رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


جسد المرأة بين الاشتهاء والعدوان

30-3-2017 | 11:08


رضوى فرغلي - اختصاصية علاج نفسي

الجسد هو المسرح الذي تتجلى عليه كل أفكارنا ومشاعرنا ورغباتنا، المرآة التي تعكس إحساسنا بأنفسنا وعلاقتنا بمن حولنا، فمتى اتسقت هذه العلاقات (أو اضطربت)، ظهر ذلك بوضوح على ارتباطنا بجسدنا وبالتالي جسد الشخص الذي نتعامل معه.

    إن الظلم التاريخي الذي تعانيه المرأة وانتقاص حقوقها وأحيانا ضياعها بالكامل، ليس فقط بسبب كفاءتها العقلية والجنسية والاجتماعية التي حباها بها الله، والذي تم التواطؤ الفردي والمجتمعي على وصمها بعكس ذلك وتنشئتها في ظروف أسرية واجتماعية مجحفة تضمن تكريس هذه الصورة المشوهة عنها، وإنما أيضا بسبب جسدها الذي يمثل تهديدا صريحا لقدرات الذكر المحدودة مقارنة بها.

   إن المرأة منذ ولادتها، وربما من قبل ذلك، تحمل مقومات الرغبة فيها والانتقام منها على حد سواء، بداية من اختيار نوع الجنين، ووأد الطفلة أو إجهاض الأم قبل اكتمال الحمل، ختان البنات، زواج القاصرات، المضايقات الجنسية، الضرب، الاغتصاب، ما يُعرف بجرائم "الشرف"، معاملة المطلقات والأرامل باعتبارهن نساء درجة ثانية وغيرها من أشكال العنف تجاه الأنثى.

   هذه العلاقة المركبة مع جسد المرأة تتداخل فيها عوامل نفسية واجتماعية وسياسية خاصة بالتكوين النفسي للرجل والبيئة التي يعيش فيها والثقافة التي ينتمي إليها والإرث الجمعي التاريخي الذي يختزنه. وتكاد المرأة لا تفلت في أي مجتمع من العنصرية وسلب حقوقها، الفارق فقط في النسبة وفي قدرة النساء على اقتناص بعض هذه الحقوق بالنضال المستمر من أجل قوانين عادلة وقدرتهن على الإفلات من السلطة الذكورية وبالطبع يزداد الوضع سوءا في مصر والبلدان العربية. وهناك حالات تزداد فيها العدوانية تجاه المرأة وتحديدا انتهاكها جسديا، منها:

 

  أولا: في الثورات والحروب، حين تبدأ الحرب تكون المرأة هي الضحية الأكثر استهدافا كنوع من فرض الوجود أو إهانة مجتمع بأكمله أو زرع الخوف في النفوس وانكسار الروح، وتأخذ هذه الانتهاكات شكل التزويج القصري/ الاغتصاب/التهجير/الاستعباد/البيع/تجريدها من ملابسها والتحرش بها وأحيانا يكون ذلك على الملأ أو أمام أسرتها، وكما نلاحظ كلها سلوكيات تستهدف الجسد، وأستطيع أن أقول هنا إن هذا الجسد المقصود إيذائه وإهانته هو ليس جسدا أنثويا فرديا فقط، وإنما هو "جسد جمعي"، جسد رمزي لبلد بعينه أو جماعة أو أسرة ما، جسد مُشَبّع بالمحرمية/الشرف/العشق، وبالتالي أي مساس به هو مساس بكل هذا المخزون المنزاح عليه من الفرد والجماعة عبر التاريخ، وبالتالي تحول جسد المرأة في لحظة ما إلى أيقونة أو اختزال مكثف لتاريخ ومعاني أمة بأكملها، وهذه كلها رسائل ضمنية راسخة لاشعوريا لدى جميع الأطراف أثناء النزاعات وحين يتم التفكير في الاعتداء على المرأة جسديا. حتى الثورات التي من المفترض أن تكون محاولة انعتاق من القمع والانحدار في كل المجالات، لا تخلو من امتهان جسدي للمرأة وتحرش وإساءة واستهداف بالقتل، وكأن بهذه السلوكيات يحاول أصحابها إيقاف عنيف لمسيرة المرأة التي كانت ومازالت بيدها تغيير مسار التاريخ، كأنهم يعبرون عن شعورهم بالنقص تجاه المرأة التي تتفوق عليهم وخوفهم اللاشعوري من التفوق في الميدان الثوري أيضا والحصول على حقوقها المنهوبة بالسلطة الذكورية الجائرة، أو ربما هلع من افتضاح قصورهم إذا عادت المرأة لصدارة المشهد التاريخي، وبالتالي المحاولات دائمة للسيطرة عليها من خلال السيطرة على جسدها بالقوة وبأشكال مهينة لتظل تحت وطأة الخوف والعار.

  ثانيا: في الزواج، الجسد الذي يمنح الطرفين متعة لامتناهية هو ذاته الذي يمكن أن يتسبب في عذاب أبدي، حين يعجز الزوج مثلا عن الاستمتاع معه نتيجة قصور جنسي ما لديه، وهنا يتحول الشبق إلى عداء. وهذا ما ألاحظه من خلال خبرتي المهنية كمعالجة نفسية، والعدد الكبير جدا للمشكلات الزوجية والجنسية التي أتعامل معها، يتحول معظم الذكور إلى كائنات انتقامية من أجساد زوجاتهن الكاشفة لضعفهم أو اضطراباتهم. فالنسبة الأكبر من الأزواج المعتدين بالضرب أو الإهانة على زوجاتهم، هم من الذين يعانون مشكلات جنسية أو نفسية تمنعهم من الاستمتاع الحميم. إضافة إلى ذلك يعد الجسد أبرز العناصر التي استخدمها الرجل كسلاح فعال للسيطرة على المرأة، فأصبح مألوفا أن يتردد على الألسنة أن المرأة مِلك لزوجها ويقصدون بذلك الملكية الجسدية، دون وعي بالتفريق بين كون الزواج معاهدة حرة ومسئولية تجاه الشريك والتزام أخلاقي بعدم الخيانة ومنها الخيانة الجسدية، وكونه امتلاكا يعكس علاقة دونية تحول المرأة إلى متاع يباع ويُشترى تحت مسميات كثيرة.

  ثالثا: في الطلاق والعلاقات السابقة، يكون الجسد هو أحد الأزمات التي تواجهها المرأة في ثقافات كثيرة، لأن هذه الثقافة تختزل المرأة في جسد عليها أن تحتفظ به دائما "على الزيرو" لتقدمه إلى رجل يكون هو المالك الأول والمستخدم الوحيد له، ومازالت الفتاة، خصوصا في المجتمعات العربية تحرص على أن تؤكد للرجل في كل مناسبة أنه الرجل الأول في حياتها، بالطبع هي تقصد أنه الرجل الأول الذي له شرف "الافتتاح" بغض النظر إن كان ذلك صحيحا أم لا! من هنا اخترع الطب بابا خلفيا لاستعادة عذرية الجسد التي فُقدت لأي سبب (وهذا انتهاك آخر)، حتى تذهب للزوج المنتظر وعلى جسدها "ختم الجودة". ويشعر الرجل بالجرح النرجسي إذا عرف مثلا أن زوجته كانت لها تجارب سابقة على الزواج، وتحديدا تجارب جنسية، رغم أنه لم يكن يعرفها في ذلك الوقت، لكن الأمر يتعلق بعشق الرجل لذاته وتمسكه بأسطورة سيطرته على المرأة، فإذا ضاعت منه عذرية جسدها وهي الشيء الوحيد الملموس والمنظور، ماذا سيتبقى له منها؟! هل سيظهر في الليلة الأولى من الزواج ليباهي بقية الرجال بفكرها وثقافتها ووعيها العميق وتعليمها الراقي أو حسبها ونسبها العريق؟! كما أن زواجه من المطلقة يُشعره بأنه في منافسة مستمرة مع رجل آخر حتى وإن لم يعد موجودا بالفعل، إلا أن وجوده الرمزي يهدد كيانه النفسي لأنه يعتبره سلب منه شيئا كان يتمنى أن يمتلكه وحده.

    رابعا: في حالات التدهور السياسي والتعليمي والاقتصادي والصحي، وبالتالي الثقافي والاجتماعي، تكون بيئة خصبة للتعامل بعنصرية تجاه المرأة باعتبارها الطرف الأضعف، وإحكام القبضة على جسدها كمصدر لتفريغ الشهوة والعدوان في آن واحد. فماذا سيفعل ذكر مقهور أو محروم من معظم حقوقه الإنسانية أو مضغوط اقتصاديا وربما لا يجد عملا ولم يتلق تعليما جيدا ولم ينشأ على ثقافة تحترمه وتجعله يحترم الآخر الذي يعيش معه؟ وكيف سيتصرف ذكر يشعر بالهزيمة النفسية وعدم تحقق الذات وانخفاض الشعور بالقيمة الداخلية ويعاني شرخا عميقا في ثقته بنفسه وإحساسه بالكفاءة؟ وإذا كان الرجل يُكوِّن صورته عن نفسه وكفاءته وتقديره لذاته من خلال قدرته على العطاء المادي والجنسي، فإن أي فشل في هذين الجانبين يعد مصدرا كبيرا للإحباط والإحساس بالدونية والفشل. هؤلاء الأشخاص غالبا ما يبحثون عن آخرين يفرغون فيهم طاقة القهر، كما أشار "مصطفى حجازي" عن سيكولوجية الإنسان المقهور، وهنا يدفع جسد المرأة فاتورة قهر مزدوج. يمكن أن يقتلها الأخ مثلا لإهدارها شرف العائلة الذي ربما يلطخه هو بالاغتصاب أو التحرش الجنسي أو زنا المحارم في الخفاء أو حتى في العلن حيث إن جسده غير المحمل بأي قيمة أخلاقية، لا يعيبه شيء! وتكون الأنثى أيضا في هذه الظروف عرضة لكل أشكال الاستغلال والابتزاز الجسدي، من أول خدمة الذكور داخل الأسرة، والعمل المرهق للإنفاق على نفسها أو عائلتها في حال غياب الذكر رمزيا أو فعليا، وأحيانا الإكراه على العمل في الدعارة لتكتمل دائرة الاستعباد الجسدي في أسوأ أشكالها، وهذا ما شكل لي صدمة حقيقية في بداية حياتي العملية أثناء دراستي على البغايا القاصرات.

    خامسا: في مجتمع الرفاهية الاستهلاكي، استغلال جسد المرأة لا يقتصر على المجتمعات التي تعاني الجهل والتخلف فقط، وإنما أيضا يحدث ذلك بكيفية مختلفة في مجتمعات الرفاهية، وربما هذا ما يسميه ميشيل فوكو "القمع الناعم" الذي يأخذ أشكالا كثيرة: الاستهلاك التجميلي والإعلامي/ الانفلات الجسدي وما يفرضه من استقلالية أدت في حالات كثيرة إلى خلق أجساد للبيع والفتنة وإغواء الآخر وكأنه استعادة لدائرة القهر ولكن بتغيير في مراكز القوى وليس الاحتفاظ بقيمته في ذاته أو الدفاع عن وجوده كجسد غير مهان بالكبت أو إهدار المعنى، وفي الحالتين قد تحول إلى "بضاعة" أو "شيء"، أو ربما إلى "موت الجسد" الذي تكلم عنه "بيير بورديو" أي موت العلاقة بين الهوية الذاتية والجسد الإنساني من خلال عمليات التسليع المتعددة التي تمارس على الجسد في الحداثة.

    سادسا: في حال التوحد مع المعتدي، بسبب طول مدة القهر وشدته، أو قوة المعتدي واستمرار اعتدائه يحدث أن يتحول بعض الضحايا إلى معتدين جدد بل أشد بطشا وشراسة على أنفسهم وأقرانهم. وهذا ما حدث بالضبط مع بعض النساء، أصبحت المرأة الأم أكثر تشددا في تربية ابنتها على أنها أقل من أخيها الذكر، وباعتبارها أداة لمتعة زوجها وكسب رضاه، وهي الأكثر عنفا تجاهها وتشبثا بالموروث الذكوري الذي عانته من قبل أصبحت الآن مدافعة عنه. والمرأة أم الزوج هي الأكثر صراعا مع زوجة الابن. والمرأة الزميلة هي الأقل توافقا مع زميلتها والأكثر التفاتا لجسدها باعتباره جسدا منافسا لها في كسب مودة الرجل وجاذبيته. والمرأة هي الأكثر قتالا نفسيا وانفعاليا مع امرأة أخرى، ولعل الاستيلاء على زوج أو حبيب امرأة أخرى، لا يكون من أجل الرجل في حد ذاته ولكن غالبا ما يحمل في مستوى نفسي ما صراعا على مناطق نفوذ عاطفي وجنسي وأحيانا تتعمد العشيقة ترك أثر لها على ملابس أو جسد العشيق ليكون بمثابة رسالة لزوجته!

    من هنا، ربما يكون المخرج الجذري من هذه الهوة العميقة التي حُبس فيها جسد المرأة خلال عقود طويلة، هو العمل على تشكيل مفهوم جديد يطلق عليه نوربرت إلياس "الجسد المتحضر"، والذي يأتي من خلال صلته بالتحولات التاريخية وعمليات التحضر طويلة المدى التي يمر بها الفرد والمجتمع، بحيث يكون لهذا الجسد المتحضر القدرة على الدفاع عن نفسه وممارسة درجة عالية من الضبط على مشاعره ومراقبة أفعاله وأفعال الآخرين والتخلص من مخاوفه وأدوات قهره واستعباده، وتصبح القدرة على ضبط العلاقة معه خاضعة للمعايير الذاتية الداخلية وليس الخارجية، وما دون ذلك هو محاولات فردية من نساء آمن بحريتهن ومسئوليتهن كإنسان مكتمل، ويدفعن في سبيل ذلك ثمنا كبيرا ما لم يجدن سندا من الأسرة أو المجتمع الصغير المحيط بهن.