شعرية الألم الفني فيلم "رجاء بنت الملاح" .. المجتمع مانح الصكوك
د. الحبيب ناصري - ناقد سينمائي مغربي
فيلم "رجاء بنت الملاح"، فيلم وثائقي طويل من كتابة وإخراج عبد الإله الجواهري، مدته الزمنية 70 دقيقة. رحلة ممتعة/مؤلمة، في ذاكرة ممثلة، وهي في بداياتها السينمائية. رجاء المغربية سليلة مدينة مراكش، المدينة الساحرة وعاشقة ومعشوقة السينما. نجاة بنسالم.. شابة ستدفعها أقدارها الاجتماعية إلى البحث عن قدم ما في خريطة التمثيل السينمائي، وهي الحالمة بأن تصبح في يوم ما نجمة سينمائية كبيرة، حيث كانت البداية/النهاية من خلال مشاركتها في فيلم "رجاء" الفرنسي (من عنوان هذا الفيلم نحت اسمها)، والذي أخرجه الفرنسي جاك دوايون، وقد فازت من خلاله بجائزتين مهمتين عالميتين بكل من مهرجان مراكش السينمائي الدولي وجائزة أخرى بمهرجان البندقية الإيطالي، لكن عنف ومكر الواقع، سيصطادها لتصبح عرضة للضياع والتيه في دروب وأزقة مراكش الضيقة، كضيق واقع وحال رجاء بنت الملاح، وهي تعيش حالة التيه والتهميش والبحث عن لقمة عيش وممارسة العديد من المهن ذات الطابع الذكوري الهامشي، ومن جملتها بيع الخضروالسجائر.
وأنت تتأمل، ملصق الفيلم، تشعر دون شك بكونه يبوح بدوره بالعوالم الداخلية لرجاء بنت الملاح. ملصق داخل ملصق، أي أنها وقفت وهي تنظر بعمق وتلامس ملصق مهرجان مراكش السينمائي الدولي، في إشارات عديدة ودالة، منها التمسك بالحق في الاعتراف بهذا المهرجان، بحلمها في كونها كان من المفروض أن تكون وسط المدعوين بحكم كونها مشاركة في فيلم من أفلام هذا المهرجان. والقبض على الحلم المنسل والهارب من يديها والضائع في متاهات مجتمع يِؤمن بالمظاهر لا سيما "اللباس" الذي قال عنه المرحوم الدكتور المهدي المنجرة، أن وظيفته في الأصل هي وظيفة تتعلق بستر الجسم، ولا علاقة للباس بالتراتبية المجتمعية، أي أن اللباس الفاخر لا يصنع رمزية لصاحبه إلا إذا كان فعلا له ما يميزه من بناء ثقافي وعلمي ما إلخ. لماذا إثارة اللباس؟ لكونه كان وعلى امتداد الفيلم، عنصرا جوهريا في إقصاء هذه الممثلة من الدخول وتحقيق حلمها في معانقة جائزتها والاستمتاع بهذه اللحظة، وهو ما انطلق منه الفيلم، حيث الإعلان عن فوز نجاة بنسالم بجائزة من جوائز المهرجان، وبينما الكل كان ينتظر وصولها للمنصة من أجل تسلم درع المهرجان. لكن الممثلة لم تتمكن من الدخول لكونها كانت فعلا آتية من عوالم الفقر والتهميش، فكيف يمكن الجمع بين عوالم الغنى والفقر، عوالم العطر ورائحة الفقر؟ عالم حفل اختتام مهرجان دولي سينمائي بمراكش، حيث المظاهر تصل أوجها، وشابة تم نسيانها في كل مراحل حياتها، بل حتى وهي تهم بالدخول تمنع لكونها "لا تستحق" التواجد في عوالم الأضواء، وهي تلك العتمة الليلية المذكرة للجميع بكون من تبنى على أكتافهم الحياة عادة ما يدخلون الظل، ليصعد من كان في الخفاء.
أكيد أن هذه اللحظة المأساوية سيبنى عليها متن الفيلم الحكائي، بل سيعاد مرة أخرى نفس المشهد، لتمنع، لكونها تؤشر دوما على عوالم الفقر.
حياة ليلية وهامشية ومعانقة أمكنة بدورها هامشية ووقائع تحيلنا على عنف الحياة، الممارس في حق جسد أنثوي، والذي ليست له القدرة على تحمل كل هذه المآسي، مما جعله ينفلت نحو لمسات ذكورية، بحكم ممارستها لمهن ذات بعد ذكوري، مثل بيع الخضر والسجائر بالتقسيط، بل حتى وهي تبحث عن لحظات "فرح" موقت من خلال ممارسة بعض الرياضات في حلقة من حلقات فضاء جامع الفنا، ستختار رياضة الملاكمة، ضد شاب معجب بذكوريته ومبتسم بشكل سيميائي كاشف عن لا وعيه في كونه ذلك الذكر المواجه لأنثى، مما سيجعل الفوز مضمونا ومنذ البدء.
