رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


تأملات نوال السعداوي في السياسة والمرأة والكتابة

29-3-2017 | 13:35


أشرف راضي

عندما تكتب شخصية مثيرة للجدل مثل نوال السعداوي تأملاتها في السياسة والمرأة والكتابة بعد أن تجاوزت عامها الثمانين بنحو نصف عقد، فإننا نكون أمام شهادة مناضلة نذرت حياتها لقضية المرأة على مدى عقود كاملة وفي أي مكان. فهذه الشهادة لا تقف عند حدود وطنها ـ مصر ـ وإنما تتعداها إلى العالم.

   من هنا تكمن أهمية كتابها الأحدث "تأملات في السياسة والمرأة والكتابة" الذي صدر عن دار ابن رشد بالقاهرة. ففي الكتاب خلاصة خبرات قدمتها المؤلفة للقراء عبر عشرات الكتب والمقالات خلال مسيرتها العملية الممتدة لأكثر من 60 عاما والحافلة بالأحداث على المستوى الشخصي والعام.

    في هذا الكتاب لم تترك الكاتبة قضية أو واقعة إلا وتناولتها بالنقاش والتحليل النقدي الذي لا يعرف حدودا، على نحو يجعل من الصعب تقديم عرض وافٍ للكتاب. ويزيد من هذه الصعوبة الطريقة التي اختارتها لتقديم تأملاتها النقدية فلم يكن الكتاب مبوبا تحت فصول وعناوين، مثلما هو متعارف عليه في عالم النشر. واختارت نوال السعداوي هذه الطريقة عن عمد كي تحفظ للكتابة تدفقها وكي تحفظ للأفكار حيويتها.

   وعلى الرغم من أن الكتاب اعتمد على خبرات الكاتبة المتنوعة كطبيبة وكاتبة ومثقفة مهمومة بقضية المرأة وتحررها في إطار انشغالها بقضية الحرية والتحرر لجميع البشر، إلا أن انطباعاتها الأولى من مرحلة الطفولة تظل هي المرشد لها فيما طرحته من أفكار. ولخصت الكاتبة رؤيتها هذه لبراءة الأطفال في آخر جزأين في الكتاب بعنواني "بالذكاء الفطري يكشف الأطفال "التناقض" فيما يقوله الكبار"، و"كان للأطفال كرامة العظماء".

    وفي الكتاب الذي كتب معظمه عام 2014، اختارت الكاتبة أن تقول رأيها في كل شيء في مصر وفي العالم. وكأنها أرادت أن يكون الكتاب شبه سيرة ذاتية. وتلخص الملامح الأولى لشخصيتها التي تبلورت منذ أن تعلمت المشي قائلة "الاستقلال والاستغناء هو أول خطوة نحو التحرر."

 

في الكتابة والإبداع

   تحتل الكتابة مكانة مركزية في شخصية نوال السعداوي منذ أن اكتشفت أمها امتلاكها لهذه الموهبة بعد أن اطلعت مصادفة على مذكرات دونتها عندما كانت طفلة في بداية سنوات الدراسة. وأصبحت الكتابة حياة بالنسبة لها منذ أن اكتشفت وهي طفلة صغيرة الكتابة كوسيلة لكسر الصمت والقهر المفروضين عليها من المجتمع. وتقول "يعيش أغلب الناس دون حاجة إلى الكتابة فلماذا أشعر بالموت إذا لم أكتب"؟ وتضيف "لا شيء يكسر سجن الجسد إلا الكتابة". لكن هذه الكتابة جعلت الطفلة "تميل للصمت والعزلة، خوفا من أن يقرأ الناس ما يدور بينها وبين نفسها في الخفاء". هي التي نشأت، كما تقول عن مسقط رأسها، "في مجتمع يقدس السلطة الحاكمة في السماء والأرض".

