في ذكرى رحيله.. بيرم التونسي.. كتب أجمل أغاني الحب ولم يذق طعمه أبدا
مخطئ من يظن أن الشاعر الكبير بيرم
التونسي كان يظهر كثيراً في الأوساط الأدبية أو ينثر العديد من حواراته في الصحف
والمجلات، فقد كانت رحلاته اليومية فقط بين الإذاعة والفنانين ومنها إلى مقهاه
المفضل ثم إلى صومعته في بيته .. هل كان راضِ عما يكتبه .. وما انطباعه عن عقد
الخمسينيات .. ولماذا توارى عن أعين الناس جميعاً
واختفى؟ كل تلك الأسئلة وغيرها نجيب عنها في ذكرى رحيله التي تحل اليوم.
هارب من أدعياء الأدب
في أول يناير عام 1956 رابط محرر
الكواكب لبيرم التونسي بجوار منزله حتى تمكن من مقابلته بعد أن احتار الجميع في
العثور عليه للاطلاع على آخر أخباره، وقد برر بيرم اختفاءه عن الناس بسبب من
وصفهم بأدعياء الأدب الذين عرفوا قهوته المختارة في شارع زين العابدين ولاحقوه ونغصوا
عليه هدوءه، فالواحد منهم يذهب إليه ومعه أكثر من 50 زجلاً يظن أنها الفتح المبين
في عالم النظم، ويطلب من بيرم أن يوزعها على المطربين والمطربات ومنهم أم كلثوم ،
ويوصي بيرم ألا ينسى الإذاعة وأيضاً يطرح مابقي منها في الصحف لنشرها .. والغريب
في الأمر أن مايطلع عليه بيرم من نتاج أدعياء الشعر والأدب يجده يصلح لشئ واحد فقط
، وهو سلة المهملات، لذا حبب هؤلاء الأدعياء إلى بيرم التخفي واعتزال الناس
جميعاً.
أغاني التسول
شهدت فترة الخمسينيات إقلالا ملحوظا من بيرم في
كتابة الأغاني السينمائية، واتجاهه إلى الكتابة للإذعة، ويرجع ذلك لسببين، الأول
أنه وجد لذة في كتابة حلقات الظاهر بيبرس البطل الإسلامي العظيم الذي رد التتار عن
مصر والشرق، ورد الصليبيين عنها من الغرب، أما السبب الثاني فكان رغبته أن يكون
سيد نفسه وألا يخضع لأوامر المخرجين والمنتجين، فأغاني الأفلام لا تمنحه هذه
السيادة، فأغاني الحب التي يرحب بها السينمائيون في ذلك الوقت حسب رأي بيرم كانت
تكتب بلغة التسول لما فيها من استجداء وخضوع.
لم أكن "حبيبة" !
استطرد بيرم التونسي حديثه قائلاً :
هل تظنون أن ما نظمته للمطربين والمطربات والأفلام من وحي الفن؟ لا .. أنه صناعة
مائة في المائة، قد يتفق مضمون بعض تلك الأغاني مع عواطفه أو ما يدور في عقله من
أفكار، ولكنه اتفاق غير مقصود، فماذا تريد مني أن أقول حين يطلب مني المخرج أن أصيغ
أغنية على لسان الحبيبة التي تقف في البلكونة، تبكي في انتظار حبيبها الذي غدر بها
أو خلف موعدها؟ هل تظن أنني كنت يوماً من الأيام " حبيبة " حتى أشعر بما
تشعر به الحبيبة المهجورة ؟ والطريف في الأمر أن المخرجين يريدونها أغنية تهز
العواطف وتحرك القلوب وتسيل دموع المشاهدين، لذا لا يجد بيرم إلا الصناعة كي ينفذ
فيها طلباتهم ويجعل العمل شجياً يملؤه الأنين والبكاء .. وقد أكد بيرم أنه رغم
الكم الهائل الذي نظمه من أغاني الحب فقد نظمها رجل لم يعرف الحب، ولم يجربه أبداً
.
تجار الموسيقى في الخمسينيات!
أكد بيرم التونسي في حديثه أن فترة
منتصف الخمسينيات قد تغيرت فيها الدنيا، حتى فن الطرب، فقد ظهرت الأشرطة
والماكينات والسرعة، وكان هذا في رأيه لا يتفق مع روح الفنان، وأصر أن تلك الفترة لم
يكن بها موسيقيون، بل تجاراً للموسيقى، وقد تآمروا على دفن التراث الموسيقي الذي
كان موجوداً في الماضي، والذي أطرب أجيالاً بعد أجيال، وتمثل ذلك التراث في 80 دورا من أدوار عبده الحامولي ومحمد عثمان وعشرات الأدوار لسيد درويش .
بقي أن نطرح تساؤلاً، إن كان بيرم
التونسي اتهم الموسيقيين أمثال عبد الوهاب والقصبجي والموجي وفريد الأطرش وكمال
الطويل ومحمود الشريف وعبد العظيم محمد وغيرهم بأنهم تجار موسيقى في منتصف
الخمسينيات فماذا نسمي من يعمل بالموسيقى اليوم بعد أن اندثرت بالطبع أعمال نجوم
الطرب والموسيقى مع تراث الحامولي ومحمد عثمان وسيد درويش؟