قصة رجاء بنت الملاح الفيلمية الوثائقية، هي قصة من الممكن توسيع دائرة القراءات "الماكرة"، بل من الممكن تحقيق المزيد من القراءات، خصوصا، وأن كل الفرص يتيحها مخرج الفيلم الآتي من عوالم الأدب والنقد السينما إلخ. أقول هذا الكلام و"أنا" أعي أن العمل الفني كيفما كان نوعه، (شعر أو موسيقى أو تشكيل أو سينما أو مسرح أو رواية)، وإن لم يحقق لنا فسحة القراءات الباحثة عن الدلالات، بل المنتجة لأعمال جديدة على هامش الأعمال الأولى، فهي مجرد "تقارير" مولدة لأحادية المعنى، محكوم عليها ومنذ البدء بالموت والخروج من دائرة الفنون ذات العمق الإنساني.
ليل مراكش، وغرفة رجاء المنخورة، وألبستها البالية، ووجهها الذي يوحي بتحوله إلى تضاريس اجتماعية قاسية، وتمزق نفسي، والعيش بين واقعين مريرين، واقع الواقع الاجتماعي الهامشي العنيف، وواقع الرغبة في تحقيق الحلم، أي نجمة سينمائية تكتب مسيرتها الفنية بحضور المهرجانات السينمائية، وتحقيق المزيد من مهام التمثيل السينمائي سواء في أعمال سينمائية مغربية أو أجنبية إلخ، كل هذا استطاع الفيلم أن يمسك به، لأنه أدرك قيمة الفكرة في عمقها الإنساني، مما جعل عنصر الصدق كان حاضرا على امتداد الحدوثات التي كانت تحكيها رجاء عن ما تعرضت له من مكر متعدد الأبعاد.
على امتداد الفيلم ـ الذي قامت ببطولته كل من نجاة بنسالم وأم العيد ايت اليوس وحليمة بنسالم وباسكال كريكوري ـ استطاعت رجاء أن تحكي حكيها، بل استطاعت البوح بما لها من جرح باطني، كيف لها أن تعيش الإقصاء والتهميش، لكونها مثلت في فيلم فرنسي، تضمن مشاهد ما، وكيف للمجتمع أن يشاهد ويستمتع بالفيلم، ويصنفها في خانة غير أخلاقية؟ بل كيف تحول المجتمع إلى مصدر لصكوك الحكم عليها ب"جهنم"، في مجتمع هو في الأصل يدين بدين أصله الرحمة والتسامح والمغفرة إلخ، هذا وفق من صنفها ضمن تصنيف "خارج" المجتمع.
أن يحكي المخرج، قصة سينمائية روائية أو وثائقية ما، بلغة تمتح بين الفينة والأخرى من لغة السينماتوغرافيا، فاللعبة الفنية الجمالية هنا، شبيهة بالشاعر الذي، يحكي قصته الشعرية، مع النبش بين الفينة والأخرى في سماء الاستعارة أو الإيقاع الصوتي إلخ. نفس اللعبة نجح فيها المخرج، واستطاع أن يسلك بنا نحو الأعلى، الأعلى المتعلق بكيف قال المخرج قوله هذا؟
للإجابة عن هذا السؤال سنسلك الخطوات التالية:
الفضاءات الشخصيات الحاكية: وهي متعددة، لكنها وفي المجمل تتميز بالثنائيات الضدية المولدة والمخلخلة بل المساهمة في اهتزاز أفق انتظار المتلقي وجعله متماهيا مع رجاء بنت الملاح. معظم فضاءات الفيلم الوثائقي، هي وبلغة جاستون باشلار، عبارة عن شخصيات فاعلة في الحكي الفيلمي الوثائقي، بل هي في حد ذاتها تحمل حمولات لا تخلو من بعد سوسيولوجي دال. في هذا السياق، نذكر على سبيل المثال فضاءات المهرجان الدولي للفيلم بمراكش الراقية، حيث على صخرتها تكسرت أحلامها، وهي فضاءات تقع في الحي الذي بني وفق رؤية أوروبية عصرية حديثة. هي بالفعل جاذبة والكل يرغب في ولوجها، مقابل دروب مراكش الضيقة لاسيما حي الملاح، وبالأخص "غرفتها" المحيلة على كل أنواع البؤس. غرف شبه مهجورة وآيلة للسقوط.
لغة "التلصص" السينمائية: ونقصد بها أن المخرج وفي العديد من الحالات، لم يكن دوما أمام رجاء، بل بين الفينة والأخرى استطاع، أن "يتلصص" سينمائيا على شخصيته المحورية هنا، من خلال جعل الكاميرا "تطاردها" من الخلف. رؤية سردية تذكرنا بوظيفة الراوي الذي لا يعلم شيئا عن شخصيته، وبالتالي يكون خلفها وليس أمامها.
