رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


صورة المرأة في الخطاب الروائي في "مسامرة الموتى"

29-3-2017 | 13:28


علي أحمد عبده قاسم - كاتب يمني

خاض محمد الغربي عمران عالمه الروائي من بوابات التاريخ، واستطاع أن يرسم قضايا الإنسان وهمومه. فعند قراءة رواياته ستجد الإنسان والبحث عن الحلم، وتجد الحلم والاستبداد، ويواجهك التاريخ وهموم العصر، فضلا عن النضال والتضحية.

  إن روايات الغربي عمران عالم للإنسان من بوابات التاريخ المتصارع فكريا والمظلم فهي نوع من البحث عن الحلم، والحرية. واللافت أنه اتخذ التاريخ اليمني المنهل المتدفق الذي يستقي منه أحداث رواياته ويوظفها بشكل جديد بما يتناسب مع العصر، فكانت رائعته (مصحف أحمر) واتخذ من التاريخ المتعدد الفكر مصدرا لأحداثها، وتنقل بين صفحات التاريخ المترع فكرا ليوظفها بالأحداث العصرية بأسلوب مترابط البناء، ويحاول من خلال خطابه الروائي كسر التابو والمحرم وهتكه على طاولة الحوار الروائي. وجاءت بعدها رواية "ظلمة يائيل" والتي اتخذت من الطائفة الإسماعيلية واليهودية موضوعا للخطاب الروائي من حيث العنصر الفكري والاضطهاد السياسي والطمع السلطوي. وإذا كانت "ظلمة يائيل" هي الجزء الأول للرواية متخذة من شخصية جوذر خطابا روائيا كاشفا للأحداث التاريخية في القرن الخامس الهجري وعلاقته بيائيل "شوذب"، فإن رواية "مسامرة الموتى" هي الجزء الثاني من الرواية والذي يسرد من خلاله الدولة الصليحية والدعوة الإسماعيلية، ويعتبر بذلك أول روائي يمني يبدأ بكتابة ثلاثية كما أظن بحيث يرسم بالرواية ثلاثة أجيال بظروفها السياسية والاقتصادية والشخصية.

   وقبل الدخول في عالم الرواية يجب أن تقرأ العنوان "مسامرة الموتى". من الفعل "سمر" أي سهر الليل برفيق أو رفاق ويكون السمر مثيرا ومعدا سلفا ويكون ليلا وله هدف وفيه المثيرات والمشوقات الكثير، وقد يكون السمر سياسيا أو اجتماعيا أو عاطفيا أو دينيا فيختلف باختلاف الغاية منه. وجاء "السمر" "مسامرة" ليشير إلى أطراف تتفاعل، وأضاف المسامرة للموتى "مسامرة الموتى"، فالميت من انتهت منه أسباب الحياة، فهو بلا روح وبذلك أضاف الموت للحياة، فالحياة ميتة والإنسان ميت، سواء فكرا أو روحا، وبذلك كان "الموتى" ميتين رغم الحياة، إما باستلاب حياتهم أو حريتهم أو تفكيرهم أو أنهم غير بعيدين عن الموت في أي وقت، مما حول تلك المسامرة مثيرة ومتعددة الأحداث ومتشعبة في أحداث الرواية. وتبدأ أحداث الرواية باختطاف جوذر من سوق الوراقين بصنعاء من قبل اليامي "لم يترك للرفض مجالا فأخذني لذي جبلة... انعطف وسط ظلام بارد.. أغلق دوني الباب وانصرف". ويلحظ هنا عقلية السلطة من حيث إغلاق حوانيت الوراقين إلى القمع الفكري وأيضا الاهتمام بالفكر من خلال اختطاف الشخصية، فالخطاب الروائي منشغل بالحرية وعقلية المستبد من خلال التبجيل والسجون والقمع، وهذا كشف من خلال الخطاب إلى غياب العالم المتمدن والصراع المتسلط، لذلك تحولت شوذب من شخصية في الرواية إلى رمز للخلاص والحرية "قضيت نهاري أناجي شوذب أعاتبها". ولكي تكون حبكة الخطاب محكمة فإن "جوذر" يتحول إلى "صعفان" حين ترى السيدة ما يجيده من نقوش وخطوط ويصبح جوذر كاتب الملكة "إحداهن توصيني: أنصت في حضرة الملكة حتى لو طرحت عليك سؤالا لا تجب بينما حواسي تبحث عن شوذب… ارتفع صوت يتردد على مسمعي: أنتم في حضرة الملكة الحرة السيدة، السكوت والترقب. لفت نظري حركة مقعد، ثم ارتفعت كف بيضاء أصابعها الخواتم.. مرحبا بك اطلعت على ما خطته يداك ولذلك اصطفيتك كاتبا لنا، ستحظى برعايتنا وعليك إنجاز ما يصلك من رسائل ومخطوطات وما دمت في خدمتنا عليك نسيان ماضيك ونسيان من تكون حتى اسمك، حتى المشاعر والعواطف".

