا لتقرير منظمة الأغذية والزراعة الصادر فى عام ٢٠١٤ فإن مصر تستخدم نحو ٥٧ مليار متر مكعب من مياه النيل فى الزراعة بنسبة ١٠٣٪ من حصتها من مياه النيل وتعتمد فى تدبير احتياجات الصناعة والمنازل على المياه الجوفية ومياه الصرف الزراعى المعالج، فكيف يكون الادعاء بأن مصر تروى أراضيها بمياه الصرف الصحى وهى التى تستهلك كامل حصتها من مياه النيل وأكثر فى الرى؟! وأن الزراعة تستهلك وحدها ٨٥٪ من إجمالى موارد مصر المائية سواء السطحية أو الجوفية أو المعالجة؟!
ولإيضاح الفارق بين الدول التى تعمل فى إطار علمى ومؤسسى مقنع ومحترم وبين الدول التى تأخذ قرارات بخلفية سياسية لإثارة المشكل حتى مع أقرب الأقربين لها، فقد احترمت مصر قرار المملكة العربية السعودية فى الشهر الماضى حين رفضت استلام شحنة من الفلفل الأخضر وأرفقت معها تقريرا علميا معمليا يشير إلى تجاوز نسبة متبقيات المبيدات فى الشحنة، وبدأنا فعلا فى مراجعة دقة وكفاءة أجهزة القياس فى معمل متبقيات المبيدات بوزارة الزراعة المصرية والاتجاه إلى تحديثها بشكل عاجل، بالإضافة إلى مراجعة النتائج والتحاليل أكثر من مرة للحفاظ على سمعة مصر ومنتجاتها فى الخارج، ولمقارنة هذا الأمر مع القرار السياسى السودانى فنجد أن السودان أوقف استيراد الغذاء والمعلبات من مصر دون تقديم تقرير علمى معملى موثق بنوع التلوث والميكروب المسبب للتلوث والسلعة التى تواجد بها، ومبلغ علمنا كأهل تخصص فى سلامة الغذاء وأصول تصدير المنتج الغذائى الطازج والمعلب أن الكوليرا والإسهال الزائد والنزلات المعوية تنتشر بسبب تلوث مياه الشرب بشكل أساسى ثم تلوث الخضروات الطازجة غير المطبوخة بشكل ثانوى، وأنها ميكروبات ضعيفة يتم التخلص منها بسهولة أثناء عملية غسيل وتطهير منتجات التصدير وأن الأجهزة المصرية تستخدم أحدث المنظفات والمعقمات الخاصة بغسيل وتعقيم المنتجات قبل تعبئتها وتصديرها، كما أن المعلبات تخضع لكشف يومى وعينات تحلل دوريا للتأكد من سلامة الغذاء واستحالة التلوث وذلك قبل خروجها من المصانع.
تستطيع مصر التصعيد الدولى ضد السودان الشقيق لو رغبت وطلب تعويضات كبيرة واتهام السودان بتعمد الإساءة إلى المنتجات المصرية بدون دليل علمى والنشر فى وسائل الإعلام السودانية بتلوث المنتجات المصرية وتأليب الشعب السودانى ضد مصر ومحاولة فصلهم عن جذورهم سواء لأسباب سياسية لنزاع على تبعية أراض أو بسبب التأييد المطلق لإثيوبيا والتى لا تعترف من الأصل بوجود السودان، وتعتقد عن يقين بأن حدودها تمتد حتى مدينة الخرطوم بل وتمتد شمالا حتى التقاء نهر عطبرة القادم من إثيوبيا مع النيل الموحد شمال الخرطوم بنحو ٣٣٠ كيلومترا بالقرب من الحدود المصرية، وأن حدود مصر تبدأ بعد ذلك وبالتالى فأطماع إثيوبيا فى ولايات النيل الأزرق وكسلا والخرطوم وعطبرة واضحة وجلية وغير منكورة وأنها تعمل دوما لكى يكون لديها حدود تماس مع مصر وراجعوا تاريخ الصراعات المصرية الإثيوبية فى عهد محمد على من ١٨٠٥ وحتى ١٨٤٥ ثم بعد ولاية الإنجليز على مصر والسودان لتعودوا إلى الجذور المصرية التى أسست لدولة السودان وأخضعت مملكتى كردفان ودارفور المستقلتين طوال مائتى عام على الأقل للسودان، ثم ما قامت به مصر من تأسيس وإنشاء شبكات الترع وتأسيس مشروعى الجزيرة وخشم القربة وقيام مصر وبريطانيا أثناء الحكم المزدوج للسودان بإدخال زراعات القطن إلى السودان، والتى لم تكن تعرفها من قبل ثم حرص مصر على تعيين كبير خبراء الرى وإقامته الكاملة فى السودان، وكانت مصر حريصة دوما على وجود دولة السودان وحمايتها من الأطماع الإثيوبية ولن تنسى إثيوبيا لمصر هذا الأمر وكثيرا ماطلبت من الولاة فى مصر رفع أيديهم عن السودان حتى يكون لقمة سائغة للأطماع الإثيوبية والتى بدأت بضم مثلث أوجادين الصومالى أثناء الاحتلال الفرنسى للصومال مقابل السماح للفرنسيين بعبور الأراضى الإثيوبية والصول إلى منابع النيل الأبيض لمحاربة الإنجليز هناك والاستيلاء على دول منابع النيل الأبيض، ثم انتزاع منطقة بنى شنجول من المحتل الإنجليزى لمصر والسودان مقابل عدم بناء إثيوبيا لأى سدود على أنهارها الثلاثة التى تغذى نهر النيل، عطبرة والنيل الأزرق والسوبات وفى نفس الوقت مساعدة الإنجليز على طرد الفرنسيين وعدم استخدامهم للأراضى الإثيوبية للهجوم على القوات الإنجليزية، فدائما إثيوبيا تأخذ ثمن كل شىء ومقدما ولا نتمنى للسودان الشقيق أن يدفع هذا الثمن للتقارب مع دولة لا تخفى أطماعها فى السودان وأراضيه وموارده، ومن لا يتعلم من التاريخ يدفع الثمن غاليا.
جذور السودان مع مصر ومع الأزهر ومع مدرسة الرى والزراعة المصرية ومع من لا يطلبون ثمنا للدفاع عن جيرانهم وأشقائهم وإياكم وتغيير جلدكم أو انتزاع جذوركم.