لواء. د. نصر سالم
ملخص ما نشر
تعرضت فى الحلقات السابقة لأحداث مثيرة فى تلك الليلة التى سبقت الحرب قبل الدفع إلى خلف خطوط العدو.. وكيف دارت بيننا نحن الضباط قادة المجموعات بعض الخواطر على سبيل المزاح.. والغريب أن كل هذه الخواطر حدثت بحذافيرها، فهذا فيصل يقع فى الأسر كما كان يمزح وهذا عبدالهادى ينال الشهادة كما ختم حديثه مع خطيبته فى تلك الليلة، وأنا أنال الترقية والنجمة العسكرية كما قلت وأنا أحاول إقصاء فيصل عن مزاحه، وقد وصلنا فى الليلة الأولى من الحرب إلى مواقعنا فى عمق العدو بعد أن واجهنا مواقف طارئة وحادة كادت تقضى علينا وتبدأ مجموعتى بإبلاغ أول بلاغ معلومات إلى القيادة عن لواء مدرع للعدو يستعد للتحرك إلى جبهة القتال على القناة، وتقوم قواتنا الجوية بتدمير عدد كبير من دبابات العدو وتمنعه من التحرك فى هذه الليلة، ويستعد اللواء للتحرك فى اليوم التالى بعد استعادة كفاءته واستكمال ماتم تدميره من دبابات.. وفى هذه الأثناء نلاحظ اندفاع الدبابات بأقصى سرعة لنزول الحفر والاحتماء بها فتصطدم بعض الدبابات ببعضها وتنفجر، وبينما تتعلق عيوننا بالسماء لنرى طائراتنا التى كنا نُلح فى وصولها، اكتشفنا أن الطائرات التى أرعبت العدو، هى طائراته التى كانت تمر من فوقه.
تمر الأيام والمجموعة مستمرة فى استطلاع العدو بينما ضربات قواتنا الجوية تشعرنا بالبهجة، كان طعامنا وشرابنا اليومى لا يتعدى جرامات معدودة من الطعام ومثلها من الماء، حتى نفد كل ما معنا بعد أكثر من عشرين يوما إلا من لتر مياه فقط، وتوجهنا القيادة بالتحرك إلى بئر على مسافة سبعين كيلومترا، نصل إليها بعد ثلاثة أيام من السير فنفاجأ باستحالة استخراج الماء منها وتأمرنا القيادة بالبحث عن إحدى المجموعات التى ضلت طريقها ولا يُعلم بمكانها، فنصل إليها بعد جهد كبير قررنا فيه أكثر من مرة تفجير مامعنا من قنابل فى أنفسنا وفى العدو حالة تعرضنا للأسر..
ونبدأ مرحلة أخرى من الإصرار والتحدى على البقاء فى عمق العدو حتى يتم إجلاء العدو منه وخاصة بعد أن علمنا بموقف الجيش الثالث وحصار مدينة السويس، ونحن فى المكان الذى يحقق اكتشاف ومتابعة أى قوات للعدو تحاول الوصول إلى قوات الجيش الثالث.. وتبارك القيادة ذلك وتأمر بضم كلتا المجموعتين تحت قيادتى.
بعد المحادثة الأخيرة مع المقدم /صلاح، والإشارة الخاصة بالترقية وقراءة الأحداث
مع تتبع الأخبار من المذياع الموجود معنا، قدرت أننا سوف نقضى فى هذا المكان مدة أطول قد تكون شهورا وليست أياما، وبناء على ذلك قمنا بتنظيم وتجهيز المكان بالشكل الذى يسمح لنا بقضاء الوقت بأقل قدر من الملل وأكبر قدر من الأمان والراحة فقمت باختيار مكانين للنوم أى مكان لكل مجموعة بالشكل الذى يحقق التعاون النيرانى بينهما فى حالة مهاجمة العدو لنا، وأيضا يمكننا من الحركة داخل الخور من وإلى كل منهما بطريقة مؤمنة ومخفية، وفى نفس الوقت تسمح بالتحرك العادى من الوضع واقفا دون الحاجة إلى الزحف أو الانحناء وتم اختيار مكان لنقطة الملاحظة، فى أحد الميول المطلة على محاور التحرك حولنا وتم تجهيز هذه الأماكن لتحقيق كل المطالب التى نحتاجها من راحة وإخفاء وستر وأمان، كما قمت بتخصيص المهمة على الأرض لكلتا المجموعتين للعمل كمجموعة واحدة وتم تلقينهم بكيفية التصرف فى المواقف المختلفة وكيفية التخلص من العدو وإخلاء المنطقة والانسحاب فى اتجاهات محددة وأسلوب وكيفية التقابل، وكذا نقاط المقابلة المنتظرة على الأرض.
