رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


سبع كلمات فى رثاء الأمهات

5-4-2017 | 10:11


بقلم –  حمدى رزق

قلبى مع صديق العمر «مجدى سبلة” الذى فقد أمه التى هى فى منزلة أمى، اللى من غير أم حاله يغم، واليتم الحقيقى يتم الأم، وتيتمت قبل عامين، سبحان من له الدوام، وكان يوما عصيبا ترك جرحا عميقا لم أبرأ منه حتى ساعته وتاريخه، ومثلى كثير يتألمون، ويعيشون على طيف الحبيبة، وطلتها البهية.

ليس كل الفقد، شتان، فقد الأم يحش الوسط، يفقدك طعم الحياة، تتمنى لحظات عبرت، أخشى أننى لم أشبع من حنان أمى، غادرتها باكرا فى شرخ الشباب، لكنها سكنت روحى وقلبى، ومن فضل الله علىّ عبده أنها مرضت مرضا قاسيا استلزم أن تعالج فى القاهرة، وعوضت كل الوحشة وائتنست بها أخيرا، شهر ونصف الشهر كاملة وأنا أجلس تحت قدميها كالقط البرى الذى وجد ضالته وسكنه وحبه الضائع فى لجة الأيام الباردة.

عادت بنا الأيام وأمى الحاجة رجاء تحكى عما جرى وما كان من الزمان، وكيف دارت بها الأيام، كانت تعيشنى وكنت أحياها، تتنفسنى وأتنفسها، كانت الأم والحبيبة والصديقة، وبيننا سبع كلمات، مثل الأسرار السبعة، لم يطلع عليها إنسي ولاجان، كانت تقرأ أفكارى مدفونة فى تلافيف عقلى، وكنت أترجم نظراتها إلى لغة منطوقة، بيننا لغة خاصة لا يفهمها إلا من كان عاشقا لأمه، والعاشقون فى حبهم مذاهب.

وفاة الحاجة فوزية نخلة العائلة الطيبة وقبلها بـ ٧٢ ساعة وفاة شقيقه رزق، عائلة الحبيب مجدى قطعت بى كثيرا، لأنها كانت عوضا عن كل الأمهات، لم يذكر اسم أم فى هذه الدار الطيبة كما ذكرت الكبيرة الحاجة فوزية، فرضت نفسها بحنانها وطيبتها وطلتها على الكل كليلة، كانت تذكرنى بأمى تمامًا، لماذا كل الأمهات طيبات، لماذا كل الأمهات يحملن أبناءهن كالقطط المغمضة عبر سبع جدران، تحميهم من غدر الزمان، وتبلسم جراحهم، وتلعق آلامهم، وتطبطب وتدلع، وتغنى بصوت ملائكى، كنت أصحو على صوت أمى تغرد، صباح الخير وأنا بصبح ياورد الجنانين فتح..

لم يكذب الصديق غالى محمد عندما كان يشاكس مجدى ويدعوه « ابن فوزية» ويضحك ملء شدقيه، ويناوشه الصديق عادل سعد بابن الأميرة فوزية ويفر من وجه مجدى، أيام الصبا والجمال، كنا نلهج باسمها حبا ورغبة حميمة فى الاستزادة، وكان مجدى ينتشى كلما سمع اسم الحاجة مقرونا بالأميرة، كانت أميرة فعلا، من الطيبة، ست أميرة، قلبها أوسع من دارها، لماذا كل الأمهات أميرات، لماذا كل هذا الألق الإنسانى الرائع، طلتهن من طلة الملائكة فى فجر يوم طيب مطرز بآيات الله المحكمات.

مثلى كان محبا لاسم أمه، عن مجدى أتحدث، وكان إخوتى اللطفاء فى دارنا العتيقة، يدعوننى ابن أمه، ويدارون غيرة بادية من انجذاب القمر إلى المجرة العظيمة، باعتبارى تجاوزا قمرا يدور فى فلك المجرة وهى أمى، لا أعرف حتى ساعته لماذا كانت تحبنى بزيادة، وتدلعنى إذا ما راق مزاجها واعتدل بحمادة، وكنت أناديها باسمها مجردا تدليلا، كان اسمها رجاء، وكنت أتمتم باسمها ثلاثيا رجاء من الله، ورجوت الله أن يرحم أم مجدى كما رجوته وأرجوه أن يرحم أمى، رحمة الله على الأمهات جميعا.

