النرجسية أو الإعجاب المبالغ فيه بالذات.. صفة وضحت علي غالبية من تحدثوا عن أحلي الأصوات العربية بعد رحيله عن الحياة. الكل باستثناء قلة ينتهز هذه المناسبة لكي يتصور انه مركز الاشعاع وانه أفاد عبدالحليم وانه صاحب أفضال علي المطرب الراحل وبالتالي علي فن الغناء العربي.. والمحنة أن كلمات الرثاء المفترض فيها الصدق تحولت إلي عبارات نرجسية ترضي ذاتية المتكلم، لكنها لا تفيد ولا تكرم هذا النغم الرائع المفقود..
في حياة أم كلثوم ورغم الهوة الشاسعة بين فنها وفن الاخريات، إلا بعض الأخريات.. كان لهن جمهور وحفلات خاصة، لم تؤثر فيها عظمة غناء أم كلثوم ولا تفردها بلون وأداء وحضور خاص. ومع هذا كان هناك حفلات لكل من فايزة أحمد وشادية ونجاة وغيرهن بينما في أصوات الرجال لم يكن هناك غير عبدالحليم حافظ المطرب الذي تقام باسمه الحفلات الغنائية.. والمطرب الوحيد من الجيل الذي ظهر بعد فريد الأطرش الذي يمكن نسبة نجاح الحفل إليه.. ومعظم المعاصرين لعبد الحليم من الأصوات التي تلته في الظهور لم يستطع أي منهم أن يقيم حفلا بمفرده يذهب إليه الناس دون أن تشاركه واحدة من نجمات الغناء.. وهكذا كانت أكبر ناحية علي فقدان عبدالحليم هذا الشكل الذي تقدم به الاغنيات والتي يحب الناس أن يستمعوا فيها إلي الغناء الطازج وأقصد الحفلات الغنائية.
والمتأمل لهذا السيل المنهمر من حلقات الرثاء التي سيطرت علي برامج الإذاعة والتليفزيون وبعض أبواب الصحف .. يلاحظ إلي أي حد كانت _النرجسية_ في تناول الأمور حتي ولو تعلقت بغياب صوت جميل ترك أغلي البصمات علي الغناء العربي.
أحدهم يتردد علي معظم برامج التليفزيون وكأنه يخرج من ستوديو ليدخل آخر نفس الشخص يطارد أذن المستمع في معظم برامج الإذاعة التي نفذت عن الراحل العزيز، وهو لا يكتفي بهذا الانتشار المرفوض لكنه يضع القصائد النرجسية التي تفيد إلي أي حد لعب هو دورا في تكوين ملامح النجم عبدالحليم حافظ وكيف نصحه وكيف وجه وكيف تأثر به وكيف رسم له الطريق.. وكان هذا الضيف المعلم الأوحد للفن والفنانين.. هل يتصور مثل هذا المتحدث أنه يسيء إلي ذكري عبدالحليم بهذه الثرثرات وبهذا العشق للذات؟
وهذه المطربة التي ظهرت علي شاشة التليفزيون تتصنع الحزن والبكاء وأي متفرج صغير للتليفزيون يستطيع أن يدرك انها حاولت أن تكون ممثلة جيدة ولكنها فشلت في هذا الامتحان المصاحب لرحيل نجم الغناء العربي الذى سبق أن هددته علي صفحات مجلة لبنانية في موضوع عنوانه _أعرف كيف يقف عبدالحليم عند حده؟!_ وإذا بصاحبة أصعب المواقف من مواجهة النجم الراحل تتحول إلي باكية، قائلة أنها فقدت أعز صديق وأعظم إنسان وتتحول إلي صاحبة مرثيات في الصحف والمجلات ومن خلال الراديو والتليفزيون في محاولة يائسة لجر عطف عشاق فن عبدالحليم إليها.. وأعتقد أن جمهورنا البسيط الذي ينفعل بتلقائية صادقة عنده من القدرة علي التمييز ما يجعله يدرك الصادق من الزائف من الأقوال وبما يأتي بنتيجة عكسية بعد أن وقع الناس ضحية الإعجاب بها لفترة محدودة متأثرين بكم هائل من الدعاية والإلحاح، وإلي جانب كسل الآخريات مما جعل هذه المطربة تعيش كما يقول العقلاء _ خلا لكي الجو فبيضي وصفري_!!
وهذا الذي يكتب في الصباح التالي لرحيل عبدالحليم حافظ رثاء يصل إلي كم هائل من أعمدة الكلام ثم لا ينسي أن يضع صورة مطرب آخر قائلاً انه كان زميل مشوار عبدالحليم ونضاله.. ماذا يعني هذا؟ ألم نتعظ من رحيل أم كلثوم وسذاجة الجدل الذي طرح بعد رحيلها عمن يخلف أم كلثوم ثم إذا بوفاة عملاقة الغناء العربي تؤثر علي الأصوات التي تصورت انها تخلف أم كلثوم، ويهتز مركز هذه الأصوات لمجرد تفكير الناس في هذا المقارنة.. واليوم يحاول البعض أن يعود إلي نفس النغمة.. ولكننا نبادر قائلين إن العزف علي هذه النغمة يسيء إلي الأصوات الموجودة بالفعل، لأن عبدالحليم ترك رصيدا طيبا من الاغنيات والتسجيلات تصل إلي أكثر من 300 أغنية إلي جانب 15 فيلما، والمقارنة بين الرصيد الخالد وجهد الآخرين يضعف مركزهم الفني .. لهذا نرجوا احتراما للراحل العزيز وعطفا علي الأصوات الرجالية الموجودة، ألا نفتح باب مثل هذه المناقشات المثيرة للاستقرار.
وهذه المقدمات الكلامية وبعضها صادق دون شك ولكن المبالغة فيها والتركيز علي الانطباعات الذاتية سبب الكثير من الأذي النفسي لمن يتابعون هذه البرامج.. وصحيح أن هناك برامج كانت عاقلة في تناولها لشخصية عبدالحليم الفنان والانسان، مثل برنامج _كاميرا9_ والحلقة الخاصة من البرنامج الجيد _زووم_. لكن غالبية البرامج سيطرت عليها النزعة النرجسية باستثناء اللقاءات مع أفراد أسرة الراحل العزيز والأحاديث الجيدة التي قدمها التليفزيون مع الأستاذ مصطفي أمين، والدكتور يوسف إدريس، فهما الوحيدان اللذان خرجا من إطار النرجسية إلي اعطاء عبدالحليم قدره من التكريم والتقدير في وجوده وبعد رحيله.
نخرج من هذا إلي السؤال الهام: كيف نكرم عبدالحليم حافظ؟!
انتهي وقت الرثاء ومل الناس كرار كلمات الرثاء وبقي أن ننظر في أمر تكريمه.
أتصور أن هيئة السينما مطالبة بإقامة أسبوع لأفلام عبدالحليم حافظ في واحدة من دور العرض التي تملكها في كل من القاهرة والإسكندرية وعليها أن تختار من أفلامه الخمسة عشر، أهم هذه الأفلام وأن تتغلب علي العوائق التوزيعية الخاصة بتبعية هذه الأفلام لمنتجين متفرقين وهذه المصاعب الإدارية لا تهم المتفرج، وكل ما يهمه أن يري أنجح علامات عبدالحليم في السينما.
بدايته في _لحن الوفاء_ و_أيامنا الحلوة_ تعبيره عن جيله في _بنات اليوم_ ظهوره في أول فيلم مصري سكوب ألوان _دليلة_ ثم تتابع أشهر أفلامه _الخطايا_ و_حكاية حب_ و_معبودة الجماهير_ و_أبي فوق الشجرة_.. وأتصور أن التليفزيون مطالب بتنويع الأفلام التي يقدمها لعبد الحليم فلا يعيد بعضها حتي نحفظه ونمله بينما لا يعرض البعض الآخر مثل دليلة، وأيامنا الحلوة وأتصور أن الإذاعة مطالبة بحصر شرائط عبدالحليم حافظ والأغنيات والبرامج والتسجيلات حتي لا تتسرب وتباع إلي الخارج كما حدث بالنسبة لتسجيلات الراحلة العظيمة أم كلثوم، كما أتصور أن إذاعة الشرق الأوسط وهي تقدم يوميا برنامج _ما يطلبه المستمعون_ في فترة الظهيرة، عليها أن تخصص حلقة _الجمعة- أسبوعيا لأغنيات عبدالحليم وحده.
وأتصور أن تقوم جهة موسيقية سواء من الجهات التابعة لأكاديمية الفنون، أو اللجان الموسيقية، بطبع النوت الموسيقية لاغنيات عبدالحليم وتوزيعها في كتيب بسعر رمزي حتي يمكن أن تزدهر ألحان أغنياته بعد رحيله.
وأتصور أن تطبع علي كاسيت كل أغنيات عبدالحليم القديمة والحديثة، العاطفية والوطنية، وهو الذي غني لكل أعيادنا القومية..
وأتصور أن يصدر كتاب قيم يكتبه متخصص في الموسيقي والغناء، يتناول فني عبدالحليم بالتحليل والتقييم لأن المكتبة لا تضم سوي الكتب الانطباعية المثيرة للعقول دون تقديم مؤلف حقيقي سواء من الناحية الأدبية أو الفنية.
وأتصور أن يعود للإذاعة ما يسمي بمختارات الاذاعة وهي الشكل الذي ظهر منه انتاج عبدالحليم الغنائي، لأننا بهذا نضمن أن تقوم جهة محايدة بإبراز الغناء المصري وتبني الاصوات الجديدة والالحان والكلمات الشابة، والمطلوب كما كان يطلب عبدالحليم في دنياه، أن يعود للإذاعة دورها القيادي في مجال إنتاج الاغنية مع قيام جهة فنية بتنظيم مسابقة للأصوات الجديدة تحمل اسم عبدالحليم حافظ المطرب الذي أثرت طريقة غنائه علي مدي ربع قرن في كل الأصوات الغنائية التي ظهرت بعده من الرجال.
** البحث عن شكل لتكريم فن الراحل العزيز عندليب الغناء العربي أفضل في رأيي من الاستمرار في عبارات الرثاء والاستغراق في نرجسية من يقومون بالرثاء.. والفكرة لا تزال موضع البحث _الكواكب_ تعرضها بدورها علي القاريء.. كيف تكرم فقيد الغناء العربي عبدالحليم حافظ.
الكواكب 1341 - 12 أبريل 1977