    هذا الحوار يحيل إلى أنظمة القصور والهيئة التي يجب أن يقابل فيها الملك أو الحاكم، وهذا حق الهيبة وحق المقام، وعلى الجانب الآخر فإن الخطاب الروائي يرسم صورة مستبدة للحاكم، فضلا عن التحول وكبرياء الخطاب من الأعلى للأدنى "ما دمت في خدمتنا عليك نسيان اسمك ومن تكون وماضيك وحتى المشاعر والعواطف"، إن هذا الخطاب يحول الحي إلى ميت بل يطمس الهوية والتاريخ بفعل المنصب ليشكل الخطاب مجموعة من الموتى الذين لا يمتلكون حتى ذواتهم، فما بالك بحريتهم، "يفتح الباب العلوي مرة أخرى، تهبط جوارٍ ثلاث، يسلمنني مخلاة بها مجموعة من الرقوت... يهبطن قبيل شروق الشمس يحملن ما أنجزته ويضعن ما يراد نسخه ومولاتي تريد ومولاتي تقول". يرسم الخطاب الروائي دلالة تدمير الروح والجسد والفكر وتسخير كل قدرات الجسد والروح إلى ما يخدم الاستبداد ويخدم الدعوة، بوصف أن الشخصية والذات سجينة وكل ما يحيط بك يثير الريبة.

    وإذا كانت شوذب تلك الفتاة التي هام بها جوذر ورحل باحثا شرقا وغربا وفي كل الجهات، فإن دخولها القصر ما هو إلا نهاية لذاتها وموت كل ما فيها واستلاب مشاعرها وكينونتها. ويسخر الخطاب الروائي من الوضع "فلا يوجد ما أعيشه حول جدران دار النسخ"، وهذا يعكس رؤية في ديمومة السجن حتى مشاعر الذات ويعكس تاريخا مترعا بالصراعات بالفكر ورحلة معاناة وعذابات التي تفضي إلى إمحاء الذات والذوبان في السلطة وتحول القصر إلى معتقل سياسي، ويخدم أيضا الطائفية. ولأن الخطاب الروائي السردي كانت المرأة محور الرؤية من يائيل شوذب فإنّ الرؤية ترصد أحداث التاريخ منذ أسماء بنت شهاب وولدها المكرم إلى الحرة السيدة أروى فإنه يتتبع الأنوثة ودورها التاريخي، فكان مرتكز قيام الدولة الصليحية في اليمن "برحيل السيدة أسماء حلت الحرة محلها لتسير على هدى وصاياها السرية، فهي من تملك النبوغ وخلعت عليها صفة الحرة". مثلت المرأة في الخطاب الحلم والإشراق والسلام والعدالة التي يبحث عنها، سيرورة مضمون النص الروائي، وكانت بالمقابل رمز الظلام والضياع الوجودي.

    وقد اتخذ النص من المرأة رحلة الحلم دون أن يجدها فكان البطل في بحثه عن المرأة مثلت حالة من الضياع والتيه دون تحقيق الحلم، بل كانت صورة للخيبة وصدمة واقعية، وبذلك يذوب الحلم في الدعوة وفي المذهبية، فكانت المرأة هي السبب في تقييده واستلاب هويته "أمرت أن أصطحبك لذي جبلة.. لا أريد مفارقة صنعاء.. هذه إرادة السيدة الحرة لا مناص من ذلك". كانت علاقة الحب في الخطاب السردي مرتبطة بالماضي ومسكونة بالماضي، أما حاضر البطل فكان مظلما مستلبا، فلم تعد المرأة تلك المرأة خالقة الذكورة، بل تحولت إلى امرأة تفني الذكورة ورمز للاضطهاد والإمحاء ليس على المستوى العاطفي فحسب، بل على المستوى السياسي، فالسيدة كانت رمز التحول والتبدل والتغير "وعليك أن تعلم أني أروى أو كما تحب أن تسميني (شوذب) وتلك كتب معلمك وهي الكتب التي بدأت تعبث بها فيها سنسير حين يحين زماننا". فكانت الكتب رمز الفكر وبخروجها ونبشها هي بداية لممارسة الدعوة وعودتها للتخفي والاختفاء هي إشارة إلى نهاية الدولة وعودتها للسرية مرة أخرى. فكانت صورة المرأة خالية من العاطفة والمشاعر "بعد عودتي من حراز أمسيت شبيهة بالمموسة… لكني كنت أجيد تسيير أمور قلبي كما أريد، فلا طاعة له أبدا". لذلك هناك ما يشبه في السرد القصصي والإمحاء للذكورة والأنوثة معا ليصب كل ذلك في مصلحة الدعوة الإسماعيلية ليشير النص إلى صرامة تفضي إلى استلاب الروح والجسد، واستلاب الفكر وتسخير كل ذلك ما يخدم القصر والدعوة ليعكس تطرفا للدعوات والمذاهب عموما.

