في مئويتها.. محمد وحنا في ثورة 1919
رصد التاريخ أن لكل ثورة أسباب ومبادئ
وأهداف وشعار، وإن كنا بصدد الحديث عن ثورة 1919 التي تقترب ذكراها المئوية، فهي ثورة الوحدة الوطنية ضد طغيان
الإحتلال، وكان هدفها استقلال كل شبر في القطر المصري عن براثن الإنجليز، ففي
التاسع من مارس 1919 اندلعت الثورة بعد أن تم نفي زعيمها سعد زغلول ورفاقه، فقد
شاع في ذلك اليوم الخبر وعرفه طلبة المدارس فبدأت الثورة في القاهرة، فالجميع يعلم
أن النفي يعني الإبعاد مدى الحياة، والمنفي هو حبيب الشعب المطالب باستقلاله.
كرومر يعترف
ظهرت الوحدة الوطنية في ثورة 1919
بأروع صورها، فكانت هتافات المتظاهرين لا تخرج عن عبارات "عاش الهلال مع
الصليب" و "الوطنية ديننا والإستقلال حياتنا" ، والشعار الأكثر
شمولاً ووطنية هو ما أطلقه سعد زغلول " الحق فوق القوة، والأمة فوق
الحكومة" ، والأمة في شعار سعد تعني كل فئات وأطياف المجتمع المصري دون
تفرقة، وأطلق مكرم باشا عبيد تصريحاً جعل رؤوس المتظاهرين تدور عندما قال "
أنا مسلم وطناً ومسيحي ديناً" وهذا ما جعل المسلمين والأقباط أشد رباطاً
وتماسكاً ، وقد ظهرت ألاعيب الإحتلال في وصف الثورة بأن أسبابها التعصب ضد
الأوربيين واضطهاد دينهم، لكن التفاف الأقباط المصريون حول سعد زغلول وذوبانهم مع
المسلمين في الجهاد أفشل تلك المزاعم ، وهذا ما شهد به المعتمد البريطاني اللورد
كرومر، بأن سياسة "فرق تسد" فشلت في مصر، وكتب أن الأقباط أنفسهم واجهوا
الإنجليز بمشاعر العداء، رغم وحدة الدين، وأنه رأى الوحدة في لهيب التظاهرات ولم يقدر
على التمييز بين المسلم والمسيحي، وأكد أن الإختلاف بينهما في مصر
فقط هو اختلاف العقيدة.
الضحايا مصريون
في التاسع من مارس بدأ الطلبة الشرارة
الأولى لمظاهرات 1919، وانطلق الرصاص من بنادق الإنجليز لا يفرق بين مسلم ومسيحي،
فسقط 12 قتيلاً كان من بينهم ثلاثة من الأقباط، واعتقل الإنجليز 300 طالب من جموع
المتظاهرين، فبدأت فئات الشعب في الغليان وحملوا شهداء الوطن على أعناقهم في
جنازات طافوا بها أرجاء القاهرة، ليخرج كل المصريون والدماء تغلي في عروقهم، فانضم
العمال والتجار إلى الطلبة في ثورة عارمة، قطعوا فيها خطوط السكك الحديدية واحتلوا
دور الحكومة ومراكزها، وانلعت الثورة لتشمل كل محافظات مصر، فبدأ الفلاحون في قطع
خطوط القطارات التي يستخدمها الإنجليز في التنقل ونقل المؤن والسلاح، وانطلقت
الرصاص من بنادق الإنجليز ليصيب المتظاهرين وهو لا تفرق بين مسلم وقبطي، لتصبح
ثورة 1919 أول ثورة تدعم مفهوم الوحدة الوطنية في مصر.
مسرحية محمد وحنا في الثورة
كان للفن أيضاً دور كبير في ثورة
1919، وسوف نفرد له موضوع آخر، لكن وجب في إطار الوحدة الوطنية للثورة أن نلقي
الضوء على الدور الفريد الذي قام به الفنان حسن فايق، فبرغم مظهره الطيب ونهجه
الكوميدي في مسيرته الفنية، إلا أنه كان أشد نجوم الفن ضرواة في مقاومة الإحتلال
في ثورة 1919، فقد جند نفسه وفنه لخدمة الثورة، فبدأ في تأليف الشعارات
والمنولوجات التي تلهب حماس الجماهير، وتزيد من إصرارهم على نيل الإستقلال، فمن لا
يعرف حسن فائق فهو بجانب عمله ممثلاً ، كان منولوجست ومؤلف أغاني ومنولوجات ..
وكان في الصفوف الأولى للثورة ، ومن الطريف أنه كان يخرج هو وفرقته بملابس
التمثيل، وذات مرة خرج وفرقته بالملابس البدوية وقاد تظاهرة تناهض الإحتلال، وعند
محاولة الإنجليز اللعب على وتر الفتنة الطائفية بين المصريين، قدم حسن فايق وفرقته
مسرحية تلهب الروح الوطنية بعنوان "محمد وحنا في ثورة 19" .
المسجد والكنيسة منابر للجهاد
إن كانت ثورة 1919 لم تحقق كل أهدافها
ويتم جلاء الإنجليز عن مصر فيها، فيكفي أنها رسخت مبدأ شديد الأهمية وهو مبدأ
المواطنة، فقد تزعم سعد زغلول الوفد الذي أشرك فيه فخري عبد النور وويصا واصف
وتوفيق اندرواس وواصف غالي ومكرم عبيد وسينوت حنا، وفي أوج المظاهرات اتخذت
المساجد والكنائس منابر لدعوة المصريون إلى الجهاد، فقد كان القمص مرقص سرجيوس ،
القس القبطي يخطب فوق منبر الأزهر، والشيخ أبو العيون يخطب في كاتدرائية الأقباط ..
وردد جموع المتظاهرين شعارات الوحدة الوطنية، وحملوا الأعلام والرايات التي تحتوي
على الهلال والصليب، والتي تجسد نضال الوحدة الوطنية في أبدع وأروع صورها ضد
المغتصب الذي حاول فك المجتمع بمكره الذي داست عليه أقدام المصريون كبداية لتأكيد
وحدتهم وتماسكهم كسبيكة واحدة ونسيج واحد.