لم أرتبط بأى من أمهات رهط المصور الجميل مثلنا ارتبطت بهذه السيدة الدمياطية التى كانت فى كرم الصعايدة، كانت تشرف بنفسها على طعام زملاء الأستاذ مجدى إذا شدوا الرحال إلى كفر سعد، وتختار لنا أطايب الطعام، كانت فى جلستها على الباب، قبالة الترعة الصغيرة والأطفال تحبو بين يديها صورة تعجز عن وصفها أرق الأقلام، وتجاوز منطوق الكلام، وتترك فى القلب لمسة حانية، كنت أقبل الأيدى والرأس، وكانت تهم بالوقوف وأنا من يهم بحملها وأطوف، أتعرفون أننى حملت أمى كثيرا، كنت أكفر عن غيبتى الطويلة، وما أوفيت، يجزيها الله خيرا، يجزى الله الحاجة فوزية خيرا، أن أعادتنى لذكريات عبرت. 

بتّ ليلتها محزونا، أكلما غادرت أم إلى الجنان يبكى قلبى، وأغيب مجددا عن الوداع الأخير، ويبكيها الصديق سليمان عبد العظيم نيابة عنى وعنا جميعا، ويكتب بحبر القلب سطورا فى الفضاء الإلكترونى بلوعة ابن فقد أمه، لم أتعرف على ملامح أم سليمان، يقينا كانت سمراء مثل أمى، ولكن وجه أم مجدى كان أبيض من اللبن الحليب، وش الخير، تطل طيبة الأمهات من عينيها، سبحانه وتعالى وضع فى عيون الأمهات طيبة كما وضع فى عيون الجميلات حور، أذوب عشقا فى حور العيون، وأسقط صريعا فى طيبة العيون، العيون تفضح، والصب تفضحه عيونه، وعيون الأمهات آسرة أخاذة تختطفك من وعثاء الطريق، وتمنح سكينة واطمئنانا، كم نمت ملء الجفون على فخذ أمى، وهى تعبث فى شعرى قبل أن يتساقط لأن اليد التى كانت تمنحه إكسيرالبقاء، فى رحاب الله.

كانت بينى وبين أمى مكالمة يوميا لم تنقطع حتى النفس الأخير، كانت تطمئن قبل غروب الشمس، لكم كرهت القاهرة، كرهت النداهة التى اختطفت حبيبها من بين أحضانها، كنت أعوض الغياب فى الأعياد، ومرة كنت فى لندن يوم عيد أضحى، غبت فى مدينة الضباب، بحثت عنى، لم تجدنى، فحزنت فمرضت، وحدثتنى بصوت واهن، وأخبرتنى بأنها لن تحتفل بالعيد حتى أعود، بذلت جهدى فى العودة مبكرا وما قصرت، والله ماقصرت كما لم يقصر مجدى فى ود أمه، كان حريصا على البقاء هناك فى حضنها، وحتى باب القبر كان يربت على رأسها بحنان، يا أيتها النفس المطمئنة، استودعها أمانة فى رحاب المولى عز وجل.

من غير أم، صار يتيما، كلنا أيتام، نكبر فيتركوننا بغتة، ما لطعم الحياة تغير، يقينا تغير، أعرف ذلك جيدا، وقاسيت الأمرين طويلا معذبا بالفقد، يا لها من لحظات، أعادتها إلى روحى المعذبة وفاة أمى الحاجة فوزية، اللحظات الأخيرة، والوداع الأخير، ومواراة الجسد التراب، ويبقى عشق الروح ملوش آخر، أرواح الأمهات لا تنقطع عنا ولاتقطع بنا، تظل ترفرف كالحمام الأبيض من فوق رؤوسنا، وتهدل من الهديل فى آذاننا طربا، أرواح الأمهات تدلنا على الطريق، ومن رضيت عنه أمه لا يضام، ومن أكرمها لا يذل، ومجدى الذى لم ينقطع يوما عنها سيجد عوضا فى ذرية صالحة وزوجة طيبة هى أختى (ناهد) التى تسكن دمياط، رحلت الكبيرة بعد أن سكنت قلوبنا جميعا.