   وتربط المؤلفة مصيرها ككاتبة بوضع المرأة في مجتمعها فتقول "تظل الكاتبة عمياء، لا ترى قيمتها مهما نالت من جوائز أدبية وشهرة عالمية... تظل متشككة في تفوقها ونبوغها. فالواقع اليومي لحياة الغالبية العظمى للنساء في بلادها والعالم يؤكد لها دونية وضع المرأة وتزايد دونية الأنثى واحتقارها والاعتداء عليها مع تصاعد القوى الأصولية الدينية الذكورية المدعمة بالنظام الرأسمالي الأبوي". وتنتقل للحديث عن أزمة الكاتبة وتقول "ليس للكاتبة قدرة على معرفة تاريخ الكاتبات النساء السابقات عليها" فالتاريخ يكتبه المنتصرون وأغلبهم من الذكور. وليس عند الكاتبة إلا "صورة جزئية مشوشة عن كتاباتها منفصلة أو مبتورة عن التاريخ الأدبي. فهي محرومة من النقد الأدبي الموضوعي النزيه المستقل عن النظام الحاكم الطبقي الأبوي". فالمرأة مضطرة للخضوع "للرقيب الذكوري داخلها وخارجها" لتشطب وتعدل بعض ما كتبت لترضي القيم والتقاليد أو على الأقل لتفادي اللوم والعقاب لتتراجع وتستسلم لغواية الأنوثة والحب والزواج والأمومة.

    وتعترف على ما يبدو بأن الرواية النسائية التي حلمت بكتابتها لم تكتب بعد: "نعم. فشلت (الكاتبة) في أن تكتب الرواية التي تعيش في أعماقها منذ الطفولة" الأمر الذي يفسد فرحتها، ولا تجد السلوى في رسائل القراء والقارئات ولا في كلمات المعجبين والمعجبات عن الأثر الذي أحدثته كتاباتها".

    وانشغالها بالكتابة دفعها للانشغال بقضية الإبداع وكيف يحدث؟ وهو سؤال حيَّر الفلاسفة فراحت تبحث عنه فيما يشبه سيرتها الذاتية المختصرة التي كشفت خلالها عن أسماء ربما كانت مجهولة في تاريخ الكتابة النسائية في مصر، مثل الكاتبة الرائدة زينب فواز التي توفيت عام 1914 وسبقت قاسم أمين في الكتابة عن تحرير المرأة. ولم تنل زينب فواز شهرة قاسم أمين الذي اعتبر الرائد الأول لتحرير المرأة المصرية.

   وتشركنا المؤلفة في حوار بين نوال الإنسانة ونوال الكاتبة التي يختفي عندها الحد الفاصل بين الرجل والمرأة. ويكشف هذا الحوار عن شخصيتين متمايزتين عن بعضهما إلى حد التناقض أحيانا. وترى ارتباطا وثيقا بين الكتابة والإبداع الذي تربطه علاقة وثيقة بالحرية والصدق وبالمعرفة، والتي ترتبط بدورها بالوعي والثورة والتمرد. وتشير إلى أهمية الكتابة، والكتابة الأدبية على وجه الخصوص، من خلال تحليلها لرواية "ذا هيومان ستين" (أو بقعة الإنسان، وفقا لترجمتها للعنوان) التي كتبها الأديب الأمريكي فيليب روث عام 2000، وتعتبرها "من أهم الأعمال الأدبية الكاشفة للقيم العنصرية المتغلغلة داخل المؤسسات الأمريكية قي الطبقات العليا والسفلى، في القضاء والتعليم والبوليس (الشرطة) والجيش وأعمال الخدمة والجامعات الأكاديمية العليا".

