من "معراج الموت" إلى "اللجاة".. الأنثى على مذبح الشرف
لمى طيارة - ناقدة سورية
حين قررت عام 2011 أن أقدم رسالة الماجستير في الإعلام السينمائي، حول صورة المرأة في السينما الروائية السورية وعلاقتها بالواقع، لم يكن بذهني مطلقا وأنا أنجز القسم النظري أنني سأتوصل لتلك النتائج اللاإنسانية واللاقانونية التي تحياها المرأة في سوريا، تحديدا في الريف، وخصوصا ما تعلق منها بجرائم الشرف والميراث والعنف ضد المرأة وغيرها، وقد اكتشفت لاحقا أنها تشابه أوضاع المرأة في بلدان عربية كثيرة يغلب على أريافها الفقر والجهل، لدرجة يطغى فيها العرف القبلي والطائفي ويتفوق على القانون، فيصبح القضاء نفسه مبررا في أحيان كثيرة لبعض من جرائمها.
ورغم أن سوريا كدولة، كانت قد وقعت على نص الإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة، الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1993، لكن الواقع يؤكد أنه لا يوجد قانون في سوريا خاص بالعنف القائم على أساس الجنس ولا يوجد حتى في قانون العقوبات السوري أي مادة مستقلة تعرف العنف الجنسي أو القائم على أساس الجنس، كما أن القوانين في سوريا لا تكفل حق حماية المرأة من العنف المنزلي بشكل عام، الأمر الذي بدوره أباح ويبيح بعضا من جرائم الشرف والتعسف المطبق على المرأة حتى يومنا الحالي.
مقدمتي الطويلة هذه جاءت بعد نوبة الكآبة التي أصابتني مؤخرا، حال انتهائي من قراءة قصة "معراج الموت" للكاتب السوري ممدوح عزام التي ظهرت الطبعة الأولى منها عام 1988، وأعيد طبعها ست مرات، وأردت أن أعقد بينها والفيلم المقتبس عنها بعنوان "اللجاة" في عام 1995 مقارنة بمناسبة اليوم العالمي للمرأة. وفيلم "اللجاة" هو الفيلم الروائي الطويل والوحيد الذي أخرجه السوري رياض شيا من مواليد السويداء 1954 والذي وافته المنية خارج حدود الوطن عام 2016، ورغم أن الفيلم كان من ضمن أفلام دراستي البحثية إلا أنني حينها لم أرجع لمصدر الفيلم ، ما أعادني إليه مؤخرا ليس فقط الرغبة في تلك المقاربة، بل لأنه وفي تاريخنا الحديث جدا، مازالت تلك القصة التي يسميها البعض رواية، تترجم ويعاد نشرها وتشهد رواجا يلفت النظر حتى في أوروبا، فهاهي دار لينوس تقوم بترجمة ونشر "معراج الموت" إلى اللغة الألمانية في نهاية عام 2013! فلماذا كل هذا الاهتمام بتلك القصة، هل بسبب الفيلم فعلا، أم لأن القصة بحد ذاتها تحمل أكثر مما حمله الفيلم الذي نال الفضية في مهرجان دمشق السينمائي عام 1997، والجائزة الفضية في مهرجان بيونج يانج عام 1999.
أعاد ممدوح عزام بنفسه وبمشاركة المخرج رياض شيا كتابة "معراج الموت" وتوليفها لتناسب فيلما سينمائيا طويلا بعنوان "اللجاة"، ليخلد ذلك الفيلم لاحقا اسم المخرج رياض شيا، الذي قيل إنه عرى بيئته وطائفته وحكمها الجائر على ابنتها. واللجاة محمية طبيعية ذات طبيعة صخرية وعرة وصعبة، تقع بين محافظتي درعا والسويداء، وأطلق عليها هذا الاسم لأنها أصبحت ملجأ لكل هارب أو مظلوم، فلا يستطيع الإنسان بمفرده أن يدخلها ويتوغل فيها، فقد يتوه بين الصخور العالية، والمغارات والكهوف، وهي عصية على الخيول والجمال والآليات الحديثة، فلماذا اختار كاتبا السيناريو هذا العنوان لفيلمهما رغم أن بطلته لم تكن عصية أبدا لا على الخيول ولا على غيرها؟
تدور أحداث "معراج الموت" وفيلم "اللجاة" حول قصة حقيقية جرت فى إحدى قرى الجنوب السورى بعد عام 1948، في محاولة لكشف وتعرية صورة الحياة الاجتماعية التي تحياها تلك القرية وغيرها من القرى المشابهة، فسلمى الفتاة الفقيرة اليافعة تزوجت سعيد عن غير حب وحتى قبل أن تلتقيه، ربما قبلت بهذا المصير لأنها أرادت أن تهرب من الموت، أو اللاحياة داخل سجن العائلة التي حولت الكثير من نسائها إلى عوانس، ولكن سلمى الفتاة الجميلة التي تربت في كنف عمها (صياح الذيب) بعد أن فارق والدها الحياة وتزوجت والدتها، تلقت أسوأ أنواع العنف الجنسي من ذلك الزوج الذي أراد أن يثبت لست الحسن زوجة أبيه العجوز وعشيقته التي لطالما أمضى معها الليالي أنه رجل قادر على معاشرة زوجته كل يوم، ضاربا بعرض الحائط كل مشاعرها الإنسانية، مستعينا بعادات وتقاليد القرية التي لا تعير انتباها لهذا العنف الجنسي بل تعتبره حقا مشروعا للرجل. وحين قررت سلمى التجرؤ على سلطة ذكورية القبيلة، بعد أن غادرها زوجها سعيد بغير عودة إلى البرازيل، فأحبت عبد الكريم الشاب الذي كان يطمح إلى الزواج منها، حكم عليها بالموت (عن طريق خلط الطعام بالزجاج المطحون)، وحتى القانون، متمثلا برجل الشرطة، لم يكن إلى جانبها حين سلمها لعمها ليقوم برفقة أخواته العوانس بقتلها ببطء، "لم يطل حديثهما، قال بأنها أهلكت شرف بيت الذيب، وضيعت كرامتهم، وأن الشيء الوحيد الذي تستاهله هو الذبح، لكن الشرطة لن يسمحوا بذبحها"، لكن تغاضوا عن قتلها بطرق أخرى.
