رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


عبدالحليم .. بين الذين أحبوه والذين سرقوه

3-4-2017 | 14:49


بقلم : حسن إمام عمر

مرة أخري أعود إلي ذكرياتي مع الراحل الغالي عبدالحليم حافظ بعد أن تلقيت العديد من رسائل القراء الذين يطالبونني بالمزيد من المعلومات بحكم مواكبتي له في مشوار حياته منذ بدأ يتحسس عتبات الفن كما قدر لي أن أكون بجانبه في آخر أيامه وهو علي سريره بمستشفي كنجز كوليج بلندن.

ومن الأمور التي يهمني أن أسجلها في البداية أن عبدالحليم كان يهمه في المقام الأول إسعاد أهله والمحيطين به وتوفير الحياة الكريمة لكل واحد منهم.

إن حياة الفقر التي عاشها مع شقيقيه إسماعيل ومحمد وشقيقته علية بعد وفاة والدهم، والسنوات الثماني التي قضاها في ملجأ الزقازيق كانت بمثابة الشبح الكريه الذي يتمني أن يختفي نهائياً من حياته، ليستمتع مع أسرته بمباهج الحياة مثل سائر الناس.

لقد أحس بالواجب الملقي علي عاتقه بعد أن تفجرت موهبته وبدأت تدر عليه الدخل الذي كان يحلم به. أحس بأنه قد آن الآوان لكي يرد الجميل لكل من قدم له شيئاً يخفف عنه مرارة الحرمان خلال طفولته وصباه. إن من حق شقيقته علية التى كانت له بمثابة الأم التي سهرت علي رعايته والاهتمام به سنوات طويلة أن تجد البيت الذي ترتاح فيه والزوج الذي تسكن إليه. لذا كان أسعد يوم في حياته عندما تقدم له عبدالقادر الشناوي شقيق النجم كمال الشناوي ليتزوجها، ولم يدخر جهدا في سبيل تهيئة البيت السعيد لها، ولست أنسي قوله يومذاك:

- النهارده زي ما يكون فرحي تمام .

وأيضا شقيقه الأكبر إسماعيل الذي كان له بمثابة الأب والأستاذ معا، فقد سبقه إسماعيل إلي دراسة الموسيقي وكان كلما لقيه واجتمع به في أيام الإجازات يشجعه علي الاستمرار في تعلم آلة _الكلارنيت_ التي يتدرب عليها في الملجأ ويمارسها خلسة مع حنفي رئيس فرقة مطافي الزقازيق، حتي إذا حصل إسماعيل علي دبلوم معهد الموسيقي العربية، وأراد أن يدخل المعهد العالي للموسيقي المسرحية واتته فكرة ادخال عبدالحليم معه في قسم الآلات، وقد تحقق ذلك بسهولة ويسر عندما اجتاز امتحان القبول بتفوق بعزفه علي آلة الكلارنيت التي تشبه إلي حد كبير آلة _الابوا_ التي تخصص فيها. والمعروف أن إسماعيل كان أول دفعة في معهد الموسيقي، وهو يمتاز بصوت جميل قادر علي الأداء لكل الموشحات والأدوار القديمة، مما أهله أن يعتمد كمطرب في الإذاعة قبل عبدالحليم بأربع سنوات، وكان حليم من أكثر المعجبين بصوت أخيه الأكبر، ويحاول ترسم خطاه، وكان يقول دائماً عنه حتي بعد أن ذاعت شهرته كمطرب يتقدم الصفوف:

- إسماعيل مطرب ممتاز، وصوته من أحلي الأصوات التي تطربني وتشجيني.

وكان عبدالحليم يشعر بحساسية شديدة ازاء أخيه الأكبر، ويحاول جاهدا أن يعوضه عن عدم اللحاق به في قطار الشهرة وحتي يكون بجانبه كما كان معه في شقة المنيل أيام الدراسة أجر له شقة في عمارة السعوديين التي سكنها في الخمسينيات، وجدير بالذكر أن حليم ظل يعامله كوالد وأستاذ، وكان يعمل له ألف حساب، ويخشي كثيرا من تأنيبه له علي بعض تصرفاته مثل رعاية صحته والسهر أكثر من اللازم، ولعلي أذيع سرا إذا قلت أن العلاقات بينهما في السنوات الثلاث الأخيرة كانت شبه متوترة بسبب عدم رضا إسماعيل عن تفريط حليم وتهاونه في صحته بالسهر الكثير وعدم اتباع أوامر الاطباء بوجوب الخلود إلي الراحة والهدوء. والمعروف أن عبدالحليم كان يدرك هذا جيدا، وطالما كان يعدنا وهو علي فراش المرض بعدم العودة إلي السهر، ولكنه عندما يسترد صحته قليلا يعود إلي ما كان عليه قبل حالة النزيف التي كانت تعاوده من حين إلي آخر . وكان يقول انه يخشي الليل كثيرا ويهرب أثناءه من فراشه الذي لا يعود إليه إلا مع تباشير الصباح عندما يصحو كل من في البيت ويجد في يقظتهم بجانبه الطمأنينة والأمان.

