ننشر كلمة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب رئيس مجلس حكماء المسلمين، في الحفل الذي أقامته جامعة بولونيا الإيطالية، أقدم جامعات أوروبا، اليوم
بســـم الله الرحمــن الرحيــم
ــــــــــــ
السيد البروفسور فرانشيسكو أوبِرتِينِي رئيس جامعة بولونيا
السيد البروفسور ألبيرتو مِيلُّوني رئيس مؤسسة البحوث الدينية في بولونيا
إخواني وزملائي عمداء الكليات وأساتذة الجامعة
بناتي وأبنائي الطالبات والطلبة
الســـلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛
وبعد:
لقد تلَّقيتُ دعوةَ جامعتِكُم العريقة –لتكريمي- بكلِّ إعزازٍ واحترامٍ؛ وكان لها في نفسي تقدير خاص دون سائر الدَّعَوات التي أتلقَّاها من مختلفِ الهيئات والمؤسَّسات الدِّينيَّة والسياسية والاجتماعية، فدعوتكم دعوةٌ جامعية علمية، وأنا رجل جامعي منذ سبعينات القرن الماضي، أي منذ نصف قرن تقريبا، ولا يزال شعوري حتى هذه اللحظة دافقا بأني خُلِقت للعلم والتَّعلُّم والتعليم، ورغم أن المقادير انتزعتني انتزاعًا من قاعات البحث والدرس والنقاش والمناظرة، إلَّا أنَّني دائم الحنين إلى هذا الفضاء المتعالي المقدس، المفعَمِ بعبير المعرفة والحكمة، وعندما تلقيت دعوتكم الكريمة سارعت إلى تلبيتها، لأنه يسعدني حقًا ويمس شغاف قلبي أن ألتقي بكم أيها السادة العلماء والشباب الباحثون وطلاب العلم، في رحاب هذا الصرح العلمي العتيق، وأن أتنسم عطر البحث العلمي في أجوائكم، وأرى الشوق إلى المعرفة في عيونكم، حتى إني لأغبطكم - عَلِم الله - لما أنتم فيه، ويزداد حنيني إلى أيام التبتل في محراب العلم، والتنقل في أروقة الجامعة، والتمتع بتذوق نص تراثي، أو باكتشاف فكرةٍ جديدة، أو بتوجيه باحثٍ شابٍّ إلى أقرَبِ الطرق إلى بغيته المنشودة.
يعرف شعوري هذا جيدا، مَن اتخذ مهنة التعليم رسالة حياة عن قصد واختيار، وهي رسالة الأنبياء من قبل، كما قال نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت مُعلِّمًا"، ومَن ذاق حلاوة اكتشاف الحقيقة بعدَ عَناءِ البحث وطُول التأمل وصدق الطلب؛ وقد كان شيخنا محمد الغزالي - رحمه الله - كثيرًا ما يردد: "سُئِلَ حكيم: ما السعادة؟ فقال: هي في حجة تتبختر اتضاحًا، وشبهة تتضاءل افتضاحا".
ولا أكتمكم سرا إذا ما قلت لكم أن أسعد الأوقات عندي هي الجلوس الهادئ إلى صفحات كتابٍ، يُعبِّر ذلك بيت شاعر العربية أبي الطيب المتنبي- رحمه الله -:
أعزُّ مكانٍ في الدُّنا سرجُ سابحٍ * وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ
إن المعرفة هي أعز ما يطلب، وهى أول واجب على العقلاء، وهى تراث الأنبياء، كما قال نبي الإسلام: ((إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ))؛ وهي طريق المؤمن إلى الجنة، وقد أوجبها نبي الإسلام على أتباعه رجالا ونساء وأمرهم بطلبه حتى لو كان العلم في أقصى الأرض، قال: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ)).
أيها السادة الفضلاء:
فمنذُ ألف عام - بل تزيد - قامت في مصر، البلد الوحيد الذي يمتدُّ في فضاء القارَّتين العريقتين: آسيا وإفريقيا، منارةٌ سامقةٌ، تبعث بأضواء المعرفة والعلم إلى أطراف العالَم كلِّه... إنَّه الأزهر الشريف الذي بفضله أقفُ يبينكُم اليوم، والذي أعدُّ هذا التكريم المقدور والمشكور، من جامعتكم التي يقترب عمرها كثيرا من عمر الأزهر الشريف، هذا التكريم موجه في الحقيقة إلى الأزهر وإلى كل من تخرج منه على مدى ألفيته من علماء وأساتذة وطلاب، حتى وإن كان تكريم جامعتكم في ظاهر الأمر موجها إلى أحد رجاله الخادمين للعلم والعلماء فيه.
