رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


محمود حسن إسماعيل شاعر النهر الخالد

29-3-2017 | 13:21


محمد رضوان

يظل محمود حسن إسماعيل من أبرز رموز التجديد - شكلا ومضمونا - فى مسيرة الشعر العربى المعاصر منذ بدايته الساطعة عام 1933 بصدور ديوانه الأول “أغانى الكوخ” الذى كان صدوره يرمز إلى اختلاف التوجه والمسار عن توجه شعراء تلك الحقبة ليطلق صرخة جبارة إلى أفق شعرى مغاير يكون محوره الأرض والفلاح والقرية والمحراث والشادوف والنورج والساقية والغراب وصميم الحياة اليومية الواقعية، الغارقة فى شظف العيش والمعاناة الطاحنة، فى قلب صعيد مصر، ومن هذا المنطلق كانت أنشودته الرائعة عن “النهر الخالد” نهر النيل واهب الحياة وساقى الحب والأغانى، وهذا التوجه الشعرى الجديد لشاعر النهر الخالد جاء مكتسبا عالمه الشعرى الكامل من اللغة والصور الشعرية والمعجم الشعرى وبناء القصيدة والموسيقى الشعرية، وكان فرسان الشعر المجددين الثلاثة هم: على محمود طه،  وإبراهيم ناجى، ومحمود حسن إسماعيل، هم أبرز شعراء التجديد الذين اقتحموا عوالم جديدة وآفاقا أوسع فى مجالات الشعر الوجدانى: فى الوجدان العاطفي والقومى والإنسانى.

سبح علي محمود طه فى بحار الحب والبحث عن كنه الوجود وفلسفة الحياة وحلق ناجي في عالم الحب والعاطفة بعد أن عانى الحرمان طويلا، وحلق في الفضاء العاطفي والإنساني والكوني، وأصبحت لغته الشعرية دليلا موحيا على عظمة التفرد وسطوع التمايز وتحقق الهوية والشعرية، وأصبح شاعرا إنساني النزعة، لم تشغله ذات نرجسية أو اهتمامات عاطفية عابرة فكانت عصمته لشعره من وهم التجارب والمواقف الصغرى صدى لعصمته لنفسه ووجدانه وحياته من التدني أو مسايرة الآخر فأصبح شاعراً استثنائياً لم ينخرط في السياق العام، وشاعراً حقيقياً صاحب دور وموقف على حد تعبير صديقه الشاعر فاروق شوشة (1936-2016) .

ظل محمود حسن إسماعيل (1910 - 1977) على مدى رحلته الشعرية شاعر النور والأمل والوطنية الدافقة لمصر والعروبة، وظل يواكب أحداث مصر والعروبة بانتصاراتها وانكساراتها يتعلق بالأمل ويتغنى بدعاء الشرق بكلمات تفيض بالضياء والأمل والغد المأمول للشرق العربى.

ولد محمود حسن إسماعيل بقرية النخيلة بمحافظة أسيوط في الثانى من يوليو سنة 1910، وتلقى تعليمه الابتدائى والثانوى بين مدارس أسيوط والقاهرة. ثم لحق بكلية دار العلوم جامعة القاهرة وتخرج فيها سنة 1936 وقد اكتسب ثقافة واسعة وأتيح له من التجارب ما لم يتح لزملائه، فعمل أول ما عمل محررا بالمجمع اللغوى (1937) ولم يلبث أن انتقل مستشارا ثقافيا بالإذاعة المصرية (1947) وعمل فيها عدة سنوات، سافر بعدها في أواخر السبعينيات إلى الكويت بعد أن أحيل إلى التقاعد حيث عمل مدة سنتين أو ثلاث إلى أن توفى إلى رحمة الله بالكويت فى 25أبريل سنة 1977 فنقل جثمانه إلى مصر التى عشقها وطالما تغنى بها فى أشعاره حيث دفن فى ثراها، وكانت مصر فى وجدانه طوال فترة غربته عنها.

ومحمود حسن إسماعيل شاعر كبير متميز له لونه الشعرى الخاص به، وقد أثار شعره الكثير من الجدل فأشاد به بعض النقاد باعتباره شعرا ذا أبعاد عميقة، وهاجمه آخرون باعتباره شعراً غامضا بعيدا عن أرض الواقع، يجسد أخيلة مغرقة فى الرمزية.

وقد تشكل وجدان محمود حسن إسماعيل بكل صور الطبيعة الجميلة التى شاهدها فى قريته النخيلة، وبكل أحزان الفلاحين البسطاء ومعاناتهم، أولئك الذين نشأ بينهم وعاشرهم وتأثر بهم فتشرب كل هذه الصور التى عكسها فى شعره طوال حياته.