وربما استقر هذا الخاطر في رأس عبدالحليم من ملازمته فترة طويلة للمرحوم كامل الشناوي الذي كان يرعاه في سنوات شهرته الأولي ويؤثر فيه بتوجيهاته وإرشاداته. فقد كان المرحوم كامل الشناوي لا ينام الليل ولا يأوي إلي فراشه إلا مع خيوط الفجر تقريبا. وكان حليم بحكم مصاحبته له في سهراته قد أخذ عنه هذه العادة ولم يعرف كيف يتخلص منها.

ولم يشأ عبدالحليم كذلك أن يترك شقيقه محمد يعاني من أعباء وظيفته الصغيرة التي تدر عليه مرتبا لا يسمن ولا يغني من جوع فعهد إليه بمهمة السكرتير الخاص الذي يتولي الجانب الإداري والمالي من أعماله، ويعفيه من مهمة الاتصالات الروتينية وعلي فكرة محمد يمتاز أيضا بصوت جميل، بالإضافة إلى إجادته ترتيل وتجويد القرآن الكريم وكان حليم يطلق عليه لقب -الشيخ محمد- وكان يطلب منه دائما زيارة المشايخ وأهل البيت لقراءة الفاتحة والدعاء له. من أجل هذا ترك له عبدالحليم شقة عمارة السعوديين عندما انتقل إلي شقة عمارة الزهراء بالزمالك.

 

أما ابن خاله شحاتة، رفيق صباه والذي يدين لوالده بالكثير من الرعاية في طفولته، فقد استدعاه من البلد وعهد إليه بمهمة مصاحبته في كل حركاته ليكون درع أمان له من عبث العابثين، نظرا لما يتمتع به من جسم رياضي وعضلات مفتولة. وقد ظل شحاتة يلازمه كظله ويحمل له جميع الأدوية التي ىتعاطاها من وقت لآخر، ويسافر معه في كل رحلاته إلي الخارج سواء للعمل أم للعلاج، ويسهر علي راحته وتلبية كل طلباته حتي آخر لحظة في حياته وهو في مستشفي كنجز كوليج بلندن، وكان شحاتة يعيش معه في شقته بالزمالك هو وزوجته فردوس أو _دوسة_ - كما كان يناديها عبدالحليم - التي كانت تشرف بدورها علي سائر أمور البيت.

وكان هم حليم - كما قال لي أكثر من مرة - أنه يخشي بعد رحيله أن يتفرق شمل الأسرة أو يدب بينهم الخلاف، وكان يبغي من وراء كتابة وصية أن يعطي كل واحد منهم حقه بحيث لا يشعر بأي نقص في غيابه. والمعروف أنه حاول مرتين كتابة وصيته، الأولى منذ خمس سنوات قبل سفره إلي أمريكا ولكن عدل عنها، والثانية أثناء مرضه الأخير قبيل وفاته، وقد كتبها فعلا بخط يده وأعطاها لمجدي العمروسي الذي وعده بصياغتها قانونيا بعد شفائه لوجوب توثيقها رسميا حتي تكون لها الشرعية القانونية.

ولم ينس عبدالحليم باقي أهله وأقاربه في بلدته الحلوات، فأنشأ كما هو معروف وحدة صحية للعلاج من البلهارسيا التي كانت سبب عذابه وبلواه، ويسر لهم ماكينة لتوليد الكهرباء، بل لقد اشتري منذ ست سنوات عزبة قريبة من بلده مساحتها 103 أفدنة اشتراها بالتقسيط بمبلغ 18 ألفا من الجنيهات، ولما كانت الأرض بورا واستنفدت أكثر من ثمنها في ثلاث سنوات عدل عن المشروع وتخلص منها.