    ولمست نوال السعداوي هذا الواقع عن قرب عندما عملت أستاذة زائرة تدرس مادة بعنوان "الإبداع والتمرد" في جامعة ميزوري عام 2007. وأشارت إلى أنه يطلق على ولاية ميزوري، التي شهدت أحداثا عنصرية عام 2014، "صرة حزام الإنجيل بالولايات المتحدة" حيث تتمركز فيها عناصر قوية سياسيا واقتصاديا من الكتلة المسيحية اليهودية الأصولية الداعمة للرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، والتي ينتمي إليها رئيس الجامعة الذي قرر فسخ عقدها مع الجامعة في اليوم التالي لمحاضرة انتقدت فيها سياسة بوش وأعوانه من التيارات اليهودية والمسيحية والإسلامية الأصولية.

الرأسمالية والاستعمار والقهر والمرأة

   تربط الكاتبة ربطا مباشرا بين الرأسمالية والاستعمار وقهر المرأة. وتقول "منطق القوة الغاشم المزدوج يحكم العالم منذ نشوء النظام العبودي الطبقي الأبوي". وتشير إلى مساهمات الباحثات النسائيات اللاتي "يواصلن تقديم نقد جذري للفكر الرأسمالي منذ منتصف القرن العشرين، يربطن فيه بين الظلم الاقتصادي العنصري الواقع على العمال والأجراء، والظلم الجنسي الاقتصادي الواقع على النساء".

    وتخصص صفحات من الكتاب للتعليق على الأحداث السياسية قديما وحديثا واستعراض التاريخ السياسي لمصر والبلدان العربية وصعود التيارات الإسلامية المتشددة وآخرها تنظيم "داعش"، لتصل للب القضية وتنتقد قيادات الحركة النسائية اللاتي يشكين من أن الحكومات تتجاهل حقوق النساء رغم ما قدمن للثورة من جهد وعرق ودم، وتذكر بأن المقهورين (نساء وفقراء) لا يحررهم إلا أنفسهم. ولا تسلم الحركة النسائية نفسها من نقد الكاتبة المتمردة فتشير إلى أن أغلب قيادات الحركة النسائية لم يمتلكن الوعي بضرورة تنظيم النساء وتوحيدهن، بل شاركن السلطات المستبدة في تمزيق الحركة وضرب أي تنظيم نسائي شعبي مستقل عن الحكومة.

   وتشير إلى التناقض بين ما هو مكتوب في الدستور عن المساواة بين المرأة والرجل وبين القانون المدني والديني. وترى أنه يتم إجهاض الثورات الشعبية قبل أن تمتد إلى القيم والقوانين الظالمة للنساء والفقراء، الذين يتم استغلالهم في الانتخابات. وتقول "لن تتغير علاقة الحاكم بالمحكومين في الدولة ما لم تتغير علاقة الرجل بالمرأة في الأسرة والقانون والثقافة والتعليم. ولن تتحقق الديمقراطية في البرلمان إذا ظلت الدكتاتورية في البيت".

   وترى أن "العدالة (أو الديمقراطية) لا تتحقق إلا بعد أن تصبح الحرية والمساواة أسلوب حياة في البيت والشارع والمدرسة والعمل والترفيه واللعب". فالديمقراطية بالمعنى الصحيح عندها "ليست الانتخابات وإنما العدالة والمساواة بين المواطنين بصرف النظر عن الطبقة أو الجنس أو الدين أو العرق أو لون البشرة". وترى أن هذه الديمقراطية لم تتحقق إلى اليوم في أي بلد من العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة "فالقيم العنصرية الطبقية الأبوية تسود الدولة والمجتمع" الأمريكيين، كما كشفت مظاهرات فرجسون بولاية ميزوري في أغسطس 2014.

   ولا تقف حدود النقد لديها عند النظام الرأسمالي، وإنما امتد نقدها لكارل ماركس والفكر الماركسي. وتقول إن "الاستغلال الاقتصادي والجنسي لعمل النساء ظل غائبا عن الفكر الماركسي حتى منتصف القرن العشرين، حين قدمت الباحثات النسائيات نقدا جذريا جديدا للرأسمالية يربط بين الاستغلال الطبقي والجنسي والعنصري في آن واحد. وقدمت نماذج لهؤلاء الباحثات.