كانت الأوامر قد صدرت لنا من القيادة أن نتستخدم الاسم الكودى لمجموعة الضابط/ محمد فى تحقيق الاتصال أو إبلاغ أى معلومات وأن يتم العمل كمجموعة واحدة تحت قيادتى، فنظمت العمل اليومى بالشكل الذى يعود علينا بالفائدة ولا يعرضنا للملل.
فجعلت خدمة المراقبة لفرد واحد فى نقطة المراقبة، أما فى منطقة الإيواء أسفل الخور فيتم قيام فردين معا بإدارة المولدات اليدوية لضمان استمرار شحن بطاريات الأجهزة اللاسلكية وإبلاغ المعلومات فى التوقيتات المحددة، أى أننا نحن الستة ننقسم إلى مجموعتين كل ثلاثة أفراد معا فى وقت واحد لمدة ست ساعات متصلة يتناوبون فيها بينهم ثم يخلدون للراحة لمدة ست ساعات كاملة وتقوم المجموعة الأخرى بدور الخدمة.
واجهتنا مشكلة بدأت فى أول الأمر بسيطة ولكنها كانت تزداد بمرور الوقت وهى أن الجبل الذى نختبئ بداخله مكون من الحجر الجيرى ولا تنبت فيه أى أعشاب أو شجيرات لكى نستخدمها فى إنضاج الطعام المكون من (قرص الملا) أو (اللبة) هكذا يسميه البدو وهو عبارة عن رغيف من الخبز السميك يتم إعداده بعجن قدر من الدقيق بالماء، مع إضافة قدر قليل جدا من الملح إلى ماء العجين ثم نقوم بإشعال الأعشاب الخضراء التى نحصل عليها من تقطيع الشجيرات الموجودة فى الوادى، وبعد أن تهدأ النيران المتأججة فى العشب تتم إزاحتها على أحد الأجناب ووضع (قرص الملا) فوق الرمال الساخنة وتغطية (القرص) مرة أخرى بالأعشاب المشتعلة حتى ينضج الخبز فيتم إخراجه من وسط النيران وتنظيفه من الرمال وتناوله طعاما شهيا.
وأثناء تناول هذا الطعام الشهى الذى لايزيد وزنه عن مائة جرام لكل فرد فى اليوم (نتناوله كوجبة إفطار بعد أذان المغرب) نضع إناء الشاى فى النار حتى ينضج فنتناول شربه بعد الإفطار ونحمد الله على ذلك حتى نفس الموعد من اليوم التالى.
ولكى نحصل على الأعشاب اللازمة كان لزاما علينا أن يخرج أحدنا كل يوم إلى الوادى، أى يسير مسافة لاتقل عن كيلو متر ذهابا وآخر إيابا كل يوم. الأمر الذى يجعلنا معرضين لكشف أمرنا بواسطة العدو أو أحد البدو الذين يتحركون فى المنطقة، إضافة إلى أن الحركة اليومية بدأت ترسم مدقا على الإرض يسهل الوصول إلينا من أى متتبع لنا حتى وإن كنا فى كل مرة نحاول التغلب على ذلك.