ليس الأزهر أيها السادة – كما تعلمون – مجرَّد معهد عريق أو جامعة عالميَّة، ربّما كانت هي الأقدم في تاريخ الإنسانية من حيث تواصل عطائها دون توقف، منذ إنشائه حتى يوم الناس هذا. بل هو في جوهرِه منهج علمي، وخطابٌ فكريٌّ متمَيِّز، ورسالة سلام عالمي طريقها الحوار والتفاهم.
فالأزهر الشريف يحملُ مسؤوليَّة الجانب العِلميِّ والدعويِّ من رسالة الإسلام، خاتمة الرسالات الإلهية إلى البشر كافَّة، رسالة السّلام العالمي والمساواة والعدالة والكرامة الإنسانيَّة، والتحرُّر من الآصار والقيود التي تُثقِل كاهلَ البَشر، وتُؤمن بكلِّ ما أرسَلَ اللهُ من رسولٍ، وما أنزَلَ الله من كتاب؛ {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
وعلى مَدَى القُرون سلك الأزهر منهجا مقارَنا، يقوم على الفهم العميق للثقافة الإسلامية في أطوارها المختلفة، ومَنابع الثقافةِ الإنسانيَّةِ بوجهٍ عامٍّ، من الفلسفةِ الشرقيَّة والغربيَّة، والآدابِ القديمةِ والمعاصرةِ؛ ليُزوِّد - قَدْرَ الإمكانِ – طلابه بما يُعينُهم على فهم الماضي والحاضر والقُدرة على استشراف المستقبل، والإسهام في الفكر المتجدِّد على منهجٍ عِلمِيٍّة ثابتة.
ولئن سألتُموني عن السِّمة المميِّزة للمنهجِ الأزهري في الدّرس العلميٍّ فلَأقولَنَّ: إنَّه منهجُ متكامل يلبي مطالب المعرفة الدينية والدنيوية معا، ومن هنا تجاورت في رحاب جامعة الأزهر كليات الإلهيات والحكمة القديمة والفلسفة الحديثة، مع كليات العلوم التجريبة والطب والهندسة والزراعة وغيرها، وقد بلغ من عالميته أنه يستقبل اليوم أكثر من خمسة وثلاثين ألف طالب وطالبة من أكثر من مئة دولة من أنحاء العالم، يطلبون العلم في رحابه في منهج معتدل لا إفراط فيه ولا تفريط
وإنِّي لأشعُرُ باعتزاز بالغ بالعلم حين دخلت محراب جامعتكم هذه في قلب أوروبا، مستشعرا جلال الدور التاريخي الذي اضطلعت به جامعتكم ومثيلاتها في تعليم أهل هذه القارة، وقد أزعم أنني على إلمام بما قدمته هذه الصروح العلمية التاريخية عبر العصور من عطاء علمي وثقافي متنوع، فمن منا لا يعرف اليوم -جهود هذه المنطقة في خدمة الثقافة الإسلامية، ومن منا لا يعرف أن أول طبعة للقرآن الكريم في الدنيا كلها خرجت من هذا الرحاب التي تمثل جامعتكم أحد أركانها الأصيلة، ففي عام: 1537م قامت عائلة باغانيني بطباعة المصحف، وقد احتفظ لنا دير الفرانسيسكان بالبندقية بنسخة فريدة وحيدة في العالم.
وهل لنا أن ننسى جهود الأمير ليون كايتاني صاحب المشاريع الطموحة ومنها كتابه الفريد: حوليات الإسلام، وكذلك ميكال أماري وأبحاثه العميقة عن صقلية التي لازالت تحتفظ بقيمتها العلمية حتى يومنا هذا، كما لا ننسى إنْيَتْسيو جويدي ومحاضراته في الأدب العربي في الجامعة المصرية في 1908 – 1909م، وكذلك ابنه ميكلنجلو جويدي، وجوزيبي جَبريِيلي ومساهماته في تاريخ العلوم عند العرب، وتدريس الطلبة المصريين المبتعثين لدراسة الفنون في روما، وابنه فرانسيسكو جبرييلي الذي ترجم عيون الأدب العربي المعاصر إلى الإيطالية، وكارلو ألفونسو نلينو ومحاضراته أيضا في الجامعة المصرية في مطلع القرن العشرين في الآداب العربية وتاريخ علم الفلك، وكان عضوا في مجمع اللغة العربية في القاهرة، وتطول القائمة لو رحت أعدد لكم أسماء العلماء الإيطاليين الذين حرَصوا في القرن الماضي على إقامة جسور العلم بين هذا الثغر في جنوب أوروبا وبين مصر التي هي أول ثغر في شمال إفريقيا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته