فريدة النقاش - كاتبة مصرية
تنبعث مجددا مع التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها مصر بعد موجات الثورة منذ عام 2011 وتنبعث كثير من الأفكار بل والممارسات القديمة التي تميز ضد النساء وتعيد إنتاج المنظومة البالية التي كبلت قدراتهن . ويحدث ذلك ـ للمفارقة ـ رغم المشاركة الهائلة والمميزة لمئات الآلاف من النساء في كل أعمال الثورة ـ وأحيانا بسبب هذه المشاركة تحديدا والتي كانت قد أدهشت وربما أخافت كل القوى المحافظة وفي القلب منها اليمين الديني الذي عاد لينشط دعائيا بعد أن تلقى الهزيمة السياسية المدوية في الثلاثين من يونيو والثالث من يوليو عام 2013 ، وإستطاع أن يبث أفكاره مجدداً عبر القنوات الدينية والجوامع والزوايا الصغيرة .
تتجدد بقوة الدعوى لختان الإناث وما يتورع الداعون عن إلباسها ثوبا دينيا زائفاً ، وذلك بعد أن كانت هذه الممارسة قد تراجعت تحت تأثير الحركة المضادة لها التي نظمتها القوى الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني منذ مطلع الثمانينيات من القرن العشرين ، وأسفرت عام 2008 عن صدور قانون يجرم الختان بعد موت فتيات تحت تأثير هذه العملية ومع ذلك فلم تشدد السلطات العقوبة حين وقعت تحت ضغط المحافظين الداعين لختان الإناث بدعوى الحفاظ على عفافهن وطهارتهن ، فجاءت العقوبة من ثلاثة شهور إلى ثلاث سنوات على أي من الطبيب أو الداية التي يثبت ممارستها للعملية خاصة لو ماتت الضحية ، وقد ماتت بالفعل فتيات كثيرات جراء هذه العملية الهمجية .
وتقول إحصائيات ـ غير رسمية ـ أن نسبة ختان الإناث في مصر بلغت مرة أخرى 92% .
وترتفع أصوات في مجلس النواب تطالب بإجراء كشوف عذرية للطالبات قبل التحاقهن بالجامعة ، وتحظى المطالبة بمتابعة إعلامية واسعة رغم الانتقاد العنيف الذي جرى توجيهه لها .
وأسفرت التغيرات الإجتماعية الواسعة التي حدثت في البلاد في العقود الأخيرة عن تزايد سريع في معدلات الطلاق بخاصة بين الزيجات الشابة لتصل إلى 40% وحين طالب الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي أعلن هذا العام 2017 عاما للمرأة بضرورة عدم الاعتراف بالطلاق الشفوي ، وإلزام الزوج بتوثيق الطلاق ، تصدت له المؤسسة الدينية دفاعا عن الطلاق الشفوي ، وكأنما التوثيق مناف للشريعة ، رغم أنه عملية إجرائية المقصود بها حماية حقوق المرأة والأطفال من بعض نزوات الرجال الذين لا يقدرون مسؤوليتهم عن استقرار الأسرة وتماسكها .
وقال الدكتور " سعد الدين الهلالي " أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر إن التوثيق الرسمي لعقود الزواج والطلاق عرفه المصريون لأول مرة اعتبارا من أغسطس عام 1931 ، وهم يتقربون به إلى الله عز وجل في تغليظ ميثاق جعله الله في كتابه ميثاقا غليظا ، مضيفا في تصريح لجريدة " المصري اليوم " " نجد البعض يطالبون بالحرمان من نعمة الحضارة بالتوثيق الرسمي ، في الوقت الذي ارتضوا فيه بهذا التوثيق في بيع العقارات والسيارات ، وتلاميذ الفقه وعوام الناس يدركون منطقية تبعية الطلاق لوضعية الزواج ، بحيث لو تم الزواج شفويا ، فإن الطلاق بسبب يكون شفويا ، وإذا تم الزواج موثقا ، فإن الطلاق بسبب لن يكون إلا بالتوثيق ، لأن الطلاق هو حل رباط الزوجية ، والحل لا يكون إلا بمثل طريقة العقد " .
وتنص المادة 5 مكرر من القانون 100 لسنة 1985 على أن الطلاق يقع شفهيا ويتم توثيقه لدى المأذون خلال 30 يوما من توقيعه ويقول النائب " عمر حمروش " أمين سر اللجنة الدينية بمجلس النواب " إن لظاهرة الطلاق الشفهي أضرارا مثل وجود النساء المعلقات وأطفال الشوارع ، وهي تمثل نسباً مرتفعة في المناطق العشوائية والشعبية ، ويضيف متفقا مع الدكتور " سعد الدين الهلالي " إن القاعدة القانونية تقول إن ما بدأ مكتوبا يجب أن ينتهي مكتوبا ، فالزواج بدأ مكتوباً بوثيقة ويجب أن ينتهي بنفس الشكل " ، وتشترط كثير من قوانين الأحوال الشخصية في بلدان عربية وإسلامية أن لا يقع الطلاق إلا أمام القاضي أو المأذون .
ولم تنس قوى اليمين الديني وهي تستعيد نفوذها الفكري ولو جزئيا في ظل الأزمة العامة التي تمر بها مصر أن تعديلات جزئية هنا وهناك في بعض القوانين وكانت قد جرت لمصلحة الأسرة عامة مثل قانوني الرؤية للاطفال في حالة إنفصال الأبوين ، أو الولاية التعليمية التي جرى منحها للحاضن أو الحاضنة ، فأخذوا يشنون عليها حملات منظمة عبر أصوات إعلامية واجتماعية تتحدث باسمهم استهدافا لقصر الولاية التعليمية على الأب في كل الحالات بصرف النظر عن وضعه حاضنا كان أو غير حاضن ، وتمديد حصته في الاستضافة لآماد طويلة لو كان الطفل في حضانة الأم ، مع المطالبة بمنح الحضانة للأب في كل الحالات بصرف النظر عن سن الطفل أو وضع الأم .
وتتأسس كل هذه المطالبات والممارسات على مفهوم مركزي في المنظومة الفكرية لليمين الديني والقوى الرجعية عامة وهو دونية المرأة وضرورة الوصاية عليها من قبل الرجل أيا كان وضعها انطلاقا من المبدأ الذي قام عليه قانون الاحوال الشخصية والذي يقول إن الرجل ينفق والمرأة تطيع ، وهو المبدأ الذي لا يزال ساريا رغم كل التغيرات الاجتماعية التي تمت على مدى قرن من الزمان ومنذ أن صدرت الصيغة الأولى لقوانين الأحوال الشخصية منذ عام 1907 ، بينما تعول النساء الآن ما يقارب 30% من الأسر . وهذا المبدأ نفسه هو الذي يحرك قضاة مجلس الدولة في رفضهم لتعيين النساء قاضيات رغم تفوق بعضهن في الدراسة .
وكان حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان عام 1928 هو الذي صاغ الفكرة الأساسية للوضعية الدونية للمرأة لا في إطار الجماعة فحسب وإنما في المجتمع ككل ، وصولا إلى البرنامج العام للإخوان الذي قال إن الولاية الكبرى لا تجوز للمرأة فضلا عن أنواع التحريم التي عددها أحد المتحدثين باسم الجماعة والذي رأى أن معظم مجالات الحياة العامة ـ باستثناء مجال الرعاية ـ لابد أن تظل مغلقة أمام النساء وحين قررت امرأة إخوانية أن ترشح نفسها لعضوية مكتب الإرشاد جرى منعها .
وجرى ترويج مفاهيم الدونية التي يترتب عليها ضرورة الوصاية على المرأة في كل من الحياة الخاصة والعامة لتكتسب خطورتها من الادعاء بأصولها الدينية وتلونت الثقافة السائدة في المجتمع المصري بهذه المفاهيم التي عكست نفسها على السلوك العام وعلى نوعية الملابس ، فانتشر النقاب الأسود للنساء ، والجلباب الباكستاني القصير للرجال على نطاق واسع .
* * *
وتنقسم نظرة اليمين الديني لجسد المرأة إلى شقين يبدوان متناقضين ظاهريا ، الشق الأول يرى أن جسد المرأة عورة وهو مجال الشهوة ، ومصدر الإغراء والفتنة ، والمحرض على الخطيئة ، هو أيضا باب الشيطان ، وعنوان الدنس ، وهي فكرة شائعة في الأساطير والفلسفات وبعض الديانات ، ولذا تتراكم الأدبيات التي تحذر الناس منه ، وتدعوهم إلى إخفائه إما في البيت أو خلف الملابس .
أما الشق الثاني فيرى الجسد مقدسا ورمزا للخير وعلامة العطاء والخصوبة والامومة ، وتجرى أيضا محاصرته باسم حمايته ومن ثم إخفائه وتترتب على هذه الفكرة التي هي مركزية في المنظومة مجموعة من الممارسات الوصائية التي تدعي حماية النساء ، وعبرت مبادرة المرشد العام للإخوان للإصلاح عام 2004 عن هذا المفهوم بالقول إن المرأة كائن طاهر ، وتحدثت عن طبيعة خاصة لها ، ودعت إلى صيانة عفافها وحمايتها .
وهناك إلى جانب هذه المنظومة فكرة رائجة بدورها عن جسد المرأة وإن لم ترتبط مباشرة بالدين أنتجتها الرأسمالية الليبرالية الجديدة المتوحشة وهي الجسد السلعة ، إذ تستخدم الشركات جسد المرأة في الإعلان عن البضائع ، ويتحول الجسد هو نفسه إلى بضاعة في الأفلام الإباحية وشبكات الدعارة .
وشكل كل هذا بيئة مناسبة لنمو التطرف باسم الدين وولادة الجماعات التي سمت نفسها جهادية وهي تكفر الآخرين والتي حملت السلاح مجددا ضد القوات المسلحة والشرطة ، ومارست عمليات اغتيال منظمة .
ولم يكن هذا الواقع الثقافي الذي راج في ظل التطلعات التجارية الاستهلاكية التي ضربت المجتمع المصري مع نمو الرأسمالية الوحشية هو وحده المسؤول عن تراجع أوضاع النساء ومكانتهن وصورتهن ، وتجذر الطابع الأبوي الذكوري للعلاقات الإجتماعية ، والذي يستهدف إبعاد النساء من القضاء العام وتهميشهن .
فقد لعبت التغيرات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي بدأت مع سياسة الانفتاح في مطلع السبعينيات من القرن الماضي ، وتواصلت إلى ما بعد موجات الثورة أدواراً أساسية في إحداث هذا التراجع الذي أصاب أوضاع النساء ، وشكل عقبات رئيسية في طريق تقدم هذه الأوضاع وتغييرها إلى الأفضل ، بوضع أهداف الثورة موضع التنفيذ .
* * *
من الثابت في الواقع وبالإحصائيات أن الازمة الاقتصادية الاجتماعية المركبة التي تواجهها مصر بعد موجات الثورة قد انعكست بصورة مضاعفة على أوضاع النساء فبين الفقراء نجد أن النساء هن الأكثر فقراً ، وبين العاطلين النساء هن الأكثر عرضه للبطالة ، إذ بين كل أربعة عاطلين هناك ثلاث نساء كما يقول الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ، وبين الأميين النساء هن الأكبر عددا ، وبين المتسربين في التعليم فتيات أكثر من التلاميذ الذكور ، وبين العاملين في القطاع الهامشي غالبية من النساء اللاتي يقمن أيضا بكل العمل غير المدفوع الأجر داخل الأسرة وأحيانا خارجها خاصة في الريف وبينما تشارك 20% من النساء في أعمال الزراعة في الريف فهن لا يملكن سوى 7% من الأراضي وغالبا ما يجري حرمانهن من الميراث خاصة إذا كان هذا الميراث أرضا رغم مخالفة ذلك للقانون إذ ينتصر عليه العرف وأثبتت دراسة لصندوق النقد الدولي تابعت حجم الخسائر الاقتصادية بسبب الغياب النسبي للفرص أمام النساء في عدد من البلدان أن رفع نسبة مشاركة الإناث في القوى العاملة إلى مستويات مشاركة الذكور من شأنها أن ترفع إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في مصر بنسبة 34% .
وتشير منظمة العمل الدولية إلى ان عمل المرأة مدفوع الأجر وغير مدفوع الأجر يمكن أن يكون أهم عامل على الإطلاق للحد من الفقر في الاقتصادات النامية ومن ضمنها الاقتصاد المصري .
وتؤكد لنا كل هذه الحقائق حجم الخسائر التي تتكبدها اقتصاديات البلدان وأوضاعها الاجتماعية جراء إقصاء النساء وتهميشهن وتحول الثقافة المعادية لهن إلى قوة كبح لتقدم المجتمعات عامة ، ولأن النساء يشكلن القوة الاجتماعية الأضعف وغير المنظمة فإن الخسارة تصيبهن بشكل مضاعف رغم إسهامهن في الإنتاج والقيام بكل أعباء الرعاية ، والعمل غير مدفوع الأجر ومنخفض الاجر .
* * *
ويشكل ضعف الحركات النسوية والمنظمات الديمقراطية عامة في ظل القيود على الحريات عنصرا إضافيا يضعف قدرة النساء على المواجهة ، خاصة أنه برغم تنوع هذه المنظمات وإنتشارها أهلية وحكومية فإنها عجزت ـ حتى الآن ـ عن بلورة استراتيجية شاملة لمواجهة هذا الواقع الجديد ، ستراتيجية تضعها وتتوافق عليها كل القوى التي شاركت في موجات الثورة وصاغت أهدافها وقدمت عطاء سخيا في سبيل وضع هذه الأهداف موضع التنفيذ .
ولا يكفي في هذا السياق أن تكون الرؤية العامة لهذه الإستراتيجية واضحة لجماهير النساء ، وإنما لابد أن يجري ترجمتها لأهداف تفصيلية تتبناها المنابر الإعلامية الصديقة ، وتروجها النساء الناشطات بكل الوسائل بصورة هجومية عقلانية ، على كل الأفكار البالية والتحيزات المسبقة ضد النساء على اعتبار أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم .
ولا يكفي أيضا في هذا السياق نشاط الطليعة المكافحة لأن شرطا من شروط النجاح يكمن في اجتذاب الآلاف بل الملايين من النساء البسيطات أصحاب المصلحة الأكيدة في التحرر إلى الساحة ، وهو ما يمكن أن يتم دون بلورة مفهوم التحرر الذاتي للنساء ليصبح جزءً عضويا من حركة التحرر المجتمعي والوطني الشامل ، فلن تتحرر النساء وحدهن دون ديناميكية مجتمعية تستهدف تقدم المجتمع كله ، ذلك أن القول بأن كفاح المرأة هو موجه ضد الرجل ينتمي إلى الأفكار البالية التي كذبها التاريخ .
وفي هذا الوقت الذي يشهر فيه اليمين الديني سلاح الفكر ضد تحرر المرأة مستخدما نصوصا دينية منتزعة من سياقها ، وقراءتها قراءة حرفية تكتسب معركة تجديد الفكر الديني أهمية قصوى متقدمة على كل الاولويات الأخرى ، ويتسع نطاق مثل هذا التجديد ليتجاوز الفكر الديني إلى ساحة الثقافة عامة حيث لابد من إشهار سلاح الفكر النقدي ، والإعلاء من شأن العلم والحداثة ، وإصلاح التعليم جذريا . يقول ولي أمر أحد التلاميذ إن أولاده كانوا يتعلمون في مدرسة دولية فكانوا يتحدثون لدى عودتهم من المدرسة عن الطبيعة والطاقة والبيئة وحركة الكواكب ، وقد اضطر الأب لنقلهم إلى مدرسة حكومية لظروف اقتصادية خاصة فتغير حديثهم بعد العودة من المدرسة ليدور حول الجن وعذاب القبر والسحر ، وكل أنواع الخرافة .
ولمن يهزم القرون الوسطى الزاحفة إلينا في ثياب دينية زائفة سوى العلم والفكر النقدي والعدالة وتحرير الوعي الجمعي من قبضة الخرافات والأفكار البالية ، ومن ضمنها التحيزات ضد النساء وهي عملية صراعية نضالية طويلة المدى ، فكل ما يعوق التقدم الإنساني ويعطل انفلات النساء من أسر القديم تم تاريخيا ولن يزول إلا تاريخيا ، ولكن من حظنا نحن النساء أن ثورة الاتصال فتحت لنا آفاقا بلا حدود للإسراع بعملية تحررنا الشامل ضمن مسيرة الشعب المصري في اتجاه وضع أهداف الثورة موضع التنفيذ ، فلنحتفل بيوم المرأة العالمي ويوم المرأة المصرية ونحن مرفوعات الرءوس .