وحاولت البحث عن بديل فوجدت تلك الصناديق الفارغة التى تم تجميعها بواسطة العدو فى الخور المجاور لكى نوحى لمن يحاول دخول المكان بأن هناك أحدا موجودا داخل المكان، خاصة أن صناديق الذخيرة الفارغة هذه تم رصها فوق بعضها البعض على هيئة غرفة لها باب وشباك.. قررت نقل هذه الصناديق إلى الخور الذى نتواجد فيه واستخدامها كوقود بدلا من الأعشاب الجبلية.. وهكذا كنا نقوم بنقل عدد من الصناديق ليلا.. وكلما نفدت الكمية نقوم بإحضار كمية أخرى.
بقينا فى هذا الجبل لمدة شهرين على هذا الحال، مستمرين فى مراقبة العدو، ومن وقت لآخر تطلب القيادة معلومات عن منطقة أخرى تبعد عن المنطقة التى نتواجد فيها فنقوم بالتحرك إليها والحصول على المعلومات اللازمة ثم العودة مرة أخرى إلى نفس مكاننا وهكذا كنا نتناوب، مجموعتى مع مجموعة الضابط / محمد، ولم يكن من الممكن أن ننفصل مرة أخرى نظرا لوجود خريطة واحدة (الموجودة معى)، فكان المتحرك يأخذها معه والثابت يبقى بدون خريطة نظرا لمعرفة المكان وتحديده.
فى أحد الأيام من شهر ديسمبر ١٩٧٣، طلبت منى القيادة الحصول على أحدث المعلومات عن العدو فى منطقة تبعد عن منطقتنا بأكثر من خمسين كيلو مترا شرقا.. وبعد دراسة الموقف على الخريطة وجدت أن هذه المنطقة المطلوب استطلاعها، يلزم الوصول إليها التحرك لمسافة أربعين كيلو مترا فى أرض مفتوحة تماما أى مكشوفة ويصعب الاختفاء فيها، ثم الدخول فى منطقة جبلية والتحرك لمسافة عشرة إلى خمسة عشر كيلومترا للوصول إلى الموقع المحدد. وبعد دراسة الموقف مع الشيخ /سليم وطلب مشورته، عرض علىّ أن يأتى لى بأخيه الأصغر (سعد) ذى الثلاثين عاما والأكثر دراية بالمنطقة.. ليصحبنى فى هذه الرحلة إلى المنطقة المطلوبة والعودة بعد تنفيذ المهمة.
وفى مساء اليوم التالى حضر إلينا سعد ومعه جمله وزوادته من طعام وماء يكفينا أنا وهو لمدة الرحلة. وتركت رجالى الخمسة تحت قيادة الضابط/ محمد للاستمرار فى تنفيذ المهمة فى مكانهم وتحركت أنا وسعد ومعى تسليحى وجهاز اللاسلكى والخريطة والبوصلة ونظارة الميدان.. وطوال الرحلة كنا نتناوب ركوب الجمل الذى كنت أشعر أن السير على الأقدام أكثر راحة من ركوبه الذى كاد يشعرنى بحالة من الارتجاج فى المخ.
وبعد ساعات مضنية من ركوب الجمل تارة والركض خلفه تارة قطعنا المسافة فى الوادى المفتوح ودخلنا إلى المنطقة الجبلية، حيث حددت لسعد المكان المطلوب الوصول إليه بالجمل، ثم تسلق سلسلة جبلية على الأقدام لكى نقترب من الموقع المراد استطلاعه.
ولقد كان سعد على درجة من المهارة والدقة التى أوصلتنا إلى داخل الجبل فى وادى تحوطه القمم العالية التى جعلتنا نشعر بالأمان الذى كنا مفتقدينه طوال مدة السير فى الوادى المفتوح على جانب الطريق الرئيسى الذى يعج بالتحركات.
وشرعنا نجمع العشب ونشعل النار ونعد وجبة سريعة من قرص الملا، أخذنا فى تناولها ونعد الشاى ونحن نتجاذب أطراف الحديث فاسأل سعد عن آخر مرة جاء فيها إلى هذه المنطقة فيرد علىّ ببساطته المتناهية:
- منذ أكثر من عشرين سنة.