حينما تتحول خطوات الأرجل إلى بوح الألم: ونقصد بهذه الخلاصة، مدى قدرة المخرج على جرّنا لمعرفة تفاصيل التفاصيل عن شخصيته المكلومة رجاء. في حالات عديدة لا يظهر لنا إلا تلك الأرجل في صورة سينمائية مصغرة، فنعرف تفاصيل معيشية تخص طبيعة ما ترتديه، وطبيعة الأمكنة التي تلجها بحثا عن الرزق، بل أكثر من هذا، من الممكن هنا الحديث عن إيقاعات/خطوات الألم.
الحيوان الأليف مقابل الإنسان "البشع": ثنائية تمكن الفيلم أن يمررها لنا، في مشهد من مشاهد الفيلم حينما كانت رجاء، تعانق قطها بنوع من الحميمية، بل حميمية عبر عنها القط، حينما بادلها الشعور نفسه، لينزع منها ابتسامة من أعماقها. مقابل هذا لم نجد في الفيلم إلا لغة التنكر من طرف العديد من الناس، لاسيما وشكلها الخارجي يوحي فعلا بكل أنواع البؤس.
إيقاعات دريهمات اليتم الاجتماعي: من الإيقاعات المؤثرة أيضا في الفيلم، تلك الدريهمات التي كانت تحركها في يدها اليمنى، والسجائر في يدها اليسرى، كإشارة منها إلى أن السجائر هنا للبيع. صوت/إيقاعات جد مؤثرة، تمكن المخرج من التقاطها بشكل موح ودال، على هذا اليتم الاجتماعي، لاسيما ونحن أمام أنثى من المفروض أن تكون على الأقل تعيش إيقاعات اجتماعية في حدها الأدنى.
سينما داخل سينما: من المشاهد المؤثرة في الفيلم أيضا، زيارة رجاء لمنزل مراكشي تقليدي، حيث كان طاقم فيلم أجنبي يصور بعض المشاهد، وبتنسيق مع أحد المخرجين والمنتجين المغاربة وهو حميد باسكيط، والذي كان يوجد بنفس المكان في سياق مهمة ما، تمكنت رجاء أن تلج هذا الفضاء، بل تمكنت من مشاهدة تلك الحركية السينمائية داخل هذا المنزل التقليدي. صعودها إلى أعلى المنزل، ومتابعتها لهذه الحركية من هذا الأعلى، وفي اتجاه "التحت" جعلها فعلا تمارس وبلغة السينما، تلك الرؤية "الانتقامية" حيث أصبحت تلك الكائنات السينمائية "صغيرة" مقابل موقعها هي. اختتمت هذه الزيارة بحوار مع حميد باسكيط، وهي تبوح له برغبتها في أن تعود إلى السينما لأداء دور ما، وأكدت له أنها أعطت رقم هاتفها للعديد من المخرجين والمنتجين والذين التقوا بها في مناسبة ما، لكن دون رد.
تركيب دال
عديدة هي الرمزيات الدالة والتي من الممكن استلهامها من فيلم "رجاء بنت الملاح"، لكن وفي اعتقادي المتواضع، وبناء على الإشارات السالفة الذكر، وإذا استحضرنا شخصية "جاك" مخرج الفيلم الذي شاركت فيه "رجاء بنت الملاح"، وهو منطلق كل المآسي التي يدور حولها هذا الفيلم الوثائقي، سنجد جاك قد قدم رؤية "تبريرية/قدرية" وهو الآتي من لغة الثقافة العالمة الغربية المادية إلخ، من الممكن القول، وبناء على كل ماسبق، إن رجاء هنا هي الرمز "المكتمل" في الفقر والبؤس والحرمان والظلم. جاك الذي كان السبب في إدخالها لدورة من دورات المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، بعدما منعت من طرف الحرس لكونها لا تتوفر على دعوة رسمية، بل لكونها غير مرغوب فيها لكون المكان ليس مكانها، سنعيش من خلاله كيف منعت، وكيف أدخلها هو، لكونه فرنسيا وآتيا من "هناك"، من فرنسا التي لا يقال لها لا، مقابل قول لا لرجاء الآتية من دروب مراكش وأزقتها الضيقة. فهل هي ثنائية، من الممكن تعميقها بتلك القراءة "الماكرة"، ومن ثم جعل رجاء، هي تلك الذات المتآكلة بفعل قوة الآخر، والذي أراد إقناعها في شخص "جاك" بضرورة قبول واقعها هذا، بحكم أنه قدر بل وكما قالها وباللغة العربية "مكتوب"؟