أشهر أعماله:

أصدر عدة دواوين، هى على التوالى: أغانى الكوخ، 1933 - هكذا أغنى، 1938- أين المفر، 1938 - نار وأصفاد، 1959 - قاب قوسين، 1964 - تائهون، 1965 - لا بد، 1966 - برزخ، 1969 - صلاة ورفض، 1970 - نهر الحقيقة، 1972.

وقد ترك محمود حسن إسماعيل عند رحيله أربعة دواوين مخطوطة هى: صوت من الله - رياح المغيب - ديوان الحب - موسيقى الجنائز.

وقد صدرت منذ بضع سنوات مجموعة أشعاره الكاملة.

وكان شعر محمود حسن إسماعيل موضوعا لعدة رسائل جامعية باعتباره لونا فريدا فى الشعر العربى المعاصر لواحد من أبرز شعراء التجديد.

تغنى بشعره كبار المطربين، ومن أشهر قصائده “النهر الخالد” التى شدا بها محمد عبدالوهاب، وأنشودة “يد الله” للمطربة نجاح سلام وأنشودة “ربى الفيحاء” لكوكب الشرق أم كلثوم التى أذيعت عند إعلان الوحدة المصرية السورية عام 1958، وقد تزوج محمود حسن إسماعيل عام 1944 من السيدة سارة كريمة الشاعر أحمد نسيم  بعد حصولها على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة بعام بعد تمسكها به وإصرارها على الزواج منه رغم اعتراض والدها لأنه كان يرغب فى أن تستكمل دراستها بكلية الطب لكنها اختارت كلية الحقوق لكونها أقرب إلى النزعة الأدبية لكى ترضى حبيبها وشاعرها المفضل محمود حسن إسماعيل.

وقد أنجبا أربعة أبناء: سلوان ولبنى، ومحمد الأمين وإسماعيل.

وتقول عنه ابنته الإذاعية الراحلة سلوان محمود: كان شيئا فريدا متميزا.. يضيف إلى حياتنا قيمة وفكرا ساميا، ولغة راقية اعتدنا عليها فى الحوار والمناقشة، فخلف فينا جميعا تميزا فى هذا المجال. كنا قبيلة صغيرة متفاوتة الاهتمامات والدراسات، مشتركة فى الحس الجميل المرتبط بحقيقة الفن وحب الشعر. كنت أنا الفنانة التشكيلية والإذاعية - ثم لبنى - ومحمد الأمين - وإسماعيل.

وتعترف السيدة سارة أحمد نسيم رفيقة حياته فى حوار صحفي لمجلة نصف الدنيا عام 2000 أنها رغم كونها أديبة وقد نشرت بعض المقالات فى المجلات الأدبية إلا أنها قد تنازلت عن هوايتها في الكتابة وعن المحاماة والعمل من أجل إرضائه “وللتفرغ لبيتى وأولادنا، وتضاءل مشروع الكتابة هو الآخر تدريجيا عندى لأن الحياة لا بد أن تسير، ولأننى كنت أعشق ذلك الرجل وأجند نفسى لأكون جواره”.

وقد تعددت أشكال القصيدة عند محمود حسن إسماعيل وتنوعت موسيقاها وتفعيلاتها، كما اتسعت موضوعات شعره لتشمل كافة أنماط الحياة من شعر وطني إلى حماسي إلى تأملي، إلى ديني، إلى صوفي، إلى وصفي إلى آخر ما يمكن أن يعالجه الشعر من الموضوعات القومية والإنسانية لكنه فى كل ما كتب كان شاعراً مجددا منذ أن أصدر ديوانه الأول “أغانى الكوخ” إلى أن اكتمل له فى المكتبة العربية أكثر من عشرة دواوين.

وهو في شعره له معجمه الشعري المتفرد الذي تغلب عليه مفردات الضوء والنور والفجر والضياء والشعاع وهو مثلا حين يخاطب ذاته يقول في قصيدته “في طريق الضياء”:

اتبعيني.. وانظري حولي أقداح الضياء

والربابات بكفى نشاوى بالغناء

وانفذى بالنور فى أخفى سراديب الخفاء

واصحبينى أنت سر النور يجرى فى دمائى

وكان محمود حسن إسماعيل دائما يخفق قلبه بحب مصر ويتجاوب مع أفراحها وأحزانها، وكانت قصائده تخرج مع الأحداث نبضا حيا صادرا عن أحاسيس صادقة ومشاعر متأججة بالحب والوفاء والفداء لمصر ولأمته العربية.