- لقد كنت طفلا.
- نعم كنت أرعى الغنمات فى هذا الوادى.
- وهذه السلسلة الجبلية التى سنصعدها ماذا عنها؟
- والله مأنى خابرها.. لكن مافى مشكلة.
وأشعر أن هذه مسئوليتى وهذا دورى ويكفى أنه أوصلنى إلى هذا المكان وعليه أن يتبعنى لا أن أتبعه وخاصة أنى درست الأرض جيدا على الخريطة وحددت طريق الاقتراب وهو السير فوق هذه السلسلة الصخرية من الشمال إلى الجنوب وبنهايتها يتواجد الموقع المقصود.
تركنا الجمل فى مكانه بعد تجريدة من شدته لأسباب أمنية، حتى يبدو كأى جمل شارد فى الجبل – وتقدمت أنا وسعد وصعدنا السلسلة الصخرية وتحركنا فى اتجاه الموقع فى ظلام دامس طوال الوقت، نحاول أن نقطع تلك السلسلة قبل أول ضوء حتى لاينكشف أمرنا، خاصة أننا نتحرك فوق القمة أى على (خط السماء) الذى يساعد على ظهورنا للعدو.. ولم أفكر فى النظر فى الساعة أو معرفة الوقت لأنى لا أكاد أبصر من شدة الظلام وهذا يعطى اطمئنانًا أكثر بأنه مازال هناك وقت طويل حتى يظهر أول ضوء ثم تشرق الشمس بعده، وكثيرا ماحدثتنى نفسى وأنا أسير فوق الجبل عن هذه الليلة المباركة الطويلة التى لاتريد أن تنتهى قبل أن نصل إلى هدفنا.. ولكن هذا الإحساس المتفائل والشعور الصوفى الروحانى بأننا أصبحنا من أهل الخطوة.. ضاع فجأة وأنا أجدنى على حافة السلسلة الصخرية وأمامى جرف حاد وتحتى مباشرة معسكر للعدو تتحرك فيه جنوده ذهابا وإيابا، وفوقنا الشمس ساطعة كأنها فى كبد السماء وأتحسس الساعة فى معصمى وأنظر إليها، فإذا هى الثامنة صباحا (أى بعد الشروق بساعتين) وأتلفت حولى فإذا بسحابة داكنة اللون خلفنا، تلك التى كنا نسير بداخلها طوال الفترة السابقة، وكانت تحجب عنا تماما ضوء الشمس فلم نشعر بها حتى انقشعت فجأة وانتهت فى نفس التوقيت الذى وصلنا فيه إلى الحافة.. وأنظر إلى معسكر العدو الذى أتواجد بداخله، حيث يحيط بالجزء الذى أقف فوقه من اللسان الصخرى، والجنود حولى من كل مكان أنظر إليهم بالعين المجردة وهم ينظرون نحوى، غير آبهين.. وفكرت فى الرقود والاختفاء ولكن المكان كان عبارة عن صخرة من الجرانيت الأملس تظهرنا تماما فوقها حتى ونحن رقود وأخذت أقدر الموقف سريعا فوجدت أن أقل وقت يحتاجه العدو للصعود إلينا هو ٢٠:١٥ دقيقة، رأيت أنها كافية لحصر جميع المعلومات عن الموقف وإبلاغها قبل وصول العدو إلينا.. وتذكرت قول الشاعر «إذا لم يكن الموت بد فمن العار أن تموت جبانا» وأخذت أحصى أعداد الدبابات والمعدات والأفراد فى المعسكر.. من الوضع جالسا فوق الصخرة.. ثم أعددت الجهاز اللاسلكى وقمت بإبلاغ المعلومات كاملة غير منقوصة ولم يخطر ببالى قط أن أذكر للقيادة شيئا عن الظرف الذى أنا فيه.