الثقافة والثورة بين مصر والصين وكردستان

    وتتخذ المؤلفة موقفا نقديا من الثقافة والطب في مصر من واقع عملها طبيبة، والذي بدأته كطبيبة امتياز بقصر العيني بعد تخرجها في كلية الطب عام 1954 والذي لم يدم طويلا. فبعد أن صدرت ضدها ستة قرارات فصل من وزير الصحة، قدمت استقالتها بعد 13 عاما والتي جاءت في سطر واحد قالت فيه "صحة الناس ستتحسن لو ألغيت وزارة الصحة".

    وتتخذ موقفا مماثلا من وزارة الثقافة التي ترى في وجودها "فكرة مدمرة للعقل المبدع: "لم أستمد معرفتي بالحياة والناس من الكتب المدرسية بل من تجاربي في حياتي وقراءاتي خارج المقرر والتاريخ الرسمي". كما تنتقد بشدة نظام التعليم في مصر، في إطار تناولها لقضية العنف والتطرف: "كان المنهج المدرسي يعلمنا كراهية الأديان والأجناس الأخرى. وتمييز الذكور عن البنات واحتقار الخدم والبوابين وذوي البشرة السوداء". وتضيف "لم أتخلص من هذه القيم العنصرية الطبقية الذكورية إلا بعد القراءة خارج المنهج الدراسي بتشجيع من أبي وأمي". وتشدد على أهمية أن "يبدأ الإبداع في الطفولة بالتفكير خارج المنهج المقرر، بما يحتاج إلى وعي الأم والأب (أو شخصية أخرى) بأهمية تحصيل المعرفة".

   وتشير إلى أن "الدراسات الأحدث أوضحت أن المعرفة هي المحرك للتاريخ". وأن هذه المعرفة الكلية للظواهر هي الأساس الذي يقوم عليه الإبداع.

    لكن الكاتبة لم تكتف بالنقد وإنما راحت تفتش عن حلول في تجارب شعوب أخرى. وخصت في كتابها التجربة الصينية وتجربة المرأة الكردية على أساس مشاهدات مباشرة من واقع زيارة للصين في سبتمبر 2014. وتقول إنها اكتشفت في الزيارة أن ثورة الصين الثقافية الحقيقية ليست تلك التي حدثت في عهد الزعيم الراحل ماو تسي تونج وإنما في ثورة الرابع من مايو 1919 التي أعادت قراءة التراث الصيني ونزع القدسية عن كونفوشيوس وجميع الأباطرة والملوك. وتخلص من واقع تجربتها في الصين إلى أن هناك صعوبة في "القضاء على العنف أو الإرهاب الديني السياسي طالما أن تربية الأطفال وتعليمهم قائم على التفرقة الجنسية والدينية والعرقية". وتشير إلى أنه بينما "ينص الدستور المصري على حرية العقيدة... يظل التعليم المصري كما كان منذ العصور الماضية يتهم بالكفر كل من يفكر بعقله الحر أو ينقد ثقافة التفرقة الدينية أو الجنسية في المذاهب الراسخة على اختلافها".

   وفي كردستان العراق التي زارتها في خريف 2014، عاينت عن قرب دور المرأة المقاتلة الكردية في جبل قنديل وجبال شمال العراق ضد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في العراق وفي مدينة كوباني شمالي سوريا، وقبل ذلك دورها في قوات البشمركة الكردية وكيف عانت المرأة الكردية في عهد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.

   إن القراء في حاجة للتفكير في التأملات التي قدمتها نوال السعداوي في هذا الكتاب بعقل حر ومنفتح وبصدر يتسع لممارسة للنقد بتجاوز حدود لم يألفها القارئ العربي. ومهما تكن الخلافات مع الآراء التي وردت في تأملات الكاتبة، يظل من المهم التعرف على ما قدمته مناضلة مخضرمة مثل نوال السعداوي.