وسلمى كما تروي القصة والفيلم ليست الفتاة الوحيدة التي حاولت التمرد على سيطرة القبيلة والعائلة ، فمن قبلها أمها الأرملة التى أصرت على الزواج مرة أخرى بعد وفاة زوجها على غير عادة أرامل عائلة الذيب، و(نسيبة) ابنة صياح الذيب عم سلمى وشقيقتها في التربية، فرغم أنها نبهت على عدم ذكر سلمى وما حدث لها، أصرت على الحداد عليها، بل رفضت الزواج لاحقا، ومن قبلها عمتها "أم متعب" شقيقة صياح الذيب التى تزوجت رغما عن أنفه، لكن سلمى الضعيفة الهاربة إلى الحياة، لم تكن تتوقع أن هروبها هذا سيلطخ شرف العائلة التي لم تكن يوما تلتفت إلى مصائر بناتها ولا حتى إلى معاناتهم، لتصبح لاحقا حبيسسة بيت الحصان، فأكلت الزجاج المطحون، منتقلة إلى عالم الأموات، وسط معرفة وقبول من مجتمعها القريب جدا (عماتها) المشاركات في قتلها، أو مجتمعها الأقل قربا الصامت على مصيرها.
بدت القصة، أكثر سحرا وبلاغة وتصويرا للواقع ووصفا للشخصيات "ثم لاحظ فجأة أن عينين كعيني دوري تراقبانه في مرآة السيارة.... هرب من اللقاء المفاجئ ثم وجد نفسه تحت سطوة رغبة لا مرئية في اختيار ما يحدث"، وأكثر شاعرية وملامسة للروح من الفيلم نفسه، رغم امتلاكه للغة البصرية (الصورة )، بل أكثر من ذلك استطاعت القصة حبس الأنفاس في طريقة التقديم والتأخير في السرد، لدرجة بدا لنا أننا جزء متورط في تلك القصة وواقعها ومأساتها، كل ذلك عبر لغة سردية لا تحمل الكثير من الحوارات إلا فيما ندر، الأمر الذي جعل كاتبي السيناريو يظهران لحظات الصمت القاسية في الفيلم بدلا من الحوارات في مقاربتهما للقصة، لدرجة أطلق على فيلم اللجاة (الفيلم الصامت) خصوصا حين عرض في النادي السينمائي في سوريا قبيل اندلاع الأحداث الدامية مع مطلع عام 2011، وقد شبه حينها بالفيلم الياباني (الجزيرة العارية) للمخرج كانيتو شيندو.
عرت القصة وكشفت تناقضات القرية، فللرجل الحق في هجران الزوجة، ومعاشرة النساء الساقطات والمتزوجات وغيرهن، إلا أنه الوقت نفسه حبيس تقاليده العفنة التي تمنع المرأة من أبسط حقوقها في التعليم والمساواة والهجران واختيار الزوج، ومحاربة العنف المنزلي، الجنسي منه بالدرجة الأولى.
استطاعت القصة وعبر لغة شاعرية أن تنقل تفاصيل حياة تلك العائلة الفقيرة، التي دفعت نساءها للعمل يدا بيد إلى جانب الرجل في الحقل والمرعى، بالإضافة للواجبات المنزلية، بينما لم تسمح لهن بأبسط الحريات (كحضور مناسبات الفرح واكتفت بحضورهن مناسبات العزاء)، بينما أباحت لرجالها كل أنواع الموبقات، من معاشرة النساء وهجرهن دون أي وازع ،"وزوجته التي هجست بالعلاقة بحاسة الأنثى، اكتفت بالصمت حين هددها بالطلاق"، حاول المؤلف أن يعري هذا المجتمع الذي تحكمه تقاليد وأعراف قبلية، لا يعاقب عليها القانون لأنها تبقى قيد الكتمان والتستر ضمن مجتمعها وبيئاتها. الأمر الذي يجعلنا نضع ممدوح عزام ومن بعده رياض شيا في مصاف الرجال الذين أنصفوا المرأة وعرضوا واحدة من أهم قضاياها المسكوت عنها.
ولعزام الذي ولد في محافظة السويداء عام 1950 أعمال قصصية وروائية مهمة، منها رواية "قصر المطر" الصادرة عن مطبوعات وزارة الثقافة في دمشق، والتي أهدرت الطائفة الدرزية دمه بسببها عام 2000 بحجة أنها أساءت إلى الطائفة الدرزية وأخلاقهما وشوهت عاداتها وتقاليدها ومقدساتها وأبطالها.