هذا عن رعايته لاسرته وأقاربه وأهل بلده ومحاولته الدائمة لاسعادهم وتوفير الحياة الكريمة لهم. أما بالنسبة لاصدقائه والمحيطين به فقد كان أيضاً كريما جدا معهم ولا يبخل عليهم بشيء من احتياجاتهم وطلباتهم، وكلنا يعلم كيف أن عددا منهم أثري وكون ثروة من مصاحبته والانتفاع بوجوده في ركابه، حتي أن أحد الصحفيين الشبان الذين كانوا يلازمونه كظله عرف كيف يجمع رصيداً يزيد علي المائة ألف جنيه في أقل من خمس سنوات بما كان يحصل عليه من هبات مالية وسيارات من أصدقاء عبدالحليم من الأمراء والمشايخ العرب باعتبار أنه صديق عبدالحليم الحميم الذى لا يفارقه.

ولعل هذا كان السبب الرئيسي في محاولتي الابتعاد عن سهرات ورحلات عبدالحليم في سنواته العشر الأخيرة التي تزايد فيها عدد أصدقائه من الأمراء.. وقد صارحته بذلك عندما عاتبني عن مجافاته وهو علي فراش مرضه الأخير بلندن، وبصرته بما يقال عنه وعن جمعية المنتفعين من حوله.

وحكي لي حليم الكثير مما عاناه من بعض الأصدقاء الذين خدمهم وكان جزاؤه منهم الجحود والنكران بل وأحيانا الاساءة إليه وسرقته. حكي لي عبدالحليم وأنا إلي جانبه علي فراش مرضه الأخير بلندن قصة ذلك الصديق الذي كان يلازمه ليل نهار لرعاية حالته الصحية والإشراف علي أخذ الحقن والدواء في المواعيد المقررة. لقد كان عبدالحليم يمنحه أجرا شهريا يوازي خمسة أمثال الأجر الذي كان يتقاضاه من عمله الأصلي بخلاف الهدايا القيمة من ساعات وولاعات وخلافه. وكان يأتمنه علي كل شيء في بيته وفي غرفة نومه مما لا يمنحه لأحد من أخوته وأقاربه. وكان هذا أيضا موضع لوم إسماعيل له في كثير من الأحيان.

ولكن هذا الصديق لم يرع الأمانة، وكان ينتهز الفرصة ويستولي علي ما تصل إليه يده في غفلة من عبدالحليم من مال أو هدايا لها قيمتها. وقد أدرك عبدالحليم فقد كثير مما في جيوبه ودواليبه وحار في هذا الأمر فترة حتي تركز الشك في هذا الصديق، وأراد أن يصل إلي اليقين قبل أي تصرف آخر. فكان أن ادعي ذات ليلة أنه أخذ بعض الأقراص المنومة بغية الراحة والنوم، وتصنع النوم فعلا، فلاحظ بعد دقائق من تناومه أن الصديق الذي يجلس إلي جانبه في الفراش بدأ يتحرك في الغرفة، ويفتح الدولاب الذي يحتفظ فيه حليم بالنقود، وراقبه بنصف عين وهو يأخذ منها ويضع في جيوبه. وهنا هب عبدالحليم من فراشه وفاجأه بقوله.

- اخص عليك.. هو ده برضه جزاء الأمانة ثم صرخ فيه قائلا:

- امشي اطلع بره.. اوعي توريني وشك تاني.. أنا أفضل إنى أموت علي انك تكون جنبي!!

واكتشف عبدالحليم بعد ذلك كيف أن هذا الشخص كان يلجأ أحيانا إلي حقنه بمخدر يجعله ينام ويغيب عن وعيه ليتمكن من الحصول علي ما يريد من مال ومن كل شيء قل حجمه وغلا ثمنه من الهدايا التي يحتفظ بها عبدالحليم.

وجدير بالذكر أن هذا الشخص الذي ظل بصحبة عبدالحليم حوالي ثلاث سنوات، استطاع أن ينفذ مشروعا كلفه حوالي مائة وخمسين ألفا من الجنيهات مع أنه كان لا يملك سوي مرتب لا يسمن ولا يغني من جوع.

وحكي لي عبدالحليم قبل وفاته بأيام الكثير والكثير عن أصدقائه والمحيطين به.. فإلي العدد القادم..

الكواكب 1345 - 10 مايو 1977