وعند نشوب العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 أطلق صيحته الهادرة “يد الله” التى رددتها الجماهير مع غناء المطربة اللبناينة المصرية نجاح سلام:

أنا النيل مقبرة الغزاة

أنا الشعب نارى تبيد الطغاة

أنا الموت في كل شبر إذا

عدوك يا مصر لاحت خطاه

يد الله في يدنا أجمعين

تصب الهلاك على المعتدين

فشقوا إليها جحيم الغناء

أسودا كواسر تحمى الدين

وهو حين يغنى لمصر، فإنما يعكس مشاعر الحب والعشق لمصر والتباهي بأمجادها وتاريخها العريق:

يا مصر، يا أنشودة الدنيا وأغنية الشعوب

يا كعبة الأحرار رن هتاف نصرك فى القلوب

يا مصر قد دوى النفير على ضفافك فاستجيبى

هبى كعاصفة الرياح وثورة البحر الغضوب

يا أم أبطال الفنون، وأم أبطال الحروب

يا أرغن التاريخ يا نغما من السحر المهيب

وهو حين يناجى نهر النيل، يمتزج وجدانه مع مياهه فى سيمفونية حب صوفية وعشق موصول لا ينتهى، تمتزج فيه أطياف الجمال والنغم والسحر والجمال وأسرار الليالى:

مسافر زاده الخيال

والسحر والعطر والظلال

ظمآن والكأس فى يديه

والحب والفن والجمال

شابت على أرضه الليالى

وضيعت عمرها الجبال

ولم يزل ينشد الديارا

ويسأل الليل والنهارا

والناس فى حبه سكارى

وهو مع عشقه لمصر لا ينسى أمته العربية، ففى مطالع عام 1954 يرى أن الشرق ينبض بثورة مصر عام 1952 بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر، ويتطلع إلى انتصاراتها، وأشواق الفجر الجديد تجيش فى قلب شعوبه الحرة متعطشة إلى وحدة الشعب العربى العريق، فينشد دعاء الشرق:

يا سماء الشرق طوفى بالضياء

وانشرى شمسك فى كل سماء

ذكريه.. واذكرى أيامه

بهدى الحق ونور الأنبياء

ثم يقول على لسان شعب العرب الواحد:

نحن شعب عربى واحد

ضمه فى حومة البعث طريق

الهدى والحق من أعلامه

وإباء الروح والعهد الوثيق

أذن الفجر على أيامنا

وسرى فوق روابيها الشروق

كل قيد حوله من دمنا

جذوة تدعو قلوب الشهداء

يا سماء الشرق طوفى بالضياء

وانشرى شمسك فى كل سماء

ومع فيض وطنياته وثورته اللافحة كان شاعراً عاطفياً يغنى للحب والجمال، وتغزل فى “الثوب الأحمر”، وأول من استخدم كلمة “فستان” فى الشعر العربى فى قصيدته “الفستان الأحمر” سنة 1933 قبل استخدام نزار قبانى فى قصيدته أيظن حين قال “حتى فساتيني التى أهملتها” يقول محمود حسن إسماعيل:

إن تكن ناراً، فما أشهى خلودى فى سعيرك

أو تكن ورداً ، فيا لهفة روحى لعبيرك

طرفك الهفهاف يبدى لوعة خلف ستورك

ولهت روحى فطارت ترتوى من فيض نورك

تتمنى لو تهادت موجة فوق غديرك

أو خيالا من هواها سابحاً طى ضميرك

ثم يناجى فستانها الأحمر هامسا:

ليت «يا فستان» لما لحت تزهو فى حريرك

كنت ذراً نابض الإحساس يجري في ضميرك

يلثم الحسن ويهوي فانيا بين عطورك

وفى سنواته الأخيرة اضطر بعد إحالته إلى المعاش للعمل خبيرا فى إدارة بحوث المناهج بوزارة التربية الكويتية ورحل فى الخامس والعشرين من أبريل 1977 بعيداً عن الوطن وصحبة الأهل والأصدقاء وعن النهر الخالد الذى أحبه وعشقه رحل وهو يهمس لنفسه بهذه الترانيم الصافية:

اتبعينى فى دروبى واحذرى أى هروب

فأنا أظمأ، وأسقيك من السر الرهيب

وأنا أسقى، وأشجيك بمزماري الغريب

وأنا أسرى، فأهديك إلى الشط الرحيب

وأنا أفنى، فأحييك بأنغامى وكوبى