   استطاعت الرواية أن تصوغ علاقة المرأة بالرجل وعلاقة الرجل بالمرأة ورؤاها، فعلاقة المرأة بالرجل كانت علاقة تقوم على ما يخدم مبادئ الدعوة بعيدا عن العلاقة العاطفية، وكانت علاقة الرجل بالمرأة مثلت له حلما ومصالحة مع الذات، إلا أن ذلك لم يتحقق بل تحول رحلة العذاب للرجل المتمثلة بشوذب إلى رحلة من الاستغلال والمكايدة بوصف الحلم للإنسان عموما لا يتحقق من خلال الدعوة هذه أو الدعوات المذهبية عموما. لذلك كانت علاقة المرأة المتمثلة بالسيدة أو أروى أو أسماء بالرجل الزوج قائمة على ما يخدم بقاءها في الحكم ويخدم دعوتها، فتآمرت على زوجها وقامت بنفيه ثم قتله لتكون وصية على ابنها علي الذي لم يبلغ الثانية عشرة ثم قامت بقتله وقتل أخيه "الملكة لا ترى في مجدها لا ابنا ولا زوجا إلا تكون ملكة". بذلك كان النص يعكس رؤية حول المرأة عموما ما أن تبلغ المجد والرئاسة حتى تلغي الذكورة وتسخرها لمجدها، وتلغي الأنوثة والعاطفة لتسخرها لمجدها، وبذلك الخطاب الروائي نسف المرأة عموما ونسف أروى والدعوة خصوصا ليعكس رؤيته في كراهية المذهبية والطائفية.

   نجح النص الروائي في رسم كيد المرأة وسرية الدعوة والتخفي، فكانت المرأة رمز الاستبداد ورمز التنصل من كل شيء خاص بها حتى الأمومة، واستطاع النص أن يرسم ذوبان الأتباع في أي فكر ليشير إلى تطرف الدعوة ورفض ذلك التطرف أيا كان "كنت أجيد كتمان ما يجول بخاطري وبداخلي حسب ما أوصتني به مولاتي أسماء بنت شهاب دوما الصمت المغموس بابتسامة عذبة أنجح الطرق للحفاظ على باطنك"، ليشير النص إلى إخفاء الأسرار وإظهار عكسها ليعكس تقية متطرفة كثيرا. وكانت المرأة وسيلة نجاح الدعوة بوصف المرأة قليلة التمرد وليس لديها ثورة وتتعصب لجنسها الأنثوي، فضلا أن المؤامرة تتيح من خلال المرأة فكل من ناهض الحكم والمرأة قضت عليه المرأة أو كان للمرأة دور في تهييج تلك المؤامرة فكانت رمز الاستبداد ورمز المؤامرة خاصة وأن المرأة أدت دور حماية السياسة والحكم والدعوة، فكانت رمز للسفاحة والقاتلة والمتآمرة، ورمز للإخلاص والذوبان في السياسة والفكر."تعاظم نفوذ أمير التعكر وأصبح يمثل خطرا وشيكا على ذي جبلة… لتلجأ إلى إرسال جارتين ممن يجدن التطبيب كمداويات... ولم تمر أيام حتى شاعت أخبار نعي الأمير". فكانت المرأة رمز التآمر ورمز السرية والاستبداد.. وجاءت صورة المرأة قوية مخلصة مستبدة لها قدرة على السرية والوفاء ولها القدرة على التنصل عما يحول بينها وبين طموحاتها وبذلك عكس النص الروائي تطرف الدعوات المذهبية والطائفية من خلال صورة المرأة.